تراجيديا مدينة.. راويان وآليتان (2-2)
طقوس السرد الصوري – نصوص – ليث الصندوق
وللسرد الصوري الذي يمارسه ناصر الجبلاوي تقنيات ومهارات واستعدادات وطقوس ، فناصر يتعامل مع كاميرته ، ومع المادة المصورة معاً بحرفية وفرتها له مرحلة التعلم والمران العملي والممارسة العملية والميدانية ، وبذائقة شفافة وحساسية مرهفة تولدان عادة مع الموهوبين ، وتنموان وتتطوران فيما بعد بالدربة والمران ، ولا تُكتسبان بالدرس لمن يفتقدهما أصلاً . فكل صورة له مرتبطة بسياقها ، ومنه تكتسب طقوس التقاطها الخاصة وأبعادها ، بل وحتى رموزها الخفية . فالصور الفوتوغرافية التي التقطها للسجناء السياسيين الذين نقلهم الإنقلابيون عام 1963 بقطار الموت من بغداد إلى السماوة أشبه بشريط سينمائي ناطق وضع وفق سيناريو صارم فلم تفت كاتبه ومخرجه كل حركة وكل لقطة ( عدسة ناصر الجبلاوي تتوجه حالما يدخل من باب المحطة ، ويجتاز فناءها ، ثم يخرج إلى الرصيف ، فتصور عربات حديدية مشرعة الأبواب . ص 20 ) ثم تتوجه العدسة لتصوير السجناء العسكريين برتبهم التي تتراوح ما بين المقدم والجندي ، والسجناء المدنيين ببدلاتهم الأنيقة التي لوثتها زيوت وأتربة عربة القطار ، ويختار ناصر الجبلاوي مشاهد معينة تجسد التضامن الإنساني لأهل المدينة مع الركاب / السجناء فيمنحها عناية استثنائية عبر عنها باللقطة من موضع الزوم (عدسة الكاميرا توجهت لأكثر المتحمسين لأطعام وإرواء الجائعين والعطاش من السجناء ، فانصبت بحالة الزوم على وجوه عديدة من شباب المدينة يطعمونهم ، ويسقونهم ، ويُسمعونهم كلمات تثمين وحماسة وإكبار ص /20 . وبالرغم من أن ناصر ما زال يتذكر ملاحظات أستاذه صاحب الستوديو الأهلي في بغداد بأن (اللقطة البارعة ، والصورة المتميزة هي ما تأتي خارج الإستعداد والتهيؤ والتحضير . ص /(161 إلا أن استعداداته لاضاءة المناسبات صورياً كانت تتناسب مع عظم المناسبة ، فضمن طقوس الاستعداد لاستقبال إحتفالات ذكرى عيد العمال العالمي بدأ ناصر أولاً بتأمين إحتياجات التصوير التقنية ، ومن ثمّ استطلاع المواقع التي ستتحرك فيها التظاهرة من أجل تحديد مواقع تحرك الكاميرا وتحديد الزاوية المناسبة لكل لقطة ( … وضع فيلماً بست وثلاثين صورة ، وقبل يوم أستطلع أماكن ستخترقها التظاهرة يحسبها ستراتيجية ، أماكن سيعتليها ليلتقط ما يؤرخ للمدينة ص /99 ) أما التقاط صورة لشاب مثقف مثل يوسف فهي تحتاج إلى تخطيط واستعداد مسبقين يتناسبان مع شخصية صاحب الصورة ويضمنان كمالها بذاتها ، ومن أجل ذلك فعليه تضمينها رموزاً تقليدية وشائعة يسهل التقاطها وفهمها ، هكذا خطط ناصر واستعدّ لالتقاط صورة استثنائية لشاب إستثنائي يتداخل فيها رمز الكتاب ، ثم موقع الكتاب على مقربة من الصدر ، والصدر في الفكر الشعبي مستودع الحكمة ، مع وجه مرتفع ومستدير دلالة على السمو والرخاء ( اللقطة تكون هكذا : أرفع يده حاملة الكتاب ، وأجعلها على صدره كما لو أنه يحتضنه ، ثم أرفع وجهه المستدير وأدعوه للنظر إلى الحافة السفلى لدعاية الكوكاكولا المتدلية من مظلة مقهى قاسم . ص / 56 ) وستمر على هذا النص ثلاثين صفحة ليكشف لنا الراوي النصي بأن الكتاب الذي كان يحمله يوسف في الصورة الفوتوغرافية هو مقدمة إبن خلدون ، ولعل ظهور صفحة غلاف الكتاب بعنوانها المميز على صورة فوتوغرافية ليوسف معلقة في واجهة زجاجية لستوديو ناصر الجبلاوي هي رسالة ، ولكن هذه المرة ليس لناصر علم بها ، إنها رسالة سرية تحمل سرها في إعلانها ، وهي غير موجهة لكل من يمرّ بواجهة الستوديو ويراها ، بل هي موجهة إلى شخصية بعينها ، وهي شميران الفتاة المسيحية المثقفة والطالبة الجامعية التي كانت قد كلفت يوسف بإعادة كتاب المقدمة إلى المكتبة المركزية التي كانت قد استعارته منها (ص /.(82 والصورة الفوتوغرافية ليست مجرد لوحة صامتة باللونين الأبيض والأسود ، بل هي لوحة ناطقة بصوت مسموع يلتقطه ناصر ويوصله إلى الراوي النصي عندما يستحوذ في حالات معينة على قدرات الراوي العليم . وعن هذه الآلية إنتقل إلى المروي لهم صوت مأساو من صورة تاريخية كان إلتقطها ناصر حين ذهب لمحطة القطار لالتقاط صور لركاب قطار الموت بعد تحول الصوت / الصورة إلى ملفوظ نصي – وقد سبقت الإشارة إلى تلك الحادثة – حيث اختار من بين كل الحالات المأساوية حالة سجين مصاب بالربو يحاول زميله جاهداً إسعافه ( تستقر العدسة على مشهد رجل ممدد على الأرض ، يرتفع صدره وينخفض ، وشخص يحتضنه ، ويضع رأسه على فخذه ويردد جزعاً : ماذا أفعل لك يا أخي ، لعن الله الربو . ص / (21 وفي نموذج آخر تنقل الصورة صوت بائع الرقي محمد وراش ، بل إن الصورة نجحت في متابعة ترددات الصوت وهو ينتشر ويملأ فناء السوق ( صوّر محمد وراش يطعن الرقيّة الموصلية بسكين لامعة النصل ، ويرفع شيفاً أحمر يقطر سائلاً خضلاً ، هاتفاً بصوت جهوري يملأ فناء السوق المسقف : أحمر دم الركّي ص / ( 69 . والطريف أن صور ناصر للشباب المأخوذين بصرعات الملابس الوافدة تمكنت حتى من التقاط الصوت المنغم المميز لأحذيتهم وهي تصعد وتنزل على اسفلت الطريق ( ص /70 ).
شخصيات مستبدلة ومستعادة :
سبق التلميح إلى أن الشخصيات التي يبدو من قلة ظهورها أن دورها ثانوي أو هامشي ، وأن هامشيته توحي بأن اختفاءها بعد ظهورها الأول هو اختفاء قطعي ، لكنها سرعان ما تفاجئنا بظهورها ثانية لتكمل دورها الأول ، أو لتستبدله بدور آخر غير متوقع ، ولعل أطرف شخصية أدت دوراً مستبدلاً أو متحولاً هو المكوجي فرهود الذي يؤدي دوره من خلال مهنته التقليدية في مجتمع تقليدي ، وما أكثر من يمارسون هذه المهن في الرواية ، ولكن فرهود يتجاوز الدور المحدد له ضمن إطار مهنته بتطفله على علاقة الحب ما بين يوسف وشميران والتي أبدعها وأنضجها خيال يوسف الجامح إلى الحد الذي صار يتخيل نفسه مع حبيبته يجاهران بها علناً على مرآى من الناس في مجتمع مغلق وتقليدي لا يسمح بأية علاقة ما بين الجنسين ، ولعل مضي الخيال بالعلاقة إلى أقصاها مظهر من مظاهر التمرد في أضعف مراحله على إنغلاق المجتمع ، وقد أغضب العاشقين تطفل فرهود ( هو يقول : يا لهذا الحشري البائس لا أحد يسلم من عين فضوله ، وهي تقول : كم أبغض دناءة المتطفلين ص/86) . وظل المكوجي يضايقهما بتطفله الذي لم يتجاوز حدود النظرات حتى أوشكت أن تحين ساعة العقاب ، وكاد يوسف ( أن يندفع إليه ليشبعه ضرباً ص89). ولكن عقاب فرهود لم يأتِ من يوسف ، بل من أقرب الناس لفرهود ، زوجته ، بالرغم من إنه عقاب لا علاقة له بتطفله على العاشقين ، فقد كان تعنيفها له على بوار مهنته التي لا تُقيتُ عائلته ، إلا أن الراوي النصي – وهو في هذا الحيز من الرواية راوٍ عليم – قد انتقم بهذا التعنيف للعاشقين ، وكفى يوسف شرّ القتال . كل تلك اللقاءات الحميمية وما تمخض عنها من صراعات وصراعات مضادة لم تكن سوى أضغاث أحلام عاشها يوسف بخيال جامح ومقموع في حب من طرف واحد ، وما تطفل فرهود إلا جزء من مشهد حب تقليدي ممسرح لا يكتمل إلا بوجود معارضين وشامتين وحُسّاد في مجتمع مغلق ومقموع يجيد صناعة الأعداء والحاسدين مثل إجادته لصناعة قصص الحب . هذه الانتقالة لفرهود من دور المكوجي إلى دور المتطفل مرتبطة بأحلام يقظة يوسف ، فهو قد اختار فرهود من بين كل أهل المدينة ليزيحه عن دوره ، ثم يعيد صبّه في الدور الذي يتطلبه مشهد أية قصة حب عذرية . وعندما يغادر يوسف أحلام يقظته مستعيداً كامل وعيه يعود فرهود إلى دوره الطبيعي ( إنتبه – يوسف – إلى أنه عبر الجسر ، وسلك الدرب المفضي للبيت ، كان فرهود المكوجي جالساً على كرسي في مقدمة دكانه ، لم يكن الرجل ينظر إليه بفضول ، ولم يكن في الواقع حشرياً ، ألقى يوسف عليه التحية فتلقى أحسن منها ص/95). أما يوسف ، فقد مرّ دوره في مراحل تطورية عديدة ، أو هكذا أوحت مرويته بعد خضوعها لعمليات قطع وربط متباعدة ، فقد ابتدأت في الفصل الأول بقصة حبه الوهمية لشميران ، وانتهت بمقتل والده ، وإلقاء القبض عليه ضمن من يُشك في اقترافهم الجريمة ، وبإلقاء القبض على يوسف إنقطعت أخباره تماماً حتى ليظن القاريء ان مرويته تكون قد ختمت بهذا الحدث على طريقة النهايات المبتورة . وبعد أكثر من ستين صفحة ، عادت أخبار يوسف إلى الظهور مجدداً في القسم 7 ) ) من الفصل الثاني الموسوم بـ (بور سعيد .. المدينة الباسلة ) وقد أوكل إليه دور جديد إضافة إلى دور العاشق الذي كان قد اضطلع به في الفصل الأول ، والدور الجديد هو دور الشاب المهموم بقضايا سياسية قومية تقوده إلى التوقيف في مركز شرطة المدينة ، ولكن سرعان ما يتبين لنا بأن التغيير الجديد في شخصية يوسف والذي أضفى على دوره طابعاً جديداً ، هو في الحقيقة ليس جديداً بل هو ثمرة لعبة الزمن السردية وما توجبه من تقديم وتأخير في الأحداث ، فحادثة توقيف يوسف في قضية سياسية كانت قد تمت قبل حادثة مقتل أبيه ألذي كان عليه أن يتعهد أمام مأمور شرطة القضاء ( بعدم تكرار ولده لفعل لا يخدم المملكة ص /169) . ولكن ظهوراُ متباعداً آخر سيكون ليوسف بشخصية ألبِسَتْ لبوس السياسة عنوة دون إرادتها أو رغبتها عندما اعتقلته مفارز الحرس القومي في شباط 1963 بشبهة انتمائه لتنظيم يساري وهو يومئذ طالب جامعي في بغداد (ص/ 221). ومع قرب وصول الرواية إلى نهايتها يتبين بأن الربط ما بين الجريمة الجنائية ممثلة بمقتل ابي يوسف ، والجريمة السياسية التي نُسبت إليه بانتمائه إلى تنظيم يساري هو ربط مقصود تعمده مأمور الشرطة الفاسد ليتخلص من الشاب المثقف ، محققاً هدفين في وقت واحد ، الأول : إبعاد الشبهة عن القاتلَين الحقيقيين شراد هديب وشتيوي الياور ، والثاني : إراحة الجهات الأمنية من معارض سياسي . ولا بدّ من ملاحظة إن الإرباك في اللغة تسبب في تمييع الأحداث في مروية يوسف ذات البنية المقطعة ، والحلقات المتباعدة وذلك بخلط أحداث السجن السياسية مع أحداث السجن الجنائية ، إضافة إلى الخلط ما بين فضاءين مكانيين ( بغداد والسماوة ) وفضاءين زمانيين (فترتي الدراسة الجامعية والفترة التي سبقتها ) . ومن الواضح أن ثمة إشكالية بنائية تعانيها لغة السرد لا سيما في اصطناع الصياغات اللغوية والبلاغية المبالغ بها والتي تتسبب في تقعّر المعنى وتُفقد النص عفويته وسلاسته .أما شراد هديب القاتل ذو الشخصية الذئبية المريبة الذي لا يترك في مواقع جرائمه أثراً يدل عليه ، فقد كان ظهوره هو الاخر متقطعاً ومتباعداً ، وفي كل ظهور له كانت أخباره تضفي على شخصيته ملمحاً مميزاً وربما مختلفاً من دون أن تنزهه من أخطائه العظيمة ، وفي كل ظهور له أيضاً كان النص يلتقط خبراً من أخباره ليختفي بختامه اختفاءاً تاماً ، ثم ليعادو الظهور من جديد . فبعد أن قدم له الراوي الصوري ناصر الجبلاوي تعاريف صورية سريعة جاءت على جوانب من شخصيته التي لا تخلو من ظرف إلى الحد الذي جعلت الجبلاوي يضحك منه (يضحك حتى تدمع عيناه . ص / 56). بعد هذه اللقطة الصورية الظريفة اختفى شراد هديب ، وانقطعت أخباره تماماً . ثم عاد ليظهر ظهوراً خاطفاً ومفاجئاً بصحبة المقاول شتيوي الياور في يوم مقتل الحاج سلطان شاهر ( ص / 103). ثم انقطعت أخباره ثانية لتعود في ختام الفصل الثاني ( ص / 198) بشكل مكثف لتكشف ما كان قد خفي على مدى أكثر من مئتي صفحة من الرواية من هذه الشخصية المركبة والموغلة في الجريمة إلى الحد الذي تبدو معه مقارنتها بصورته الظريفة التي قدمها الجبلاوي عنه بأن هناك تحولات وتبدلات طرأت على طبيعة الشخصية وضعت كل صورة من الصورتين على طرف نقيض من الأخرى . وبالرغم من أن سطوة التاريخ كمُخرج تبدو وكأنها قد تراخت عن ناصر الجبلاوي في الأقسام الأخيرة من الرواية ، وأنه ظل يتصرف كمصوّر مستقل غير مذعن لأية إرادة خارجية . إلا أنه ظل يتصرف وكأنه الوكيل المخوّل بالتعبير عن إرادة التاريخ الغائب ، فهو يحتفظ بصور فوتوغرافية لكل شخصيات المدينة ، وتلك الصور هي المدلول الورقي لدال من لحم ودم وذكريات ، ومع نهاية كل شخصية منحرفة من شخصيات الرواية / المدينة كان ناصر يرفع مدلولها الورقي من خزانة استوديو التصوير الزجاجية ، ويعلقها في غرفة التحميض المظلمة ، فإذا ما أشعل في الغرفة ضوء التحميض الأحمر بدت الوجوه الشاحبة لأصحاب تلك الصور وكأنها تغرق في الدماء البريئة التي أهرقوها أو تسببوا في إهراقها . هكذا نفذ الجبلاوي إرادة التاريخ بصورة كل من المفوض الفاسد رشاش جاسب والمقاول الفاسد شتيوي الياور والقاتل المحترف شراد هديب ليُنهي – من جهته كراوٍ صوري – بهذا العقاب الدلالي الصارم فترة من فترات تاريخ المدينة . أما الراوي النصي ، فقد أنهى – من جهته – الرواية بالتذكير بمصائر رفاق فتوته وشبابه ، فمنهم من مات محبطاً ، ومنهم من هاجر ، ومنهم من ظل ماكثاً في مدينته ، ومنهم من دفعه الإحباط لإحراق كل ملفات الماضي قبل موته ، أما يوسف – الشخصية المحورية – فقد حولته السجون وجلسات التعذيب إلى قاموس لا يضم سوى كلمتين : زهوٌ ورماد .
{ تراجيديا مدينة- زيد الشهيد- المؤسسة العربية للتوزيع والنشر- 2014.



















