قصة قصيرة
دمعتان
فوزي الطائي
بغداد
كل شيء على ما يرام، يومٌ يزدهر بإشراقة وضاءة، وأحلام وأحداث تتلاشى، وأخرى تولد من جديد، رغم هذا، هو اليوم بحاجة لأن يحزن، فالتجهم البادئ على قسمات وجهه يفصح عن غيمة سوداء تقترب ؛ تسوقها عاصفة، ويحدو بها برق يخلب الألباب، وصوت رعد تهتز له جدران نفسه، أراد ترتيب أشيائه، حسب لكل خطوة مسافة، ولكل كلمة وقتاً، لم يسبق أن وضع حدوداً لذلك من قبل، فهو يمتلك حرية شخصية، يبدد الهموم، ويكسر القيود ما لم تكن عامة، أعز ما لديه حريته وما عدا ذلك قابل للجدل والتأويل، وهذا اليوم ككل يوم آخر كل شيء يبدو اعتيادياً، زملاؤه في الدائرة ودودون معه، لم تحصل له مع أحدهم مشكلة، ربما لأته حديث عهد بهم، أو هو يؤثر السلامة، أو بحكم خبرته في الحياة وهو يتسلق سلم (شباب) الأربعينيات، لم يبدُ عليه أنه شاخ.. كلمات شريكة حياته يوم أمس تركت لديه قلقاً خفياً :
– الحمد لله بشائر خير بدأت في سيماء رأسك يا أبا علي
– الحمد لله على كل حال.. ما هذه البشارة يا أم علي ؟!
– كثُرَ الشيبُ في رأسك !
– وهل هذه بشارة.. ما دلالة هذا ؟
– دلالته أنك أصبحت كهلاً.. ولن ترغب فيك النساء بعد اليوم.. مثلما كنت أخشى أن تلعب لعبتك فيما تبقى لك من روح شبابية آفلة وتروح فتتزوج بامرأة أخرى وتتركنا نهباً للضياع..
ضحك بتكلف.. لم تكن له حاجة للدفاع عن تهمة علقت على مشجب الماضي.. ولم يكن موضوع الغيمة السوداء محض خيال.. لاسيما وفصل الشتاء بدأ وفيه تكثر الغيوم البيض والسود.. كما إن أبا علي لا يؤمن بالخوارق ولا يدّعي علماً بغيب.. وهذه ليست هي المسألة، لنقل : شتاء جديد.. ويريد أن يرينا نفسه.. بغيمة مبرقة أو زخة مطر أو لسعة برد.. لكن ما تفسير الحاجة الماسة لأن يحزن هذا الرجل، وأن يفل بمفاتيح روحه خزائن بهجته وينثرها وكأنه على موعد مع سفرة قد تطول، آه.. ما أكثر التهم الباطلة في هذا الزمن، ليس بخلاً أن تقتصد بفرحك.. وليس كرماً أن تزهد فيه.
جلس إلى منضدته.. بدأ يقلب رزمة من الأوراق القديمة.. يتصفح بعضها، ويمزق الأخرى.. جاء له موظف الخدمة بقدح الشاي.. أدار الملعقة ببطء فأصدرت صوتاً متناغماً.. شرب رشفة من القدح وترك الباقي.. حانت منه حركة غير محسوبة فانسكب الشاي على طرف ملابسه.. جلب انتباهه هذا الحدث البسيط.. عاد بذاكرته إلى عهد صباه عندما سمع من أمه : إنه لنذير شؤم إن سقط الشاي عليك يا ولدي مثلما هو فأل حسن إن سقط الماء. بدأ يخشى من زملائه أن يقرؤوا معالم الحزن على وجهه فلا يجد لذلك تفسيراً. ولاسيما أن كل شيء على ما يرام كما قلت : حياته مع أسرته هانئة، وعلاقته مع مدير دائرته طيبة، لا يوجد ما يعكر صفو يومه سوى شعوره المستفز هذا اليوم لأن يحزن وأن يكتئب.. كثير من الناس يصيبهم هذا (الإكتئاب) ولا يجدون علاجاً له حتى عند الأطباء، لأنه نابع من أعماقهم، لو كان مرضاً عضوياً لهان الأمر، ولكن الأمراض النفسية صعبة العلاج، لم يرَ طبيباً نفسياً عالج مجنوناً وبرئ، ما باله مكتئباً.؟ بالأمس كان لا يشبع من المسارة مع أبنائه وأصدقائه. نهض بخطواته الهادئة نحو فناء الدائرة الكبير، شبَكَ يديه خلف ظهره وانطلق يتمشى متأملاً دخول وخروج الموظفين والزائرين، لعله يطرد هذه الوساوس عن صدره، الوقت يمضي سريعاً.. يقترب من الزوال، والشمس احتجبت خلف الغيوم..
كانت (هدى) زميلته الأقرب إلى نفسه في الدائرة ترقب حركاته، تعوّد أن يرى منها ابتسامة يافعة.. لوّحت له بيدها بتحية الصباح من بعيد وهي تقطع المسافة ما بين غرفتها وغرفة المدير، عندما رد التحية شعر أن يده ارتفعت كثيراً على غير العادة.. كأنما هي تلويحة وداع بمنديل، وليس رداً لتحية بيد عارية. انعطف قليلاً إلى اليمين.. سلك الممر المفضي إلى غرفة هدى علّه يجد عندها خبراً جديداً عن شيء مهم أو غير مهم..
عندما طرق الباب مستئذناً بالدخول.. التفتتْ صوب الباب بوجلٍ ظاهر، فبدت عيناها طافحتين بوضوح..
راعه المنظر، قال مواسياً : هنيئاً للذي تبكين من أجله.. لا أبكاك الله أبداً.
قالت وسط ابتسامة شقت طريقها بين دمعتين : أبداً.. هذا من فعل الزكام.. وسحبت منديلاً ورقياً مسحت به وجهها فأضحى أكثر نصاعة، مرت لحظات صمت، قبل أن يجلس محمد أبو علي، قرقعت السماء بعدها وزمجرت.. فأسرعت هدى نحو شباك الغرفة الوحيد وأزاحت ستارته المزركشة، فاتحة نصف الشباك، قالت : أنظر..! كانت الغيمة السوداء قد اقتربت كثيراً.. والبرق يضيء أفق السماء.. أعاد النظر إلى عينيها البنفسجيتين.. ثم إلى الخارج فرأى أن الغيمة قد أطبقت.. وثمة سيارة عسكرية مرقطة حلت فجأة في المكان، وعلى الفور هبط منها جنود مسلحون..
عندما انطلقت السيارة العسكرية عائدة، كانت الغيمة السوداء قد غطّتْ عينيه تماماً.. وغاب عنه وجه هدى.. والدائرة.. والأبناء.. والأشياء.. فيما بقيَ المطر النازلُ يضرب بعنفٍ وجه الأرض.



















