عشتار تغادر أرض العرب
جواد عامر
في ساحة خالية عند المغيب ، جلس كعادته فوق صخرة يمتص أنداء الليل المتساقطة حبات بلورية في ذلك المساء الشتوي البارد ، يرسل الطرف متأملا أفقا متلونا ككثير من التاس ، يجتر أفكاره التي لا تنتهي أسئلتها من صندوق عقله ويعيد تركيبها من جديد ليصنع منها شيئا يمنحها ماهية ، على الأقل فالأفكارتحظى بحظ وافرحين تجد من يخرجها من علبتها لتتنفس الهواء ، لم يكن تموز كما يحلو له أن يسمي نفسه معجبا بما حوله من الاشياء ، حتى الصخرة التي يتخذها مقعدا وهبته الطبيعة إياه يرى فيها صورة سيزيف ظلا يتهادى أمامه في لحظة اختلاط أول الليل بلون الشفق ، هو بين الحياة والموت يركب أرجوحته وحده ..
يقبض بكفه على حفنة من تراب ثم يخلي سبيلها كخيط بين رجليه فتكومت ركاما صغيرا يخفي داخلة كتابا من الأحزان ، خيوط الظلام تغرق في جوفه ، تنحدر أولى دمعاته مع إغطاشة الليل ، يخرج ورقة وقلما من جيب سترته الصفراء ، ويأخذ في كتابة سطور جديدة يعرف طريقها في ظلمة الليل، مع كل قطرة تتفتق تلك الأحاسيس الهائمة ، تنهد ورفع رأسه نحو السماء ..، آه أين أنت يا عشتار؟ أتراك نزلت بدوني إلى العالم السفلي ؟ ، لقد حان دوري لأنزل كما صنعت من قبل عزيزتي .. ،
لم يتمالك تموز نفسه وأخذ في الانتحاب ، اصداؤه تتردد في المكان ، ودموعه تبلل حفنة التراب ، سنبلة تمد قامة مشوقة في العلاء ، مسحت بهامها على صدره وكفكفت دموعه ، وقالت بنبرة حزينة: عشتار غادرت أرض العرب قالتها واختفت داخل حفنة التراب .
سقف واحد
نظر إلى الحفنة مدهوشا وقد دب اليأس إلى قلبه فهو لايطيق ان تغادره عشتار بعدما عاشا سعيدين تت سقف واحد ، انتفض من مكانه ونثر الحفنة بقدمه حنقا ، دحرج الصخرة في منحدر قريب ، نظر إليها وهي تتهاوى إلى وهدة ، فكر قليلا ورفع صوته بالضحك : يالي من غبي ، علي أن أعيد الصخرة إلى مكانها مثل سيزيف تكفيرا عن الخطيئة ، مضى خبط عشواء يتحسس المكان ويستذكر صوت السقوط ، عثر على صخرته ، حملها بمشقة وأخذ يبكي ، جلس من جديد فوق كرسيه الصخري ، وأخرج ورقته وقلمه من جديد ،وفكر كثيرا ثم كتب كلماته التالية: إلى عشتار التي غادرت أرض العرب ، أنا حبيبك تموز جئت أبحث عنك بين خيوط الظلام فلم أظفر إلا بحمل صخرتي ، أنا أعلم يقينا أن مغادرتك كانت قسرا فحتى السنبلة لم تطق البقاء ، كل شيء هنا يدعو لمغادرة المكان ، فلتعلمي يا حبيبتي أني لن اظل تموز الذي عرفت منذ عقود سأرتدي جلد السندباد وأرحل بعيدا بحثا عنك يا عشتار.
طرق يقرع جدار قلبه أحس فيه يدا ناعمة تخترق جلده ، إنها الجدة توقظ صبيا كبر في حلمه كان متوسدا فخدها وهي تحكي له حكاية السندباد البحري ، يفتح عينيه على ضوء قنديل خافت فيه بعض معاني الضوء لا الضوء كله فقالت الجدة والبسمة تعلو محياها : لقد كنت تردد في منامك أسماء الأساطير التي حكيتها لك هذا الأسبوع يا سندبادي الصغير.
نظر الصبي إلى وجه الجدة كأنه يراه لأول مرة ثم انصرف نحو غرفته وهو يردد : عشتار غادرت أرض العرب وتموز سيلحق بها يا جدتي.