ذلك اليوم

قصة قصيرة

ذلك اليوم

أقسم لك إنّما سأقوله هو الحقيقة السبخة التي إرتكست حتى هامتي بملّحها الحرّاق  حقيقة مثل وجه حصان أجر بلا مفرّ من قرفها ومرارتها وأساها  حقيقة دبقة  محرقة  مملة حقيقة ذات حواف مسنّنة وطريق زلق.

أحيانا يصادفني وجهي في المرآة فأفزع من هذه الملامح الناثّة خيبة وندما … وجه دبّ الخراب الى قسماته وعيون تخثر فيها حزن عميق … عميق ..أبصق عليه فلا يرتجف  ألعنه فلا يهتز  يالها من جينات قلقة ومجنونة ومستفزة أورثني إياها أسلافي .

الى أين أفرّ بهذا الحزن القتّال والثقيل … أريد أن أتلاشى .. أذوب .. أتبخر .. فمنذ عشرين عاما وأناأتقلى بزيت الفجيعةالصاهر .. ماذا فعلت لأستحق كل هذا الألم وكل هذه القسوة ..ماذا فعلت ؟

أحيانا أهرع دون سابق إنذار لأتقيأ بحشرجة لاتطاق أكاد أتقيأ أمعائي مللت وجودي في هذا الحيز من الفراغ .. أطفو كقطعة فلين في نهر هادر.. ملّني أصدقائي  أهلي  ملّني الجميع  سافرت كثيرا وبحثت عن العلاج في كل مكان لكن دون جدوى .. دون جدوى منذ عشرين عاما أتكور كل ليلة في ركن مظلم وأطلب الرحمة بتوسل وخشوع .. أرحمني يارب .. ماذا فعلت لأستحق كل هذا العذاب ماذا فعلت ارحمني..

بعد أيام سأتم الثامنة والثلاثين لم ألمس يد امرأة لم أعش يوما واحدا بسعادة أنا رهن لحظة واحدة .. لحظة تشبه صوت نائحة أسطوري عميق ومقزز.

هل كان هذا جزاء إقبالي على الحياة بشغف جنوني أمإنّه مجرد صدفة خرقاء .. صدفة خرقاء كان يكفي ثانية واحدة ليتغير قدري ثانية واحدة ما قيمتها .. شيء لا يصدق .. ثانية واحدة تعادل دهرا .. ثانية واحدة تصنع دهرا من العذاب أرجوك ادعوا لي بالرحمة فما سأقوله هو الحقيقة السبخة التي تجرّعتها غصّة غصّةآه من مرارتها التي لاتحتمل ومن كأسها الذي لا ينضب .

كنت شابا وسيما في الثامنة عشرة من عمري  مقبلا على الحياة وكأنني أهوي من شاهق لم أكن امشي على الأرض صدقني بل كنت أطير .. أسبح في فضاء مخملي .. اقرأ كثيرا أتكلم كثيرا .. اجلس في المقاهي حتى ساعات الفجر ازور معارض الرسم والنحت .. هيأت روحي لحب جارف يغرقني بشوق حقيقي لازيف فيه أو ابتذال وقد تدربت على المحبة بالإنغماس في تفاصيلها وطقوسها الدقيقة التي أثثتها في أحلام يقظتي وعشتها كل ليلة.

أحببت ملامحي  كتبي  كوب الشاي  الأشجار  الأرصفة  أصدقائي  حقيبتي السوداء  المطر  اللوحات  أشجار السرو .. كل شيء كل شيء .

في أول شهر من دراستي جاءت من انتظرتها طويلا .. فتاة تشبه موزة ناضجة .. طويلة  ناعمة  ذات عيون ضاحكة فأحببتها فورا أعلم انك ستقول إنّ هذا شيء مكرر ومعاد وربما مقرف فلا يوجد شيء أكثر مللا وتكرارا في الحياة من التقاء رجل بامرأة .. هذا صحيح .. أنا الآن أكره مشاهد الحياة الأليفة والحميمة .. أكره رؤية الأيدي المتشابكة .. الشاي  العطور .. أكره كل شيء بعمق بعمق هل تعلم من هي أكبر الأحزان وأقساهاإنها تلك التي لاتستطيعأن تبوح بها أو تنساها .

قالت ونحن نهم بالخروج من باب القسم .. لنتقاسم الكتب احمل أنت المجلدات الثقيلة والقواميس وأنا سأحمل الدفاتر وضحكت بصوت يشبه انفراط وريقات زهرة في فراديس مجهولة .. هل تصدق لو قلت لك إنني ومنذ عشرين عاما اسمع صوتها كل يوم .. أشمّ عطرها .. كانت تتعمد أن تخيم بشعرها الأسود الكثيف عليّ وأنا منهمك بالقراءة .. ارفع رأسي فأرى عيونها المغرورقة بالطهر والطيبة والصفاء.. آه من هذا الأسى الشائك وهذا الاسترجاع المفجع والأليم .

صديقي سعد هو الوحيد الذي احترم وقدر ما أنا فيه حلّفني مرات كثيرة عن سرّ هذا الحب الهائل وهذه العلاقة الوثيقة كان يشك إنني اعرفها منذ زمن طويل .. فأسبوع واحد لايكفيبنظره لكل هذا الوفاء والألفة والهيام الأبدي . وكنت دائما أجيبه بعبارة واحدة لاتتغير يا سعد يخطئ من يظن إن للزمن دورا في صنع المحبة .. المحبة الحقيقية هي التي تصنع الزمن !

أسبوع واحد فقط .. سبت .. أحد .. إثنين .. ثلاثاء .. أربعاء .. خميس .. جمعة .. السبت طرقت الباب بيدها اليمنى  كانت تحمل نظارة شمسية ذات عدسات مستطيلة وترتدي قميصا بنفسجيا فاتحا ينتهي بحواف سوداء .. ينسدل على تنورة بنفس اللون لكن بتدرج مختلف .. وتطوق رقبتها بقلادة من خرز ازرق .. حقيبتها الجلدية سوداء بها رسم لفراشة مذهبة .. جالت بنظرها بعد أن استأذنت من الأستاذ ثم جاءت لتجلس بجانبي كنا أكثر من خمسين طالباوطالبة وسط قاعة كبيرة .. قالت بصوت خفيض .. أتمنىأن لا أزعجك بحضوري المتأخر فأي حضور أطغى من هذا الحضور وأي إزعاج أعظم من هذا لإزعاج .

فتحت دفتري وكتبت أمامها بخط كبير وواضح .. التاسعة صباحا بعد مضي شهر من الدراسة سأتعرف على طالبة جديدة اسمها ….. فأخذت القلم وكتبت بحروف انكليزية وبسرعة وحسم Nahla صباح اليوم التالي كنت أقف على حافة الرصيف مع سعد لما رأيتها من بعيد نزلت مهرولا فقالت بصوت ضاحك هل اشتقت لي ؟ فقلت لها وأناأكاد ابكي إنني أحبها .. فضحكت وهزت يدها مستغربة ثم أضافت بنبرة جادة .. عندما دخلت أمس كان هناك الكثير من المقاعد الفارغة لكنني الفت وجهك  أحسست إنني أعرفك لا أعرف لماذا لكنني أظن إن وراء الأشياء التي لانفهمها سرا ما .. اسمع الحياة أمامنا طويلة .. طويلة .. طويلة لا تنسكب أمامي مثل جرّة ماء احتفظ بهذا الصدق لأعوام قادمة هيا أمامنا العمر كله لنتحدث .. السبت الثالثة ظهرا خرجنا.. سرنا مسرعين وسط حشود الطلاب .. لماذا لم نقف عندما طلبت منا نجود ذلك .. كانت تستنسخ بعض الأوراق .. لكننا وصلنا سيرنا السريع لماذا لم نقف ثانية واحدة كانت ستغير حياتنا الى الأبد ثانية واحدة .. خطوة متعثرة .. التفاتة الى شيء ما .. لحظة واحدة كانت كفيلة بالحفاظ على حياة كاملة .. نهلة جائعة .. آه .. ماتت وهي جائعة .. اعذرني لاأستطيع السيطرة على هذه الدموع الساحة على خدي مثل سرب دود .

قال لي طبيب عالجني ذات يوم :إن البقاء رهن لحظة ما .. أمر خطر ومدمر ..ثم أضاف بلهجة آمرة اعبر .. اعبر نحو لحظات أخرى وليتني لم اعبر .. لو بقيت لحظة واحدة لأمتزجنا معا ..

أنا لا أكذب فبقدر حبي للحياة أحببت الموت مع نهلة والله كان ندمي الأكبر إنني لم انتظرها تلك الثانية لنعبر معا . صاح سعد اعبر .. اعبر .. لكن نهلة لم تعبر أبدا .. ثمرة الموز الناضجة ذابت تحت عجلات سيارة عسكرية ملطخة بوحل مقرف سيارة عائدة من حرب ما .. صمت كل شيء سوى صفير رنان في أذني أصبح كل شيء يسير ببطيء صمت .. صمت وصفير .

شعرها الأسود الطويل ابتلّ بدمها .. خرز قلادتها ملأ الشارع وتحت العجلة الخلفية رأيت يدها وبقايا قميصها البنفسجي رائحة حرق الإطارات امتزجت مع رائحة دمها ظل وجهها الذي وضعته بين كفيّ شاخصا الى السماء عيونها مفتوحة على اتساعها .. نهلة .. نهلة .. نهلة .. نهلة .. تقافز الجنود من مؤخرة السيارة ولملموها في بطانية خاكية وسحبني سعد بعد أن تخشبت بعد شهر انتقلت الى جامعة بعيدة لم أشاهد ذلك الشارع مجددا .. سافرت كثيرا .. عملت في مهن شتى عانيت من نوبات صداع وتقيؤ وصمم مؤقت .. بكاء غزير .. حاولت أن أعيش أنأنسى تلك اللحظة لكن دون جدوى .. تلك اللحظة أحرقت شيئا ما في داخلي شيء يحترق لمرة واحدة فقط.

بعد أيام سأتم الثامنة والثلاثين .. ومازلت انتظر نهلة .. انتظر دخولها القاعة لتعتذر عن حضورها المتأخر.

نصير جابر الفتلاوي – القادسية

مشاركة