عودة للتقاليد الأكاديمية – علي الشكري
يقيناً أن التعليم بدرجاته ومراحله أحد أبرز معايير تطور الدولة ، فلا حديث عن دولة متطورة مدنية والتعليم فيها متخلف تقليدي متراجع ، وبالقطع أن حديثاً لا يدور عن دولة مُهابة والتعليم فيها مهان مهمل ، فالتلازم حتمي بين المدنية وأولوية الاهتمام بالتعليم والحداثة ودرجة التطور ، من هنا سعت الدول الاكثر تطوراً الى تخصيص الموازنات ، واعداد الكوادر ، وتشييد الحواضن ، واستقطاب الخبرات ، واقتناء الجديد ، وملاحقة المستجد ، والتمسك بالتقاليد ، والتزام الأنظمة والتعليمات وما تنص عليه التشريعات . في وطني وضع الآباء المؤسسون للدولة العراقية المعاصرة ومنذ عشرينيات القرن المنصرم ، أسس بناء عراق قوي مدني يجمع بين الاصالة والحداثة ، وكان خط شروعهم التعليم بدرجاته ، فخصصوا له الموازنات ، ووضعوا له الاليات ، واطلعوا على التجارب ، ومازجوا بين النظم ، مراعين الخصوصية والخلفية والتقاليد والحاجة ، فكانت الحصيلة تعليم يلامس الحاجة ويحاكي العصر ويلبي المستلزم ، وكانت أولويتهم البشر ثم الحجر والمنهج ، فلم يكن ليلج المؤسسة إلا من جمع بين السمعة الحسنة والاعداد المهني ، فالمُلقي مؤتمن والمتلقي منحني طائعاً ممتن ، ويقيناً أدرك المؤسس أن بشراً دون حجر ومنهج كساعٍ الى الهيجاء بغير سلاح ، فكانت الأبنية المدرسية والجامعية العراقية هي الاكثر تطوراً ومسايرة وحداثة ، إذ رُصدت لها الأموال ، وأُفردت لها الاهتمامات ، وتصدرت قائمة الأولويات . ولم يكن ليضع مفردات المناهج الا من جمع بين الخبرة والمؤهل الأعلى ، لا من انتمى الى الحزب أو الكيان ، وإن لاحقت السلامة الفكرية واضعوا المناهج ، لكن التاريخ لم يُسجل على مفردات ومحتويات المناهج العراقية السابقة ، خطأ أو خللاً أو شططاً . التقويم الدراسي مقدس ، وخط الشروع محترم ، وممر العبور مراعى ، ومحطة التوقف بقصد الاستراحة غير مسموح التجاوز عليها . الزي المدرسي والجامعي مدروس محترم متبع لا حيدة عنه ، لا بقصد تقييد الحرية وتكبيل الرغبة ومس قدرة الميسور ، ولكن بغاية اضفاء القدسية ، والايحاء بالمساواة ، والرغبة بازالة الفوارق الفردية في أروقة المؤسسة التربوية ، والملاحقة والمنع والصد والطرد جزاء من خالف وتجاوز . وبعد تأسيس وتشييد ، وتقدم وتطور ، وإرساء وبناء ، تهاوت المؤسسة التعليمية بمخطط ممنهج ، وتخطيط وتدبير ، وانفاق وتمكين ، ورسم وتدبير ، مذ فُرض الحظر الاقتصادي الاممي الاقسى في التاريخ على الشعب العراقي ، مطلع العقد الاخير من القرن العشرين .
مصدر استقلالية
فكانت المؤسسة التعليمية بدرجاتها هي المستهدف الاول ، فلا عراق عليل مريض متعكز على الاخرين ، ومؤسساته التعليمية والتربوية تنبض بالحياة وتدب فيها الروح ، من هنا استُهدف المعلم بمصدر استقلاليته ، فبعد عز وقدرة ومكنة ، افترش الارض بقصد توفير مستلزم الاسرة ، ومن لم يجد ما يفترش به الارض امتدت يده الى الرشا ، فانهار المثل ، وسقط النموذج ، وتداعى الدليل الذي يُهتدى به ، تبع ذلك مبنً مندثر ، ومنهج قديم مستخدم ، ومستلزمات دراسية محتضرة ، فكانت الحصيلة تدمير منظومة ، وتنخر أس وأنهيار ركن وركيزة ومشيد . ويحدثونك عن أنهيار الكبير بعد التغيير ، متجاهلين ما فعلت النظم الشمولية ، وما خلفت الديكتاتوريات الفردية ، وما أورثت الاحزاب الواحدية ، نعم كان المأمول التطوير بعد التغيير ، والتعويض بعد الاستهداف ، والنهضة بعد الانتكاسة ، لكن اللافت أن الوزارات التربوية تقاسمتها الأروقة الحزبية ، والدوائر التأسيسية وزعتها الاقطاعيات المحلية ، على أساس النائب والفائز وممثل الحزب في الادارة المحلية ، وراحت الموازنات التشيدية ، والمخصصات التطويرية والاموال التشغيلية متاحة للاستحواذ الشخصي والحزبي بدل عن توجيهها لابوابها ، والجميع وإن علا أو نزل يعبث دون رقيب ولا حسيب . ويقيناً أن منظومة تربوية يعتلي سدتها فاشل ، ومؤسسة يقودها مزور ، ومنهج يضع مفرداته من لا يميز بين المصطلحات ، لا يُرجى منها بناء نشء ، وتخريج قائد ، وإعداد رائد ، وتقديم مبتكر . على كل من حمل العراق هماً من اصحاب القرار ، و اتخذوا منه موطن وملاذ وملتجأ ودار قرار ورقود ، الانتفاض على الواقع ، ومواجهة السلبيات ، وتحدي العقبات ، ومصارحة الشركاء ، أن لا مدنية دون مؤسسة تعليمية رصينة ، ولا تأسيس دون بشر قادر على حمل الامانة ، ولا تشييد دون موازنات تغطي المستجد وتتبنى الحديث وتلاحق المتغير ، وسعيد من استقرأ التجارب فاستلهم منها ، ووقف على تاريخه وأتعض به ، وتيقن من خطئه وأقر به ، وتبين شططه فتجاوزه ، فليس الإشكال كله في الزلل والفشل والاخفاق ، لكن المقتل في تبينه والاصرار عليه ، واكتشافه والمضي به ، فقد سقطت بلدان ، وتفككت امبراطوريات ، واندثرت حاضرات ، وزالت مدنيات ، لاخفاق القائمين على شأن مؤسساتها التربوية، وتمكين الفاسدين من إدارة تخصيصاتها ، وإشراك غير المختصين في تحديد خارطة بناءاتها ، فالعراق ولود برجالاته ، خبير بكفاءته ، غني بأرثه ، ثري بوارداته ، قادر على تجاوز اخفاقاته ، يمرض وغيره يموت .