سليم النعيمي – نصوص – عبدالرزاق عبدالواحد

ذكرياتي 86

 سليم النعيمي – نصوص –  عبدالرزاق عبدالواحد

 الدكتور سليم النعيمي أول أستاذ وقعت عيناي عليه في دار المعلمين العالية ، فقد كان هو رئيس لجنة المقابلة أيام امتحانات القبول .. وآخر من وقعت عيني عليه من الأساتذة .. كان ذلك في احتفال حضره قبيل وفاته بأيام .. وعندما كان يغادر القاعة يرافقه الأستاذ طارق عزيز ، مر بجانبي فوقفت إجلالاً له .. تصورت أنه لن ينتبه إلي لفرط ما كان بادي الإعياء ، ولكنه توقف حين بلغني ، ثم نظر إلي بكل عمر السنين التي مضت ! .. وقال : (شلونك أنت ؟) . كدت أنحني لأضع شفتي على يده وأنا أصافحها .. ولكنه احتواني بيده الأخرى ، فقبلته في وجهه . إلتفت إلى عزيزقائلاً : (عبدالرزاق خوش عبدالرزاق .. ديروا بالكم عليه ! ). ولم أره بعد ذلك ! .

 ما رأيت طلاب صف أحبوا أستاذاً من أساتذتهم قدر ما أحببنا سليم النعيمي ، رغم اختلاف الآراء في سبب هذا الحب : فمن قائل لعدم تشدده في مادة الدرس .. ومن قائل لظرفه ودماثة خلقه ، ورفعه الكلفة بينه وبين تلامذته .. ومن راءٍ أن حنوّه على طلابه ، وإحساسه بانتمائهم إليه حد منحهم حمايته هو السبب الرئيس في هذه المودة العميقة بينه وبينهم . المهم أن النعيمي كان من أقرب أساتذتنا إلينا رغم أن أحداً منا لم يسلم من لسانه ! .

 أذكر أنني كنت معاوناً لعميد معهد الفنون الجميلة في أواخر الخمسينات ، وزرت دار المعلمين العالية لأستعير كتاباً من مكتبتها . كنت في مدخل المكتبة حين صادفته .. وبكل محبة طلاب دورتي له سلمت عليه ، فقال بعد أن رد علي سلامي ـ وكان حولنا عدد غير قليل من الطلاب : (مو هذا مكان مال أوادم شجابك بيه ؟ !). قلت على الفور 🙁 دكتور شفتك داخل ودخلت وراك ! ).. فضحك من كل قلبه .. وحين سمع الطلاب يضحكون ، التفت إلي قائلاً 🙁 موت الكرفك .. بعدك لسانك زفر ؟!! ).

 يمكن أن تقول عن إنسان ما إنه طيب .. ولكن طيبة سليم النعيمي لم يكن لها حدود ! .

 كان مولعاً باتخاذي مادة لتعليقاته ، ولاسيما أمام البنات .. وكنت مولعاً بمشاكسته ! . حيثما رآني ، وخاصة في نادي الكلية ـ وكان كثيراً ما يوجد هناك ، وحوله شلة منهن ! ـ وكنت غالباً ما ألبس بدلة بيضاء ورباطاً أحمر .. يقول لهن : (شوفوا .. طالع جنه زرزور منقش ! ). وتعلو كركراتهن ، فأدنو إليه قائلاً بصوت خفيض : (أكيد نفس النكتة ، لأن ما عندك غيرهه! ).. ويتعالى الضحك من جديد ! .

 كنا في الصف الثالث .. وكان النعيمي ـ رحمه الله ـ يدرسنا مادة النقد الأدبي . والنعيمي لا يسمح لطالب بدخول الصف بعد دخوله هو .. ومع ذلك فقد كانت لدينا كل يوم فيه درس نقد مشكلة ! .. كنت أجيء متأخراً عنه .. فيبقى يجادلني ، ثم أدخل أخيراً موفراً له فرصة نكتة أو نكتتين لفرفشة الطالبات ! .. فهو دائماً :

 ممتلئ الدروس بالنكاتِ

 غايتـُها تسليةُ البناتِ ! *

ذات يوم وصلت إلى الصف ، ولم يكن قد بقي من الدرس سوى عشر دقائق . قرعت الباب ، وفتحها .. فاتجهت جميع الأبصار نحو الباب المفتوحة ، وأنا واقف في وسطها ببدلتي (الشاركسكين) البيضاء ، ورباطي الأحمر ! . دفعة واحدة .. وكأنما بشكل موقوت ..علت ضحكة الطلاب بينما كان النعيمي ينظر إلي وأنا أنظر إليه .. ولم يلبث هو أيضاً أن انفجر ضاحكاً ! . إستفدت من الوضع ، واتجهت بهدوء إلى رحلتي ، وجلست .. فظل يتطلع إلي ، ثم قال : (بعد وكت .. ليش مستعجل ؟ .. جان انتظرت الدرس الثاني هم يكمل ) .. وكان عندنا درسا نقد متتاليان . قلت بصورة مستفزة : (ما فاتني شي دكتور !) . قال : (إي .. مو إنتَ علاّمه ! ).

 كان موضوع محاضرته مكتوباً على السبورة (الشكل والمضمون في الأدب ) . قلت : (دكتور .. كل هذه المادة التي نأخذها منذ ثلاثة أسابيع ، سبق لي أن كتبت فيها مقالاً ونشرته في في جريدة  الهاتف). قال وقد بدا عليه الإنفعال : (وينه ؟؟ .. أهو جيبه خل انشوفه ) . فما كان مني إلا أن أسرعت إلى القسم الداخلي ، وكان على مسافة أمتار من قاعة الدرس .. ثم عدت وبيدي الجريدة ، بعد أن أطرت الموضوع بالقلم الأحمر .. وكان عنوانه ( الشكل والمضمون في النص الإبداعي ) . وضعت الجريدة مفتوحة على الموضوع أمامه عل المنصة ، وعدت إلى رحلتي .. وقبل أن أبلغها سمعت صوته يقول : (تعال .. وين رايح ؟؟ .. ما دام جنابك عبقري ، شكو عندك جاي لهنا ؟؟ . روح ، بعد ما أقبلك في الصف ).

 خرجت من الصف عارفاً أن النعيمي أوسع قلباً من أن يفعل ذلك .. وأطيب من أن يتذكره أساساً في الأسبوع القادم !وهو ماحصل فعلاً .. فحين دخل الصف ، ووجدني جالساً ، قال : (ها .. ما عندك مقال جديد ؟! ).. وضحكنا جميعاً ، وانصرف إلى الدرس ! .

 نادراً ما كان يعنى بأوراق الإمتحان ، أو بالتقارير .. ولكنه كان يعرف طلابه من حركتهم في الصف ، ومن مدى استيعابهم وهم يناقشون .. أو حتى وهم يشاكسون ! . ما كان يعزل ، وهو يربي مدرسين للغة العربية ، مادة الإختصاص عن الإنسان الذي سيتصرف بها . لقد كان يضرب مثلاً لمروءة المدرس ، ولإنسانيته ، في كل تصرف من تصرفاته ، قبل أن يحاسب على مدى حفظ الطالب للمادة .

 وكان يحب طلابه ويحميهم ! .

سبق أن تحدثت عن قصيدتي في رثاء الملكة عالية ، وقد منعني هو من إلقائها ، بينما شجعني العميد الدكتور جابر عمر ، والمعاون الدكتور أحمد عبدالستار الجواري عليه . وعندما ضاقت علي الأمور ، وقامت علي قيامة السلطة ، تخلى عني العميد والمعاون ، ووقف هو إلى جانبي ، مقدماً استقالته في حال فصلي من الجامعة ! .

 مرة التقينا في ساحة الكلية ، فاستوقفني قائلاً : (مصخم الوجه ! .. يقولون عنك إنك شيوعي ، وأنا لا أصدق أن واحداً يكتب بطريقتك ، ويستعمل اللغة العربية بكل هذا الشغف والمحبة ، لا ينحاز إليها ، وإلى القوم الذين ينطقون بها ! .. أقول أنت قومي .. ويقولون أنت شيوعي !!) .

 رحمك الله يا سيدي .. كم تجنينا عليك متوهمين أنك تتوخى السهولة ، حتى تخرجنا .. فوجدناك الأغنى بطيبتك ، وبتجاوزك لكل العقد والإلتواءات ! .

 لم يكن يتحرج معنا في مداعباته .. فإذا ما خرجنا عن حدود اللياقة سهواً ـ ولم نكن نتعمد ذلك لفرط محبتنا له ـ تجاوز عن خروجنا بشكل لا يترك فينا أثراً للوجع والتبكيت.

 يا أستاذي الكبير .. يا عزيزاً على كل طلابك .. إن لم تكن تركت فينا إلا هذه الطيبة ، وهذه الإنسانية الكبيرة ، فقد أغنيتنا بهما بما لم تغننا الكتب جميعاً . سقى الله ثراك .. لقد كنـــــــت نعم الأخ ، ونعم الأستاذ ! .