كلام مسموع
حسن النواب
تأكد لي الآن ، إِنَّ المناضلين الشجعان ، المؤمنين بمبادئهم النبيلة ؛ لا تُنسى مواقفهم المضيئة ؛ مهما تبدلت الأمكنة والأزمان ، وأحد هؤلاء المناضلين ، هو صديقي الشيوعي حميد الزيدي ؛ الذي كنت معه ، على مقاعد الدراسة ، في إعدادية الزراعة ، وقد جمعت سريري إلى جنب سريره ؛ قاعة منامٍ في القسم الداخلي ؛ وكان شغوفاً بالقراءة ؛ بل كان دولابه الحديدي ، الذي كتبَ على بوّابته الرصاصية « أبو جراح « ؛ بلون أحمر وبخطه الأنيق ؛ مليئا بالكتب الأدبية الرصينة والمتنوعة ، ولما كان يتوجّب علينا ، إطفاء مصابيح القاعة ؛ بعد الساعة العاشرة مساءً ، للخلود إلى النوم ، كان حميد الزيدي ، يشعل شمعة حمراء صغيرة ؛ ويواصل القراءة حتى بزوغ الفجر ، ذات ليلة ، كنّا نغط بنوم عميق ، وإذا بصوته الجريح يوقظني ، سمعتهُ يردّدُ بلوعة :
هكذا بؤسي ، أمام الآخرينْ
وأنْ أرى متسولاً ، عريان ،
في أرجاء عالمنا الكبير
وأنْ أمرّغُ ذكرياتي في التراب
فنحنُ ، يامولاي ، قومٌ طيبونْ
بسطاء ، يمنعنا الحياء من الوقوفِ
أبداً على أبواب قصركِ ، جائعينْ
وعرفتُ فيما بعد ، إِنَّ هذا المقطع الشعري ، يعود للشاعر عبد الوهاب البياتي ، كنت أرى صديقي الكادح ، في البذلة الزرقاء ؛ التي يحرص أنْ لا ينزعها عن بدنه الهزيل ، تلك البذلة التي لا بد أنْ نرتديها ، أثناء الدورس العملية في الزراعة ، لكنه كان يكتسيها على الدوام ؛ ولم تفارق جسده النحيل حتى في المنام ؛ وكنت أرى في عينيه المشرقتين ، ألقاً عجيباً ، بينما كانت خارطة وجهه ؛ تشير إلى ألم وحرمان مرير ، فقير الحال مثلي في ذلك الوقت ، بل أشد عوزا ؛ لكنَّ ضحكته الساخرة ؛ التي توحي باِستنكار واِحتجاج ؛ تملأ قاعة المنام طولاً وعرضاً ، شخصٌ شفاف ، ترى رقّة الوردة ؛ في تصرفاته وسكناته وخطواته وهمساته ؛ وذكاءً ثاقباً ، في ملاحظاته والتقاطاته ؛ وحكمة الهدهد ؛ في حديثه الزاخر بالأسى والألغاز ، ذات نهار اِقترح على مسامعنا ؛ إصدار نشرة مدرسية ، تلقى اِقتراحه بعض الطلبة بفتور ؛ بينما كنتُ متحمساً ، لفكرته ، جاء بكارتونة بيضاء عريضة ، واِنكب على تحرير تلك النشرة بمعونتي ، حتى أكملها ، وعلقها على لوحة الإعلانات ، كانت النشرة بعنوان أحلام الفقراء ..
كان الكادح حميد ، يتمتع بموهبة الخط الكوفي ، والحر أيضاً ، وكان يرسم حروفه برشاقة ، تُبهر الأبصار ، هكذا شدّني للوهلة الأولى ، وصار يرفدني بكتاب إثر آخر ، مازلت أذكر أول كتاب شعري وضعه بيدي ؛ كان بعنوان نهايات الشمال الإفريقي للشاعر سعدي يوسف ، وصرت اقرأ بشغف ، تلك الكتب التي تنهال على يدي ؛ من صديقي العجيب ، الذي كان يكبرني بسنتين ، وقد تجاوز فترة المراهقة تقريباً ؛ بينما كنتُ منغمراً ، في دوّامتها وطباعها ، ولذا كان يجد صعوبة أحيانا ، لكي يقنعني بأفكاره الثورية ، أذكر أنَّ جدلاً حدث معه ، حول مشهد في مسرحية ، كتبتها في ذلك الوقت ، وكانت بعنوان « المعذّبون « ،حينَ اقترح أنْ يكون مشهد تعذيب السياسي ؛ على ضوء شمعة حمراء ؛ بالطبع ، أدركتُ ما كان يرمي إليه ، إذْ كان يسعى إلى إيصال خطاب مشفّر للجمهور ، إِنَّ هذا المعذب السياسي ، إنما كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي . بعد حوار طويل معه ، استجبتُ لفكرته ، وجاء المشهد في المسرحية ، كما أراد ، لكن الذي حدث بعد العرض ؛ إِنَّ إدارة المدرسة ، استدعتني للاِستجواب .. سألوني لماذا أشعلتَ شمعة حمراء أثناء تعذيب السياسي ؟ أجبتهم بقلق : هذه رؤيتي الإخراجية ، لم يقتنعوا بكلامي ، فسألوني بنبرة قاسية : أَلمْ تكن تقصد الحزب الشيوعي ؟ فأجبتهم هذه المرّة ، بمكر وسذاجة مفتعلة : لم أسمع بحزب يحمل هذا الإسم ؛ فتركوني بحالي ؛ ومذ تلك اللحظة ، توطدّت علاقتي مع صديقي الشيوعي حميد الزيدي . إذْ كان سبباً جوهريا ، بتشجيعي على مطالعة الكتب الأدبية ، حتى أصبحتُ ما عليه الآن ، ذات ظهيرة ، دعاني إلى مشاهدة لوحاته في مرسم المدرسة ؛ وكان كعادته يرتدي البذلة الزرقاء ؛ أخذ بيدي إلى لوحة رسمها وسألني : ماذا تقول عن هذه اللوحة ؟ كانت اللوحة بقماشة سوداء ؛ وثمة منديل ورقي مغموس باللون الأحمر؛ وضعه في منتصف اللوحة ، وقد سال خيط دم رفيع منه إلى الأسفل ؛ بينما كتب تحته بخطه الرشيق ، إنَّ جراح الضحايا فم .. وتأملتُ باقي اللوحات التي رسمها .. كانت معظمهما تحمل كلاليب وأقفال وشفرات حلاقة ودبابيس ودخان ورصاص ؛ وثمة خيط رفيع من الدم يسيل منها .. فسألته : ماذا تعني بهذه الرموز الكئيبة والقاتلة ؟ نفث دخان سيجارته بأسى ثم قال : هذا فم الوطن ؛ الذي ملأه الطغاة ؛ بالأقفال والرصاص والشفرات الحادة .. ذات فجر كئيب ، اِقتادوا صديقي الشيوعي حميد الزيدي ، مكبلا بالسلاسل ؛ وقبل دقائق من تنفيذ حكم الإعدام ، خلع قميصه وخرج عاري الصدر ؛ ليستقبل رصاص الطغاة . وها أنا اليوم ، أرى من قطرات دمه الثائرة ، تبزغ أحلام الكادحين والفقراء.