زيارة إلى شقة برشت

إستذكارات مسرحية  4

زيارة إلى شقة برشت

يوسف العاني

لا يمكن ان تموت العبقرية اذا مات صاحبها، فعطاء العبقري ثروة ضخمة لا تستهلك، متجددة متحركة تحمل بين طياتها روح المعاصرة عبر ازمان وازمان، وحين يذكر برشت وتذكر اعماله وتناقش فلسفته وطريقته في المسرح فأن ذلك يعني مواصلة البحث عن الجديد المتجدد الذي جاء به برشت وكأنه يفتح السبيل دائما للبحث المتواصل هذا.

عام 1968 كان الموضوع الذي نوقش في المؤتمر الذي خصص لبرشت بمناسبة مرور سبعين عاما ميلاده كما ذكرت.. (السياسة في مسرح برشت) وفي عام 1978 كان الموضوع عن (الفن والسياسة) وهكذا كل عام وخلال كل ندوة تتفتق مواضيع ومواضيع يستلهم جوهرها من عبقرية هذا الفيلسوف الفنان المسرحي الكبير. ولكن هناك زاوية قد تثير الفضول دائما.. كيف عاش هذا الفنان الكبير؟ ما هي بعض تفاصيل حياته اليومية؟ انها من دون شك تلقي الضوء على عطائه الكثير وتثير الاهتمام لدى القارئ او المشاهد لتكتمل الصورة او لكي لا تظل مجرد تلك الصورة الفنية او الادبية التي نشاهدها او نقرؤها في مسرحياته فحسب.

اذن لندخل شقته المتواضعة المتألفة من طابقين والتي تقع في (شارع شوسي رقم 125) لم تكن هذه الشقة بيته الاول.. فحين عاد برشت الى وطنه في المانيا الديمقراطية بعد غربته الطويلة سكن في فندق (آدلون) لكن برشت كان يريد السكن في بيت مستقل لكي يعمل بحرية اكثر ويجد جزءا من الراحة التي ينشدها.. وقد كانت الشقق او السكن آنذاك احدى المشاكل الرئيسة بل المستعصية التي يعاني منها الناس والمسؤول معا.. مع ذلك وفرت له شقة مناسبة وفق ظروف تلك المدة لكن برشت لم يرض بها، ليس من باب الترف او التبطر – كما نقول – لكنها لم تكن كما يريد اولا، ولأنها كانت بعيدة عن المسرح وهذا هو جوهر شكواه – ثانيا.

وفي عام 1953 اعطيت له هذه الشقة التي تحمل الرقم 125 في شارع شوسي. كتب لأحد اصدقائه يقول له: انه يحب هذه الشقة لانها تطل على المقبرة! بل هي محاذية لها.. وان هذه الشقة تمثل احدى رغباته التي تحققت بامتلاكها..! وبالفعل حّول هذا المكان الى ورشة عمل متواصلة ففي غرفته الصغيرة المتواضعة كان يجلس الساعات الطويلة يقرأ ويكتب.. وحين يضيق به هذا المكان الصغير يخرج الى الغرفة الثانية يكتب ثم يتمشى بين الحين والحين.. وكانت واحدة من عاداته التي كان يمارسها، حيث يسير وبيده او في فمه (سيكار) لا يستطيع مفارقته بل كان السيكار جزءا من حياته، وكانت تتكوم اعداد السكائر التي كان يدخنها بكميات كبيرة.. فبدون السكائر وبدون الكتب البوليسية لم يكن برشت يستطيع العمل!!كان يقرأ باستمرار القصص والكتب البوليسية، وكان ولوعه بها لا يقل عن ولوعه واعجابه بالثقافة الآسيوية والتي استوحى منها بعض اعماله وعلق الاقنعة التي تعود الى هذه الثقافة على الحائط مؤكدا اعتزازه بها. وعلق لوحة كبيرة لكونفوشيوس مشيرا وفي اكثر من مناسبة الى اهمية هذه اللوحة بالنسبة له: حتى في غرفة نومه الصغيرة علق لوحة صينية كان يعتز بها ايضا.

كان برشت يحب الاثاث القديم التي يعود عهدها الى ما قبل 100 عام.. لهذا السبب ضم بيته الاثاث القديم والمستعمل ولا تجد اي مكان لأية قطعة تحمل سمات المدة التي سكن خلالها برشت بيته هذا.. ترك برشت في مكتبته حوالي 3500 كتاب، وهي لا تمثل كل كتبه. في غرفة نومه المتواضعة وبجانب سريره البسيط علقت عصاه وقبعته.. وتركت الغرفة كما غادرها برشت يوم وفاته.. تركت كما هي.. وحين تدخلها تحس بجلال الموت ورهبة العبقرية التي سكن دبيبها لكن صداه ظل يدوي عبر سنوات وسنوات.. كانت كومة من الجرائد قرب رأسه.. آخر جريدة كانت (هيرالد تربيون) تحمل تاريخ 14/8/1956 ومع هذه الجرائد كانت كومة من جرائد (نويه دو يجلاند) كل شيء كان ساكنا في غرفه كلها.. ففي الغرفة الكبيرة التي كانت تتحول الى خلية نحل يجتمع فيها اصدقاؤه ليناقشوا ويتدارسوا شؤون المسرح.. كان السكون يخيم عليها، لكن الحياة تدب حين تتلفت الى كل جزء فيها، فهنا وهناك كانت الطاقة الخلاقة تتحرك وتغير وترسم ملامح الجديد المتطور.. ولا يسعك مع هذا السكون الطويل الا ان تشم رائحة دخان السكائر وتستمع الى قهقهات برشت او تقرأ علائم الانفعال وهو يقرأ القصص البوليسية الكثيرة.. فتلك مسألتان اثارتني وانا استمع الى الشرح المفصل للمسؤولة عن هذا الطابق العلوي من بيت برشت والذي حولته (هيلنا فايكل) زوجته وشريكة كفاحه ومساره الى ارشيف له.. اما هيلينا فايكل.. فقد سكنت الطابق الارضي وحده وحولت كراجه الى مكتبة لها، وعاشت في غرفة واحدة، وجعلت الغرفة الثانية صالونا لها تجتمع فيه مع اعضاء المسرح وتزين بجرار ومزهريات اثرية كانت تحسن اقتناءها والحصول عليها وتقنع الغير في ان تأخذ ما تريد منها، منهم.. وتضعه في غرفتها.. هيلينا فايكل عاشت في الطابق الارضي وفي كل مرة كانت تريد استعادة ذكرياتها مع برشت تأخذ طريقها الى الطابق العلوي تجلس بين كتب برشت او في غرفة عمله.. وقد تسحب كتابا بوليسيا تعيد قراءته وتعود الى غرفة عملها تنجز اعمال المسرح بواسطة التلفون، وحين غفت اغفاءتها الأبدية ارسل اعضاء مسرح (البرلينر انسامبل) كرسي ادارة المسرح الذي كانت تجلس عليه هيلينا فايكل الى الدار.. الذي اصبح ارشيفا ومتحفا لبرشت وهيلينا فايكل.

مشاركة