غزة تنتصر بصبرها – كامل الدليمي
ها هي الحرب تضع أوزارها، وتعود غزة، بجراحها وركامها، لتعلن أنَّ أبهى مقولات الصمود البشري لم تزل حية في صدور أهلها. ما شهده القطاع من ثبات مدهش أمام آلةٍ هائلة من القصف والدمار بات مادةً للتأمل: ليس الفخر في عدد المعارك، بل في قدرة الإنسان على الثبات والحفاظ على إنسانيته وسط الأكثر قسوة.
اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى الذي تمّ التفاوض عليه بمساندة دولية أعاد لذوي الأسرى حلاوة اللقاء ولو مرحليًا، وفتح بابًا أمام عودة معابرٍ حيوية وتدفّق مساعداتٍ عاجلة إلى القطاع. لكنّ هذه الحلاوة لا تُعدّ نصراً نهائيًا، بل خطوة أولى على طريق طويل لإعادة بناء ما تهدّم وإعادة بناء ثقةٍ مهترئة
تجمع قادة العالم في شرم الشيخ لحظة دولية محورية: حضور زعماء من قارات مختلفة يعكس إدراكًا بأن الحلّ لا يقتصر على وقف نار فحسب، بل يحتاج إلى آليات ضامنة لعودة الحياة والكرامة للسكان وإلى خطةٍ دولية لإعادة الإعمار ومحاسبة المسؤولين عن الدمار. هذه اللحظة تمثل فرصةً لاختزال معاناة الناس في خطوات عملية إغاثة، إسكان طارئ، خدمات صحية وتعليمية—بدلاً من بياناتٍ تتلاشى مع مرور الوقت.
أما عن معنى النصر الحقيقي لغزة، فلا يقاس بالأرقام أو بالخطابات، بل بما تتركه التجربة من قدرة على الصمود المستمرّ، ومن إرادةٍ لتربية أجيالٍ لا تنسحق أمام القهر ، غزة كانت وستبقى مدرسةً في الصبر والعمل الجماعي ، أمهاتٌ تخلّفن عنقود العطاء، شبّان استنهضت فيهم التجربة رغبةً في النهوض لا في الاستسلام، ومجتمعٌ يعيد ترتيب أولوياته نحو البقاء والكرامة. لكن هذه القوة الذاتية لا تغني عن مسؤولية المجتمع الدولي والدول المجاورة في توفير حمايةٍ حقيقية وفرص إعادة إعمار عادلة.
الحديث عن الانتصار دون مقاييس عدالة يعيد إنتاج الجروح، والحديث عن المصالحة دون ضمانات أمنية وإنسانية يترك فجواتٍ يعاد استثمارها في العنف لاحقًا. لذلك، فإنّ الصفقة الحالية ولقاء القادة يجب أن يتحولا إلى خارطة طريق واضحة: آليات محاسبة، دعم متواصل لإعادة الإعمار، برامج نفسية واجتماعية للناجين، وتعهدات ملموسة لإعادة فتح المعابر وتأمين الغذاء والدواء.
في الختام، غزة التي صمدت ليس أمام آلةٍ عسكرية فقط، بل أمام محاولات طمس إنسانيتها، تستحق من العالم أكثر من إشادةٍ كلامية: تستحق خطةً إنسانية طويلة الأمد تحفظ كرامتها وتعيد لها مستقبلها وهكذا يصبح نصرها الحقيقي ليس فقط في نهاية حربٍ، بل في بداية حياةٍ معاد بناؤها على أسسٍ من العدل والاحترام والإنسانية .