عمر أخر للإنسان – طالب سعدون

نبض القلم

عمر أخر للإنسان – طالب سعدون

هل  يمكن أن يعيش الانسان بعمرين  ..؟

نعم … وتلك حالة إستثنائية ، لا تتوفر لعامة الناس ، بل  تقترن بالعظماء عادة ، وهو عنوان تميزهم عن الاخرين ..

وفي هذا المعنى يقول الامام الشافعي :

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم

                   وعاش قوم وهم بالناس أموات

هذا هو حال الناس الاستثنائيين ، الذين يصنعون التاريخ ، وتكون لـــهم (بصمة) خاصة في الحياة على إتساعها ، وتباعد مساحاتها الجغرافية ، وتنوع مجالات الابداع  فيها ، منهم أصحاب رسالات ، ومصلحون ، وأخرون لهم إسهامات وإبتكارات  ، كان لها تأثيرها في البشرية عامة …  ذللوا الصعاب ،  وقهروا المستحيل ، وكان لهم الفضل في أن يحيا الانسان براحة ، وتسير الحياة  بسهولة ، ، وتصل الى ما وصلت اليه  من تقدم وحضارة ، وضعوا لبناتها الاساسية ، وتضيف لها  الاجيال  اللاحقة إبداعاتها  التي تؤكد دورها وهويتها وطبيعة عصرها وحاجاتها  … ومنهم من كانت لهم صولات وجولات و فتوحات وحروب ، وإنتصارات غيرت مجرى التاريخ ..

 فكم من العظماء في المجالات  المختلفة ، السياسية والفكرية والروحية والابداعية بكل أنواعها ماتوا قبل الاف السنين ، ولكنهم لا يزالون أحياء خالدين في الذكر والذاكرة ، وقوة التأثير ، وفي السير على هدي مناهجهم .. فهم أحياء ، وإن دفنت اجسادهم في الثرى  .. ولم يغيّب الموت منهم سوى الجسد  الذي عاد الى أصله  ، وإختلط  بأمه الارض من جديد  .. وهي الاساس وهذا هو عمرهم الاول ..

أما ذكراهم  المستمرة فوق الارض بعد ( اندثار العنصر الترابي ) ، فهي تشكل عمرهم الثاني ، وهو الذي يعمر أكثر من الاول ، ويجعل الانسان حيا  ما دامت هناك حياة على كوكبنا …

وهذه الحقيقة  برزت أمامي وأنا اطالع  بعض ما كتب عن الرئيس جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله في 28/ ايلول/  1970 ، وزخم ما صدر عنه  من كتب ودراسات  وبحوث ومقالات  وشهادات يصعب حصرها … فقد مضى  على رحيله ما يقرب من نصف قرن  ، وهي مدة تقترب من سنوات عمره الاول حيث عاش اثنين وخمسين عاما .. ومع ذلك لا يزال منهجه ومبادؤه وأفكاره ومواقفه حاضرة ، وستبقى ، ولم تغب ، وهي تشكل عمره الثاني  المستمر الذي يمنحه الخلود في الذكر على الارض .

ولخض أمير الشعراء أحمد شوقي هذه الحقيقة بشطر من بيت شعري مضمونه ( والذكر للانسان عمر ثاني ) …

رحل عبد الناصر في الثامن والعشرين من أيلول عام 1970  لكنه لا يزال حيا في ذاكرة الاجيال على تعاقبها ، وحاضرا في تأثيره ، يثير جدلا ، وحراكا شعبيا وسياسيا ضخما ، ليس على مستوى بلاده فقط ، وإنما على مستوى الامة والانسانية ، وكم من الشخصيات السياسية وألاحزاب والحركات سارت على خطاه ، واتخذت من إسمه عنوانا لها ، ومن مدرسته برنامجا سياسيا تسعى الى تطبيقه علها تكمل ما بدأه لإيمانها بضرورته .. كما لا يزال وسيبقى موضع اهتمام الباحثين والسياسيين والدارسين ، وإن كانوا موزعين  بين مؤيد ومخالف ، وتلك مسألة طبيعية …فالانسان يخطيء ويصيب ، لكن هناك حقيقة يدركها الجميع ، وهي العلاقة الصميمة بينه وبين الشعب ،  وهذا ما لا يختلفون عليه ، وتتمثل بالحب للرمز، وقوة الشخصية وسحر الجاذبية وقدرة التأثير في الاخرين (الكاريزما) والبطولة و التضحية وتلك صفات تجعل الشعب  يتعلق به ويجد نفسه  واحلامه  ومستقبله فيه …وقد مكنه هذا الرصيد الجماهيري من  تجاوز الصعاب والتحديات .. وقد  ظهر ذلك جليا في  كل الحروب التي خاضها ومنها حرب الاستزاف وتهيئة مستلزمات النصر الذي تحقق في اكتوبر ، وفي قراره بتأميم قناة السويس وفي بناء السد العالي  الذي وصف في حينه بأنه  أعظم مشروع في القرن العشرين ، والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها من الانجازات الرائعة في الزراعة والصناعة و التربية ومجانية  التعليم  والصحة والسياحة والثقافة والفنون التي تشكل قوة مصر الناعمة .

 ومن  بين ابرز المواقف الجماهيرية  التي تجسد تلك العلاقة خروج الملايين  للتعبير عن رفض  قرار التنحي  وعدم التخلي عنه في الهزيمة  ، وألاصرار على مواصلة المسيرة معه  حتى تحقيق النصر ، و نزولها   بعفوية الى الشوارع بعد أن أعلن السادات من على شاشة التلفزيون  نبأ وفاته  للتعبير عن حزنها لفقدها هذا  الرمز العزيزعليها  ..

وفي كل الاحوال  يبقى الحديث عن عبد الناصر في مناسبة أو بدونها له نكهة خاصة ، لانه يقترن بالزمن الجميل للامة  وعناوين البطولة والتضحية والشجاعة والاصرارعلى انتزاع الحق مهما بلغت التضحيات ، ( فما اُخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة ) وذلك هو  القانون الطبيعي لمن يريد ان يحافظ على سيادة بلاده وكرامتها  ويدحر تكالب الاعداء عليها …

وتلك هي قيمة  الرجال الذين يصنـــــــعون التاريخ في حيــــــاة  الامم والشعوب ، في أن يكــــــونوا إنموذجا في التضحية والـــــعطاء ونكران الذات والاخلاص وفي العلاقة الانسانية  الصميـــــمة مع الشعب  التـــي تقــــوم على المحبة والتـــــفاني في سبيل الوطــــــن والمواطن  ، ولذلك يبقون خالدين في ذاكرة الاوطان  على مر الاجيال… وتلك هي اعمارهم الثانية التي يخلدها التاريخ ..

وما أحوج الامة اليوم الى قادة  عظام  استثنائيين ، وليس حكاما ، أو رؤساء بعناوين وظيفية ..

 { { { {

كلام مفيد :

ما أبشـــــع أن تكــــون ضعيــــفا في هــــذه الدنـــيا .. ( الكاتـــب الروسي انطون شيخوف ..) ..