(بلطجية) الإعلام ولغة الشوارع – ياس خضير البياتي

فك التشفير

(بلطجية) الإعلام ولغة الشوارع – ياس خضير البياتي

مثلما تناسلت الفضائيات العراقية بعد عام 2003  تناسلت معها البرامج السياسية والحوارية ،وتناسل معها جموع غفيرة من الاعلاميين من كل حدب وصوب، وتأسست نماذج مختلفة من الفضائيات حسب الطائفة والقومية والدين والحزب والقبيلة والمؤسسة والمليشيا والممولة خارجيا ،مثلما دخلها ايضا طارئون على المهنة من تجار الاغنام والابقار والخضروات، وباعة الطرشي  وسراق المال،مما سبب فوضى في الحياة العراقية لامثيل لها ، واصبحت هذه الفضائيات مع الاسف أحد مصادر الرأي العام العراقي ،ورافدا لمسارات العملية السياسية وتعقيداتها المختلفة ،مما جعل هناك تنوع في البرامج لكسب المشاهد، مثلما اصبحت سوقا سياسيا  لعرض منتجات السياسيين للتسويق لأحزابهم ، ولشخصياتهم (المبجلة) التي لم يحلموا يوما ان يكونوا ابطال الشاشة العراقية ،بوجوههم التي لاترى فيها نور الله والوطن،مثلما لم يحلم العراقي يوما ان يرى بعض هذه الوجوه الكالحة التي ينقصها الكثير من اتكيت الحديث ، وعمق التحليل السياسي ، وصدق القول!

لا يستطيع أحد إنكار ان مستويات القنوات العراقية شهدت تطورا وتراكم خبرة، وهي تتفاعل مع المتغيرات التقنية التي يشهدها عالم الميديا بتسارع محموم ، وما تحدثه هذه البرامج من أثر وتغيير الوعي السياسي للمشاهد العراقي، وكذلك للعملية السياسية المريضة بالفساد والمحاصصة، وجرثومة الطائفية، مثلما لا ننكر التطور الفني لهذه البرامج، ومنسوب حرية الرأي المرتفع المقنن، وولادة أكثر من مقدم. لكن معظم هذه البرامج لا تخرج من عباءة بعض البرامج العربية الحوارية التي تعتمد على نماذج الاثارة ، ونموذج( اشعال الحرائق)،واختيار الشخصيات ذات الطبيعة الانفعالية ،او الاستعراضية التي تمارس سلسلة درامية من الفضائح السياسية والشخصية ،والتلاسن الشخصي ،وتبادل الكلمات البذيئة ،واللكمات اللفظية ،وأحيانا الجسدية ،بينما يشكو كثير من متابعي تلك البرامج، أنهم وبدلاً من الاستماع لمادة سياسية على مستوى عالٍ من التحليل السياسي ، يتفاجؤون بأنهم أمام قناة تعرض لهم شتى أنواع التهريج والاثارة والتهييج بشكل فج ومقزز وكريه .

مهنة التهريج

 وبدون تحديد الاسماء، ومايدور في كواليس الفضائيات، فأن الحالة الاعلامية شهدت بروز اسماء قليلة لامعة من الوزن الثقيل، مقابل اسماء كثيرة مهرجة صنعتها الاحزاب وتجار السياسة، تفتقر الى المهنية والحرفية والموضوعية، والثقافة العامة، وامتلاك اللغة السليمة، ومعرفة ناقصة بفنون الحوار الاعلامي وأخلاقياته، لكن الجميع يقع ضمن دائرة الاحزاب والشخصيات وضغوطهم السياسية، مما أثر على مهنية المقدم وحريته، مثلما أثر على اتجاهات الجمهور ومزاجه العام، واختياراته السياسية والطائفية، وأفكار لفقه السياسي والمعرفي. لكن الأخطر اليوم ،هو ان تتحول لغة الشارع الى الشاشة الصغيرة، خاصة إذا كانت هذه اللغة هي لغة (البلطجية) حسب تعبير إخواننا المصريين ،و(شقاوات) الاحياء الشعبية، لتنتقل معها المفردات الشعبية البذيئة والكريهة الى المشاهد والعائلة، لأن البعض الذين أصيبوا بعقدة (العظمة)،ونالوا شهرة مزيفة أو حقيقية، بدأوا يعتقدون ان قنواتهم ملكا لهم، وأنهم كما يقول الوردي رحمه الله في تفسير الشخصية العراقية (شخصية مزدوجة غريبة الأطوار، ومضخمة الأنا، وسلطوية الرأي، وشايف نفسه…الخ)، وهذا يعني بأن ما يجري اليوم على شاشاتنا اشبه بمعارك قبلية شعارها الثأر ،وقتل الآخر ،وانتهاك خصوصيات العوائل والافراد بطريقة همجـــــية بعيدة عن لغة التحضر ،وقيــم واخلاقيات الاعلام ورسالته الإنسانية .

صبية الاعلام

شاهد القول ،ان فك تشفيرالبيئة السياسية العراقية وامراضها المزمنة ،وهي البيئة الملوثة بالفساد والطائفية،أنعكست على توجهات القنوات الفضائية ،ولا سيما على البرامج الحوارية وملاكاتها من المعدين والمقدمين ،حيث تلوثا بالصفقات السرية التي تجرى وراء الكواليس، وبلعبة السياسة العراقية الانتهازية، لتنتج لنا برامج هدامة، يرتفع فيها منسوب الطائفية والعنف والكراهية الى اعلى الدرجات،وتنتشر روح الانتقام السياسي والمجتمعي ،وتتهدم أسيجة الوطن بأفعال التسقيط السياسي ،والصفقات المالية التي تزكم الانوف،مثلما تنتج لنا ملاكات اعلامية انتهازية ومنافقة، وهم يمارسون افعالا بعيدة عن المهنية،بعقد الصفقات مع الأحزاب،واشعال فتن الطائفية ،مما انعكس على ادائهم المهني وعقيدتهم السياسية ،وهو الأمرالذي نجده عمليا في انتقال البعض منهم الى اكثر من قناة،وتغيير مواقفهم وافكارهم بطريقة مخجلة دون أحترام لمهنتهم وشخصيتهم ولمشاهديهم.

نحن اليوم امام معارك جاهلية بامتياز، يتبارى فيها (صبية) الاعلام .. معارك من نوع جديد فيما بينهم للتسقيط: بذاءة الالفاظ، الكلام القبيح، الوقاحة في القول، فحش اللسان، الثأر القبلي والطائفي، التهييج والتهريج، والتشهير الشخصي والعائلي، وكأنهم في شوارع (شقاوات)، وملاهي الليل، وليس على شاشة يشاهدها الملايين من الناس المحترمين.

صناع الشتائم

ومثلما جعل سياسيو العراق الجديد الكثير من الناس يترحم على النظام السابق، وساعدوا على ارتفاع   منسوب الحنين الى الامس، وأجبروهم على عقد  المقارنات بين الماضي والحاضر، فأن نجوم اعلام الفوضى والتهريج، وممارساتهم الصبيانية، هي الاخرى دفعت الكثير من عباد اليوم يترحم على زمن القناة الواحدة، وعلى رصانة وأدب مذيعي ومقدمي البرامج في أيام مضت، واحترامهم للعائلة العراقية. اليس عيبا ان تتحول الفضائيات العراقية الى ساحة لعدد من المقدمين ، الذين صنعتهم المصادفة ، وأسمنتهم الاحزاب والتجار واصحاب المال الحرام ، واستثمروا زمن الفوضى والخراب ،ليصنعوا لهم مجدا كاذبا من خلال اساليبهم الاعلامية الممجوجة ،وخطاباتهم الثورية الرنانة ،وتثوريهم للطائفية ،حتى ظنوا بأحلامهم المريضة  انهم فرسان التغيير،واصحاب القرار، مع انهم يمارسون دورا مخربا في تدمير قيم الجمهور بأنتهازيتهم وفسادهم وامراضهم النرجسية ،وممارساتهم القبيحة عبر برامجهم في شتم بعضهم بعضا بالالقاب الخادشة ،والالفاظ  السوقية المبتذلة ،والتسقيط غير الشريف من خلال الفيديوهات ،ونبش التاريخ !

 وقديما قالوا: ان لم تستح فافعل ما شئت !،ولو كان هناك شيء من الحــــــياء لديهم، لقلنا إن الذين استــحوا ماتوا!!وأخيرا نقول: اعتبروا يا أولى الألباب … ثقفوا الشعب على لغة التحضر والحياة، لا على لغة (حانات الليل) و(وشطار وعياري) الشوارع!!