حسن النواب
عندما تكون إجازتي بيومها الأخير أشربُ كثيرا؛ وأترك « بطل عرق « في خزانة مكتبتي، كانت أمي تحرص على مروري من تحت القرآن ساعة التحاقي إلى جبهة الحرب؛ ودمعة حائرة بعيني لو أجمع كل قواميس اللغة لا تصفها؛ بينما عبرات أمي تتساقط مثل نجيمات منصهرة على الأرض فيرتعش القرآن بيدها النحيلة؛ أسمع صوتها المنكوب:
- «يمه بلال ليش تخلي بطل عرگ بالبيت وأنا أصلّي؟»
- حتى يبقى عندي أملٌ لأعود وأشربه.
في الطريق إلى مرآب المدينة تباغتني ذكريات حياتي الجامعية..
كان الوقت عصراً حين جاءت إلى رابية قريبة من نهر دجلة يتقدمها عطر المسيح الساحر وهي ترتدي الزيِّ الجامعي، تنورة بلون الرماد وقميصاً بلون قلبي، هبطتُ من الرابية بخفَّة أرنب حتى لا يرانا أي كائن على الأرض لحظة اللقاء. وقفتْ على بعد أمتار وتأملتني بغضب ثم سمعت صوتها وأصابعها الشمعية تدلك صورة مريم الذهبية الغافية على صدرها الذي يشبه قطعة مرمر في ضريح مقدَّس..
- انت سكران؟
- الوطن كله سكران بالحرب يا ..
قبل أنْ أنطق اسمها زفرتْ ساخطة لتضع سبابتها على أنفها الذي يعجبني التمعن فيه لروعته، لم أر في حياتي أنف امرأة بأناقته..
- اشششش .. لا يسمعك السفلة؟؟
استدرت بوجهي إلى المعهد الزراعي الذي ندرس فيه، رأيته حينها عبارة عن مستوطنة مليئة بالأوغاد؛ حاولت إيجاد كلمة تناسب تحذيرها لكني فشلت، اخرجت بطحية العرق من جيب بنطالي وكرعت جرعة قوية حتى رأتْ لعابي يسيل على لحيتي التي طالت، شعرتُ أنَّ الجرعة التي شربتها أكثر من طاقتي فأغمضت عيني وحبستُ أنفاسي كيلا ألفظها من معدتي، لامس شفتيَّ شيف برتقال يقطر عطرًا، فتحت عيني لأرى يدها تمسك برتقالة مقشَّرة وتحاول أنْ تطعمني ما استطاعت منها؛ كادت دمعة تنزلق من عيني لكني تماسكت وتذكرت رواية الأم لمكسيم غوركي في حينها، سألتها هل قرأت تلك الرواية؟
ضحكتْ عيناها ولمع دمعٌ بعيد في مجاهيلها.. كأنها صفعتني حين قالت:
- عندي رواية الشرق المتوسط أروع منها.
اختفينا خلف تراب السدّة التي تفصلنا عن أنظار الآخرين وشربت جرعة أخرى؛ وإذا بها تدنو مني لتقرفص بجواري وألقمتني شيف برتقال، لثمتُ أنفها بغتةً وحين أردت تكرار ذلك مانعت بلطف، غمرتني سعادة مبهمة وسال الدمع على خدي، قلت بنبرةٍ مختنقة:
- ما هي إلا شهورًا وأكون في المحرقة.
- سيتوقف قلبي إذا رأيتك في ملابس الحرب.
بدأتْ تداعب شعري المنسدل على متني كهندي أحمر؛ ثم رفعتْ كفَّها لتستقرعلى شفتي، شعرت أنَّ فراشة أغلقت فمي بجناحيها فنهضت متفادياً نيران الرغبة التي توهجت في عروقي؛ أخذتُ بيدها إلى بستان التين، وتوغلنا في عمقه حتى وصلنا إلى ضفة نهر دجلة ونحنُ نراقب زورقاً بعيداً لصيادين ولمحت الشبكة تستقر على وجه الماء، استلقيت على ظهري من الثمالة كعشبة داستها قدم ثور؛ عصرتْ شيف برتقال على وجهي، ثم بدأت تلطع عصارته من على خدي؛ كنتُ أرى وجهها مع شمس الغروب رغيف خبز شهي، رفعتُ رأسي إلى شفتيها وماعدت اتذكر شيئا.
• طلب مني ضابط الاستخبارات الحضور أمامه، في الطريق إليه كان القصف عنيفاً؛ تمنيتُ شظية تخمد قلبي قبل الوصول إلى مكانه، في ملجئه الذي كان بارداً مثل دمي من خوفي وقلقي، سألني بوقاحة:
- ما علاقتك بمظفر النوّاب؟
- هو عمي الذي لم أره في حياتي.
- ولماذا تقرأ كثيراً؟
- لأطرد هاجس الموت الذي يلازمني.
نفث دخان سيجارته بوجهي، كأني لمحتُ في عينيه شفقةً نحوي، راح يقلِّب بأوراقٍ على مكتبه، فشعرتُ بالأمان قليلا، رفع رأسه لينظر نحو وجهي، صفنَ برهةً ثم قال:
-أنت سائق دبابة شجاع
لذتُ بصمت عذَّبني، وتفاديتُ سقوط دمعة لو كانت قد انزلقت من عيني لتهشَّم كبريائي، فجأة سمعنا زعيق قذيفة انفجرت قريباً من ملجئه، بعض شظاياها ثقبتْ خزان الماء الذي يستحم منهُ، سمعنا خرير الماء فارتبك بينما كنتُ في خَلَدي فرحاً لما حدث؛ قال بسرعة:
- عد إلى ملجئك، سأكمل التحقيق معك في وقت آخر.
عندما خرجت تمنيتُ لو كانت بندقية في يدي حتى أطلق الرصاص على قلبي واستريح من هذا الإذلال الذي كان يسحق بكياني.
• ورقتان من روايتي الجديدة بِركة الضفادع.