ضرب الدبلوماسية – كامل الدليمي
لم تكن الضربة التي استهدفت الدور القطري في الساحة الدولية مجرد حدث عابر أو خلاف سياسي محدود، بل مثّلت في جوهرها رسالة قاسية موجهة إلى الدبلوماسية العالمية بأسرها. فقد استطاعت قطر، على الرغم من صغر مساحتها الجغرافية، أن تفرض حضورها في ملفات شائكة ومعقدة، فتنقلت بين الأزمات لتلعب دور الوسيط الذي يفتح أبواب الحوار حين تُغلق، ويبحث عن التسويات حين تتصاعد الصراعات. غير أن الاستهداف الذي طال هذا الدور لم يوجَّه في الحقيقة إلى قطر وحدها، وإنما أصاب قلب الدبلوماسية ذاتها، تلك القيمة التي تأسست عليها العلاقات الدولية الحديثة منذ منتصف القرن العشرين.
عقود اخيرة
منذ إنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ارتبطت صورة العالم بفكرة أن الدبلوماسية هي السبيل الأول لتجنب النزاعات وتحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة. غير أن العقود الأخيرة أظهرت أن هذه الفكرة باتت في تراجع مستمر، وأن قاعات التفاوض تحولت تدريجيًا إلى واجهة شكلية تخفي وراءها لغة المصالح الصلبة والسلاح. وما جرى مع قطر كشف أن الدول التي تحاول التمسك بدور الوسيط لم تعد محمية، وأن الحياد الذي كان يُنظر إليه كقيمة مضافة أصبح عبئًا قد يُعاقب عليه أصحابه.
إن خطورة ما حدث تكمن في كونه يعلن بداية مرحلة جديدة يمكن وصفها بمرحلة ما بعد الدبلوماسية، حيث تغيب المساحة المشتركة للحوار، ويصبح العالم محكومًا بالمعادلات التي تفرضها القوة وحدها. ففي ظل هذا الواقع، تتضاءل فرص الوساطات المستقلة، وتُضعف ثقة الشعوب بالمؤسسات الدولية، وتُستبدل لغة التفاهم بلغة الإقصاء والتهديد. وهو ما يهدد الدول الصغيرة والمتوسطة التي حاولت عبر تاريخها أن تجد مكانًا على طاولة التفاوض بدور الوسيط أو الجسر بين القوى الكبرى.
ليست الخسارة هنا قطرية بحتة، بل إنسانية قبل كل شيء. فحين تسقط قيمة الدبلوماسية، يتراجع الأمل في الحلول السلمية، وتُفتح الطريق أمام العنف والحروب والمعاناة البشرية. إن ضرب الدبلوماسية ليس مجرد ضربة لدولة أو لحكومة، وإنما هو إضعاف لإيمان العالم بأهمية الحوار كخيار استراتيجي، وإعلان بأن البشرية تتجه إلى زمن تُقصى فيه لغة العقل لصالح منطق القوة. وما لم يُعاد الاعتبار لوساطة الدول ولجدوى العمل الدبلوماسي، فإننا سنجد أنفسنا أمام عالم يغرق أكثر فأكثر في الصدامات، ويبتعد عن أبسط القيم التي قامت عليها العلاقات الدولية الحديثة .