شخصيات تقدم خلاصة تجاربها – نصوص – ليث الصندوق

أنا الذي رأى   -2-

شخصيات تقدم خلاصة تجاربها – نصوص – ليث الصندوق

 والفضاءات الأربعة بحسب تسلسل ظهورها في هذا المستوى هي :

1 –  ألفضاء الأول – فضاء الحرية : وهو الفضاء الذي عاشه الراوي في مرحلتين ، الأولى مرحلة ما قبل السجن ، والمرحلة الثانية بعد إطلاق سراحه ، وهذا الفضاء ضيق بشقيه ولا يستغرق سوى مدى محدود جداً من الزمن ، إضافة إلى إنه يستوعب البذور الأولى لسلستي الأحداث التوابع التي سبقت الإشارة إليها ، ولا يشغل من الرواية سوى الصفحات الأربع الأولى ، ثم الصفحتين الأخيرتين من صفحات المستوى الأول .

2 –  ألفضاء الثاني – السجن في مديرية أمن البصرة : وتبدأ الملامح الأولى الفعلية والدالة لهذا الفضاء ليس من لحظة دخول الراوي إلى المبنى الأمني ، بل من لحظة التعامل معه كسجين ومُدان قبل أن يحقق معه ، وقبل أن توجه له تهمة ، أي من لحظة عصب عينيه وتكبيل معصميه ( حللت ربطة عنقي الحمراء ، ناولتها له ، أحكمها فوق عيني . ص / 10 ) وبدءاً من هذه اللحظة يكون الراوي قد اكتشف أن حريته قد حُجرت ( إذن فقد دخلتُ المعمعة من أوسع أبوابها ، دخلتها بالرغم مني . ص / 10 ) . وفي هذا الفضاء تنفتح نوافذ الماضي على فضاءات أخرى مماثلة في سجون سمع عنها ، كان قد دخلها مواطنون مسالمون ولم يخرجوا منها إلا أوصالاً مقطعة ومحفوظة في ثلاجات الموتى ، وبهذه الطريقة التخزينية العتيدة تم العثور على بقايا السجين جواد كاظم ( عرفته زوجته من ثيابه الداخلية ، كان مقطعاً أربع قطع ، ألرأس وحده ، وأحدى الكفين عند الرسغ ، والبطن خال من الأحشاء . ص / 19 ) ويتناسل هذا الفضاء عن ذكريات لأحداث مماثلة ، ويبدو أن الفضاء البصري الذي فجّر لدى الراوي شهوة التَذكار جعل كل الأحداث المتناسلة تنطلق منه ( إعتقلوا طالباً جاء يزور خاله في الزبير . ص / 20 ) ثمّ ( بعد ثلاثة أيام سُلمت جثة الخال إلى أهله . ص / 21 ) ولا يقتصر خطاب الذكريات على الراوي فحسب ، بل قد يشترك الراوي مع صاحب الذكرى في حوارية السجن التي يعاد بناؤها فنياً فتتفكك مقترباتها ونهاياتها وتتماهى مع حوارات النفس حتى ليصعب التمييز ما بين حديث المتكلم وحديث المعقب ، هكذا يتراجع الفضاء الزماني إلى الوراء ليشمل أحداثاً من فترة الحكم البعثي الأول 1963 دارت في المكان ذاته / البصرة تجسد صورة التأزم المزمن في العلاقة ما بين القوى السياسية يعرضها أحد ضحايا الخلاف وهو علي مكي ( أعتقلت في العهد الملكي ، وفي زمن عبد الكريم قاسم ، وبعد ردة رمضان المشؤومة ، لكن ما لقيته في المرة الثالثة فاق كل شيء ، لأول مرة في تاريخ العراق تربط يدا المتهم وراء ظهره وتعصب عيناه ، كنا نرى ذلك في الصحف ، إبتدعه الأمريكان في فيتنام ، وطبق أول مرة في الثامن من شباط الأسود . ص / 25 ) .

وفي هذا الفضاء تتجسد قساوة تجربة السجن والتعذيب ، فالتقاط الصور الصادمة والمفاجئة لأصغر التغيرات الجسدية والنفسية يجد مسوغه في ضوء عدم معقولية التجربة واستثنائيتها فبدا تأثير الصدمة واضحاً على الراوي وهو يصف ما تراه عيناه من رسغه بعد رفع القيد عنه ( رأيت ما لم أصدقه لو سمعته ، كان اللحم قد تآكل ، لا بل انكمش كما لو دارت حوله سكين حادة ، وقد جمدت الدماء حول القيد بعد أن غطست تحت الجلد . ص / 30 ) .  وفي هذا الفضاء الجحيمي تصبح أقل انفراجة فرحة كبرى (حينما كانت يداي مربوطتين على الطريقة الأمريكية ، والنار تحرق الجزء الأعلى من عظامي ، لم أكن أفكر إلا في الفرحة الكبرى التي سأشعر بها حينما يفكّ قيدي . ص / 31 )

3 –  الفضاء الثالث – ألسجن في بغداد : وتمثله الانتقالة الثانية للراوي ، حيث ينفتح السرد لدخول شخصيات جديدة تفتح حوارات بصيغ تساؤلات مع الراوي ألغاية منها معرفة سبب سجنه ، بيد أن تلك التساؤلات تظل بلا إجابة لأن الراوي نفسه لا يعرف سبب سجنه .  وفي حين يتحاشى الراوي توجيه اسئلة مماثلة لزملاء السجن فإنه يكتفي بما يعرضونه عليه من قضاياهم ، ويبدو أن الإنكماش والضغط النفسيين المفروضين على السجين يدفعانه عفوياً إلى أن يفتح خزينة أسراره لكل طارق جديد ، ولذلك ستحفل الفضاءات التي سيدخلها الراوي بدءاً من هذا الفضاء بمرويات غريبة شتى . وفي هذا الفضاء ستأتي من طرف السجناء أنفسهم أول بارقة أمل على براءة الراوي ، فإحالته إلى هذا السجن –  كما يرون –  إشارة على أن مصيره لن يكون الإعدام :

( – لماذا جاءوا بك ؟ من أين أنت ؟ أتعرف أنك محظوظ ؟

–           محظوظ ؟

–           لأنك هنا

( ص / 44 )

 وتتكرر من أكثر من سجين هذه الإشارة ( يا إبني من يأتي هنا يؤمن على نفسه من الموت ، هذه عمارة الأحياء . ص / 47 ) أو ( إن الخطرين لا يؤتى بهم إلى هنا ، وإذا جاءوا بهم لا يتركونهم يختلطون بنا . ص / 51 ) وحين يكرر السجناء على مسامع الراوي قناعتهم ببراءته –  بالرغم من جهلهم بتهمته –  تصبح لديه تلك القناعات يقيناً ، وتنفرج في نفسه ثغرة خادعة للأمل ، وحين يؤمن الراوي بحقيقة نجاته من المصير المشؤوم ، وإن كانت تلك الحقيقة لم تزل مجرد استنتاجات غير مؤكدة ، عندئذ ينسلخ تفكيره من الانشغال بمصيره –  بعد أن بتّ السجناء بذلك المصير –  ويوجه تفكيره إلى من هم وراء أسوار السجن ( لماذا رفرف طيف من الاطمئنان على قلبي ؟ إذن فسأبقى حياً على الأقل ، فعلى ضوء ما سمعت خرجت بمعجزة من أنياب الذئب ، لكن متى سيطمئن أهلي عليّ ؟ ص / 51 ) ولعل أحدى الميزات التي ميزت الخطاب في هذا الفضاء عن الخطاب في الفضاء السابق ، أنه هنا مفتوح على الاخر بما يجعل منه عرضاً لأحوال السجناء وتهمهم ولطبيعة العلاقات فيما بينهم ، إضافة لكشفه عن مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والوظيفية ، وعنايته بالأسماء والأوصاف ، بينما انغلق الخطاب في الفضاء الأول على ذات الراوي ، وصارت كل المستويات القولية مجيرة لها . وفي ضوء طبيعة هذا الفضاء التي تمكن من التواصل ما بين السجناء ، وفي ضوء الاستقبال الحسن الذي قوبل به منهم ، وما أشاعته حواراته معهم في نفسه من أجواء الأمل والاطمئنان ، وفي ضوء التسهيلات النسبية للسجين ورفع بعض الضغوط النفسية والسلوكية عنه ، في ضوء كل ذلك تبددت الصورة الموحشة التي رسختها في ذهنه صورة سجن البصرة ( هذه جنة بالنسبة إلى موقف الأمن في البصرة . ص / 52 ) . وفي هذا السجن سيكتشف الراوي وهو يوسّع من حدود علاقاته بالسجناء ، أو هم الذين يوسعون معه من حدود علاقاتهم ، سيكتشف واحدة من الحقائق الانسانية المهمة والمجهولة ( إن كل المضطهدين سواء ، مهما كانت عقيدتهم ، يسار ، إسلام ، وطنية ، لا شك أنهم يُحسّون برابطة تجمعهم إلى بعضهم . ص / 53 ) وفي هذا السجن سيبرز خطاب الضد جلياً على ألسنة السجناء وهو خطاب متزن وموضوعي ، ويبدو أن حالة الاطمئنان إلى بعضهم قد خففت من مستويات الريبة ، فراحوا ينتقدون الدولة ورئيسها نقداً يتقصد الثغرات البينة ويتحاشى التعميم .

4 –  ألفضاء الثالث – ألسجن في دهوك : وقبل التسفير إلى سجن دهوك هناك انتظار طويل يسبقه في سجن التسفيرات ، وليس أمام الراوي في هذا المكان سوى أن يراقب ، ويصف بدقة كل ما يحيط به . ففي موقع الانتظار تتغير الشخصيات بسرعة ما بين قادم ومغادر ، وقبل أن تتغير تفرغ للماكثين كل ما تُخفيه من أسرارها ، وعدا تلك الأسرار المجانية التي يهبها السجناء لبعضهم ، والتي نال الراوي منها الكثير ، هناك أسرار أخرى لسجناء لم تتح لهم ظروفهم الصحية أن يعرضوها بأنفسهم على الراوي وجدت من يتطوع نيابة عنهم لعرضها عليه ، مثل القصة المروعة للسجناء السبعة الذين كانوا يُحقنون في مستشفى السجن بحقن طبية مجهولة تسببت بتساقط شعرهم وجلودهم ، وفقدان ذاكرتهم ، وبتلف أعصابهم مما جعلهم يتبولون ويتغوطون لا أرادياً . وإن كان الحديث عن هؤلاء السبعة هو حديث عن أشخاص ما زالوا أحياءً ، ولكنهم يُدفعون دفعاً نحو الموت السريع ، فهناك من السجناء من يفتح ملفات السجن المحفوظة في ذاكرته ليروي قصصاً عن سجناء عايشهم ، لكنهم قُتلوا أو أعدموا في السجن عمداً ، مثل الحكايات التي يرويها المحقق العدلي الشاب البصري السجين عن إعدام وزير الري ، ومقتل عريف في القوات الخاصة ( ص 78 –  81 ) . ويتحول خطاب الضد عند هذا الشاب إلى وثائق إدانة صريحة للسلطة وأجهزتها الأمنية ورجالاتها ، بل وحتى لزوجاتهم المسنودات بسلطة رجالاتهنّ في ممارسة التعذيب ضد مخدوميهم ، وهذا النمط من  الشخصيات النوعية من السجناء تكفي الراوي عناء السرد ، لأنها تتكفل نيابة عنه بذلك . وفي حين اختفت تلك الشخصيات من الفضاء الأول ، يتوالى هذا النمط من الشخصيات بالظهور بانتماءاتهم الاجتماعية والثقافية والوظيفية والسياسية المختلفة بدءاً من الفضاء الثاني . ومن موقف التسفيرات في بغداد نقل الراوي إلى الموصل ، ولم يمكث طويلاً إذ نقل إلى مكان أخر ألمح إليه عرضاً دون أن يصرّح باسمه أو موقعه ، ويبدو أنه هو نفسه لم يكن ليعرفه ( سيارة لاندكروز قادتني إلى مقري الجديد . ص / 89 ) وفي نهاية الشهر الثالث تم استدعاؤه وتسفيره إلى دهوك . وهناك سيلتقي بشخصيات نوعية جديدة ، ويتكفل هو بعرض قضاياها وتفاصيل حياتها في السجن وخارجه ، وسيظهر ثمة خيط يمتدّ نحو الماضي يربط ما بين بعض تلك الشخصيات وحوادث مماثلة من خزين ذاكرة الراوي ، وبهذه الالية يمنح السجناء الذريعة لتقليب صفحات الذاكرة ، ومباشرة رحلة الانتقالات المفاجئة من الحاضر إلى الماضي الشبيه ، ليس من أجل تقديم صورة طبق الأصل ، بل لإيجاد الفرصة لتقديم نموذج آخر له خصوصيته النوعية . وعبر خيط الوصل هذا سيجد الراوي في قضية اعتقال السجين الشيوعي فرصة لاستدعاء حادثة مماثلة من الماضي لسجين شيوعي آخر من البصرة ( ذكرني بصديق كثير الشبه به أعتقل عندما حاصرت قوات الأمن مقر الحزب في البصرة . ص / 105 ) والشبه الذي أوجد ذريعة الاستدعاء هو شبه مركب من عدة وجوه ، فهو شبه في الملامح الشكلية ما بين الشخصيتين أولاً –  كما يبدو من المقبوس – ، وهو شبه في الهوية السياسية للشخصيتين ثانياً ، وهو شبه نسبي في طريقة إلقاء القبض على كليهما ثالثاً ، إضافة إلى الشبه في أسلوب تعامل الحزب الحاكم ذاته في فترتي وصوله للسلطة مع معارضيه السياسيين رابعاً ، ولكن الراوي يتوسع في سرد تفصيلات الحادثة / الشبيه ويجعلها تطغي على الحادثة / الذريعة في محاولة للتمرد على المرجع والتشبث بتقنيات التخييل ، بالرغم من أن التمرد هنا يبدو غير مسوّغ لأن المرجع في هذه الحادثة غير مشخص من قبل القاريء أصلاً ، وأنه في موقعه الحالي يبدو متماهياً مع الشخصيات اللغوية والأحداث التخييلية .

والشخصيات في هذا الفضاء لا تسرد أحداثاً فقط ، بل تقدم خلاصة تجربتها الانسانية التي تتوافق مع خلاصة تجربة الانسان أينما كان في نضاله من أجل الحرية والكرامة ، هكذا عبر  السجين الذي رفض الانتساب للحزب الحاكم عن قناعته بصيغة تساؤل ( أنا أؤمن بحرية الانسان أولاً ، منذ أن وجد الانسان على الأرض وهو يريد أن يقول ، ويأكل ويفعل ما يريد من غير إكراه ، فلم الإجبار ؟ ص م 106 ) وما بين التجربة الشخصية والتجربة الانسانية ثمة رابط يجعل من الرفض الشخصي للانتساب للحزب الحاكم قناعة راسخة ، وذلك الرابط توفره المرجعيات التاريخية التي تكشف المخفي من ملفات الحزب في واحد من مراكز انتشاره الأساسية ( …. مع علمي بتاريخ هذه العصابة ، إقرأ يوميات محكمة الشعب ، الفصل الخاص بمحاكمة خليل كنة ، يتبين لك من كان من أزلامه ، ومن يقوم بأعباء الدعاية الانتخابية له في تكريت . ص / 107 ) . وفي حين تتوالى الشخصيات في هذا الفضاء بسرد مروياتها ، ويتولى الراوي أحياناً عرضها نيابة عنها بعد تحوير بسيط يتجاوز به الوسيط  الذي نقل إليه تلك المرويات ، إلا أنه هناك آلية أخرى سبق أن اعتُمدت في سجن التسفيرات في بغداد حيث يتولى السجناء عرض مرويات زملائهم الأخرين الذين يعجزون لسبب أو لآخر عن الكلام أو عن التذكر ، مثل مروية الشيخ الكردي السجين الذي جاوز الخامسة والتسعين من العمر والعاجز عن الكلام والتذكر معاً جراء إصابته بالخرف ، وقد جيء به من أجل الضغط على أخيه الهارب الذي يكبره عمراً بخمس سنوات لدفعه لتسليم نفسه للسلطة ، وناقلو المروية هنا يعرفون تفاصيلها بدون أن يكشفوا عن الجهة التي أمدتهم بتلك التفاصيل ( ص / 107 ) . وفي هذا الفضاء يبرز تهافت الخطاب الدعائي الرسمي مقترناً باندلاع الحرب مع إيران ، ويتجلى ذلك التهافت في ترديد ضابط التوجيه السياسي الذي قدم للسجناء تصورات  السلطة للحرب مردداً مقولات جهازها الإعلامي ترديداً آلياً نمطياً مكروراً ، بيد أن تركيز الراوي على التقاط مفردة ( كلية ) بكاف مكسورة من خطاب ضابط التوجيه السياسي ، واتخاذها ذريعة للسخرية لم يكن موفقاً ، ويحيل إلى أحكام مسبقة ذات طبيعة عنصرية تنال من مقام شريحة إجتماعية واسعة ، كما سبق ذلك الغمز على شريحة إجتماعية محترمة أخرى هي الشبك . فإذا أضفنا لتينك الملاحظتين رأيه السابق في شريحة البنائين الكادحة ، عندئذ تتعاظم حيرتنا في أســباب التراجع عن الخط الــتقدمي الذي عُرف به الكاتب .