ريلونه وتعدديتنا الملعونة – منقذ داغر

ريلونه وتعدديتنا الملعونة – منقذ داغر

مرة أخرى تكشف لي أحداث غزة عن أفتقادنا لما أسميته بعقلية (ريلونه).أذ ما زلنا  نترجم الأحداث ونفسرها وتستنتج منها وفقاً لبعدَين وحيدين لا ثالث لهما. فالعراقيون ككثير من الشعوب في المنطقة مولعين بالتحليل الثنائي للأحداث. وطبقاً لهذا التحليل فهناك معسكرين في العقل الأدراكي العربي عليك أن تنضّم لأحدهما شئت ذلك أم أبيت. أنت أما أن تكون ريالي فتشجع رونالدو،وأما أن تكون برشلوني فتشجع ميسي. لا مكان في العقلية العراقية على مايبدو لأن تكون (ريلوني) فتشجع الريال وتعشق أبداعات ميسي،أو تشجع برشلونة وتشيد بأنجازات رونالدو. أنت أما أن تحب الليل أو النهار. لا مكان في تفكيرنا للمغرب أو الفجر حيث يختلط أمان النهار بسكون الليل. هذه السردية المختلطة والمتعددة غير مرحب بها في العقلية الثنائية. وعلى الرغم من أني كتبت كثيراً وشكوت مريراً من هذا (العوق) الأدراكي الا أنه يقفز للواجهة مع كل حدث سياسي أو أجتماعي أو أقتصادي كبير يلمّ بنا،فيقسم الناس الى رياليين وبرشلونيين ولا ثالث لهما.

ركزتُ في كتاباتي مؤخراً على تحليل التداعيات الأستراتيجية لحرب غزة وخرجت بأستنتاجات كتبتها على موقعي تفيد أن المكاسب الأستراتيجية التي تحققت للفلسطينيين كبيرة ومهمة ولها أنعكاساتها الأيجابية على القضية الفلسطينية ككل.

محاولات تاريخية

فعلى الرغم من المحاولات التاريخية الحثيثة،مثلاً، لأسلمة الحرب وحصرها بالأقصى الشريف، أو عربنتها من خلال حصرها «بالقضية المركزية للعروبة» ،الا أن فلسطين باتت بعد غزة قضية أنسانية عالمية بأمتياز تدافع عنها شعوب الأرض-لا المسلمين أو العرب فقط- مثلما دافعت سابقاً عن حق السود في جنوب أفريقيا وأجبرت حكوماتها التي كانت منحازة لنظام الفصل العنصري في بريتوريا وكيب تاون على أن تسحب تأييدها لذلك النظام بعد أن كان محط رعايتها وتأييدها كما هو الحال مع أسرائيل الآن. أن أجيال جديدة لم تتعدى العشرينات من العمر باتت تتعلم وتتعرف بعد حرب غزة على ظلم الأستعمار الأسرائيلي،حتى أن أحد المشاهير الأميركان وصف حرب غزة بالحرب التعليمية. هذه الأجيال الشابة لم تكتف بالأطلاع بل سارعت للفعل والأجتماع،والتأثير وعدم الأنصياع .فتظاهرت،وقاطعت،وناصرت.

أما على الصعيد الأسرائيلي،فلم تعد أسرائيل واحة الأستقرار والسلام التي تستقطب يهود العالم كما كان يروج لها.ولم تعد حكومة أسرائيل ونظامها سوى نسخة جديدة من العنصرية والفاشية المقيتة. وبتنا نسمع لأول مرة سياسيين غربيين كبار ينتقدون(ولو على أستحياء في كثير من الأحيان) الجيش والحكومة الأسرائيليَين. وتحدى كثير من ساسة العالم ومؤثريه سيف «معاداة السامية» الذي طالما أسكتهم وقض مضاجعهم.وأمس سمعت أسبانيا وبلجيكا ينتقدان بشدة أسرائيل الى الحد الذي هدد فيه رئيس وزراء أسبانيا،الأتحاد الأوربي بالأعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد. هذه بعضٌ من كثير من المكاسب الأستراتيجية التي ربما أتناولها في مقال قادم لأني أريد التركيز هنا  فقط على متلازمة التفكير الثنائي التي أشرت لها في أعلاه.

ولأن متابعيني قد صنفوني،مثلما صنفوا غيري من الكتاب،على وفق هذه الثنائية الأدراكية القاصرة،بأني كاتب «علماني» معارض للفكر «السياسي» الأسلامي، فقد وجدوا أن ما قلته عن المكاسب الأستراتيجية لحرب غزة بأنه أنقلاب فكري يستوجب الأنتقاد. فوفق العقلية الثنائية، فأن عليّ أن لا أتحدث بالأيجاب عن ميسي مادمتُ ريالي! ولأن غالبية من يتابعوك على مواقع التواصل يتابعوك لموقعك المقولب ثنائياً،وفكرك المعلب أنتقائياً، فسرعان ما أنتقدوا «أنقلابي» الفكري لأنهم حسبوه مدحاً وأشادةً بحماس،وليس تحليلاً موضوعياً يعتمد المنطق والقياس.

العقلية الثنائية

أن العقلية الثنائية هي عقلية أستقطابية تجعل الناس يتموضعون حول قطبين لا ثالث لهما. وأحد هذين القطبين،أي الفريق الذي يشجعونه، هو خيرٌ مطلق والثاني بالضرورة هو شرٌ مطلق.أنها عقلية التطرف التي تموضع موقفك قسرياً. فأما أن تكون معي أو ضدي،وأما أن تكون في دار الكفر أو الأيمان. أما مع الملائكة أو الشيطان.على هذا الأساس السهل البسيط،والذي لا يتناسب مع تعقيد الظواهر الأنسانية والأجتماعية والسياسية فقد تم تقسيمنا الى نواصب ورافضة،وعرب وكورد، وعلمانيين وأسلامويين،وقـــــــــــــومـــــــــــيين وأمميين، ويســــــــــــــــــاريين ويمينيين، ومحافظين وليبراليين، ووطنيين وعملاء،ومنبطحين ومقاومين. عليه فأن الأكتفاء بكونك عراقي لا يقنع الثنائيين ،لأنه لا يوجد تصنيف (قالب) مضاد العراقي. وحين تصف نفسك بأنك أنساني.فهذا لا يكفي أيضاً لأن هذه العقلية تحتاج الى مقابل نقيض للتصنيف الأنساني.وعلى الرغم من أن التطور العلمي جعلنا ندرك أن الصورة ثلاثية أو متعددة الأبعاد هي الأصدق والأجمل والأكثر تعبيراً عن الواقع الا أن الكثيرين ما زالوا يرفضون عقلية «ريلونة» ويعتقدون ان الثنائية مأمونة، والتعددية ملعونة.

مشاركة