المتأمل

hassan alnawab

كلام مسموع

حسن النواب

في‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات‭ ‬بدأ‭ ‬المتأمّل‭ ‬يرتاد‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء،‭ ‬كان‭ ‬الحصار‭ ‬اللئيم‭ ‬قد‭ ‬هيمنَ‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬مفاصل‭ ‬الحياة‭ ‬بلا‭ ‬رحمة،‭ ‬لكنَّ‭ ‬المتأمّل‭ ‬كان‭ ‬يتمتّع‭ ‬بدخلٍ‭ ‬جيد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬مصدره‭ ‬أحدٌ‭ ‬من‭ ‬جلاّس‭ ‬مائدته،‭ ‬وخلال‭ ‬أسابيع‭ ‬ذاع‭ ‬صيت‭ ‬كرم‭ ‬وطيبة‭ ‬المتأمّل‭ ‬بين‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬يحرصون‭ ‬على‭ ‬الحضور‭ ‬كلَّ‭ ‬مساء‭ ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء،‭ ‬كان‭ ‬يغادر‭ ‬النادي‭ ‬بجيوب‭ ‬فارغة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يغدق‭ ‬بكرمه‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أصدقائه‭ ‬وحتى‭ ‬الغرباء‭ ‬أيضاً،‭ ‬وعرفتُ‭ ‬من‭ ‬آخرين‭ ‬أنَّ‭ ‬المتأمّل‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬شعراً‭ ‬عمودياً‭ ‬ويمتلك‭ ‬مقدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬بالنحو‭ ‬والصِرف،‭ ‬ثم‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬نثر‭ ‬ذهنية‭ ‬تأمُّلية،‭ ‬ذات‭ ‬نهار‭ ‬التقيتُهُ‭ ‬لأوّل‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي؛‭ ‬تجاذبنا‭ ‬أطرافَ‭ ‬الحديث‭ ‬وعرفتُ‭ ‬أنّهُ‭ ‬يتابع‭ ‬بحرص‭ ‬ما‭ ‬كنتُ‭ ‬أنشرهُ‭ ‬من‭ ‬مذكّراتٍ‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الثانية،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬المتأمّلَ‭ ‬أعلنَ‭ ‬أمامي‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬مذكراتي‭ ‬بكتابٍ‭ ‬على‭ ‬نفقته‭ ‬الخاصة؛‭ ‬لم‭ ‬يتركني‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬النهار،‭ ‬إنما‭ ‬اصطحبني‭ ‬معه‭ ‬للتجوال‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الشورجة،‭ ‬وبدأتُ‭ ‬أتعرّف‭ ‬على‭ ‬شخصيته‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬وأسراره‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أصدقائه،‭ ‬جلسنا‭ ‬مع‭ ‬تجّارٍ‭ ‬كبار‭ ‬وعلمتُ‭ ‬من‭ ‬حديثه‭ ‬معهم،‭ ‬أنَّ‭ ‬المتأمّلَ‭ ‬تعرّض‭ ‬إلى‭ ‬خسارة‭ ‬فادحة‭ ‬بسبب‭ ‬الحصار،‭ ‬وإضطرَّ‭ ‬إلى‭ ‬بيع‭ ‬معمل‭ ‬لإنتاج‭ ‬الحلوى‭ ‬بثمنٍ‭ ‬بخس،‭ ‬كان‭ ‬يأمل‭ ‬إعادة‭ ‬مافقدَهُ‭ ‬بمعونة‭ ‬أولئك‭ ‬التجّار‭ ‬لكن‭ ‬محاولاته‭ ‬ذهبتْ‭ ‬أدراجَ‭ ‬الرياح،‭ ‬ذلك‭ ‬أنَّ‭ ‬الواقعَ‭ ‬المرير‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬يقول‭: ‬لا‭ ‬أحدَ‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬منح‭ ‬قرض‭ ‬بالآجل‭ ‬حتى‭ ‬لأقرب‭ ‬أحبّائه‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬إقتصادي‭ ‬حرج‭ ‬ومتقلّب،‭ ‬وإفترقتُ‭ ‬عنهُ‭ ‬لشهور‭ ‬عدّة‭ ‬منشغلاً‭ ‬بتدبير‭ ‬مستلزمات‭ ‬زواجي،‭ ‬حتى‭ ‬عدتُ‭ ‬بلهفةٍ‭ ‬أبحث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬العثور‭ ‬عليه،‭ ‬وجدته‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي،‭ ‬وأخبرتُه‭ ‬أنّ‭ ‬والدة‭ ‬عروستي‭ ‬طلبت‭ ‬مني‭ ‬ستائر‭ ‬لغرفة‭ ‬العرس‭ ‬مع‭ ‬‮«‬‭ ‬طابورية‭ ‬‮«‬‭ ‬مقعد‭ ‬إسطواني‭ ‬مغطّى‭ ‬بقطعة‭ ‬قديفة‭ ‬لمّاعة‭ ‬تجلس‭ ‬عليها‭ ‬العروس‭ ‬لتتزيّن‭ ‬أمام‭ ‬المرآة،أدركَ‭ ‬أنّي‭ ‬لا‭ ‬أمتلك‭ ‬النقود‭ ‬لشرائهما،‭ ‬ثم‭ ‬طلبَ‭ ‬منّي‭ ‬النهوض‭ ‬واصطحبني‭ ‬إلى‭ ‬بيتٍ‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الصليخ‭ ‬يعود‭ ‬لأحد‭ ‬أقربائه‭ ‬،أذكر‭ ‬أنَّ‭ ‬خادماً‭ ‬مصرياً‭ ‬استقبلنا‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬ثم‭ ‬جلسنا‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬الدار‭ ‬الفسيحة‭ ‬حتى‭ ‬أقبلَ‭ ‬رجلٌ‭ ‬يرتدي‭ ‬دشداشة‭ ‬من‭ ‬الحرير‭ .. ‬رحّبَ‭ ‬بنا‭ ‬بحرارة‭ ‬وبدون‭ ‬مقدمات‭ ‬بدأ‭ ‬المتأمل‭ ‬بالكلام‭ :                  

‭- ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬العم‭ ‬؛كما‭ ‬تعلم‭ ‬أنَّ‭ ‬السادة‭ ‬حرام‭ ‬عليهم‭ ‬الصدقة‭ ‬؛‭ ‬لا‭ ‬يأخذون‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬أقرانهم

فهمَ‭ ‬الرجلُ‭ ‬الوقور‭ ‬مبتغى‭ ‬صديقي‭ ‬المتأمّل؛‭ ‬نهض‭ ‬وغابَ‭ ‬لدقائق‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬ليضع‭ ‬بيدي‭ ‬كيساً‭ ‬ورقياً‭ ‬محشوّاً‭ ‬بالدنانير‭ .. ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬بحنان‭:‬

‭- ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬فَرقٍ‭ ‬بيننا‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ .‬

تمكنتُ‭ ‬بتلك‭ ‬النقود‭ ‬من‭ ‬شراء‭ ‬ستائر‭ ‬الغرفة،‭ ‬أمّا‭ ‬مقعد‭ ‬زينة‭ ‬العروس،‭ ‬فقد‭ ‬قرّرَ‭ ‬المتأمّل‭ ‬إهدائي‭ ‬‮«‬طابورية‮»‬‭ ‬زوجته‭ ‬؛‭ ‬بموقف‭ ‬نبيل‭ ‬يفيض‭ ‬حناناً؛‭ ‬تجسّد‭ ‬فيه‭ ‬الإيثار‭ ‬ونكران‭ ‬الذات‭ ‬ممّادعاني‭ ‬إلى‭ ‬البكاء؛‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬المتأمّل‭ ‬يبيع‭ ‬قطعةَ‭ ‬أثاثٍ‭ ‬من‭ ‬مقتنَياته‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬يوم‭ ‬ويغدق‭ ‬بثمنها‭ ‬على‭ ‬أصدقائه،‭ ‬حتى‭ ‬وصلتهُ‭ ‬دعوةٌ‭ ‬من‭ ‬رابطة‭ ‬الكتّاب‭ ‬الأردنيين‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬،‭ ‬وجدها‭ ‬فرصةً‭ ‬لن‭ ‬تتكرر‭ ‬،‭ ‬كأنها‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬؛‭ ‬ليهاجر‭ ‬الوطن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضاق‭ ‬ذرعاً‭ ‬باضطهاد‭ ‬السلطة‭ ‬الدموية‭ ‬واشتداد‭ ‬قسوة‭ ‬الحصار،‭ ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬سوى‭ ‬سنة‭ ‬حتى‭ ‬التحقتُ‭ ‬به،‭ ‬وجدتهُ‭ ‬يكابد‭ ‬شظفَ‭ ‬العيش،‭ ‬وبرغم‭ ‬عسر‭ ‬الحال‭ ‬إحتضنني‭ ‬برعايته‭ ‬وأرشدني‭ ‬على‭ ‬أنجع‭ ‬الطرق‭ ‬حول‭ ‬قضيتي‭ ‬في‭ ‬منظمة‭ ‬شؤون‭ ‬اللاجئين،‭ ‬وسهر‭ ‬لياليَ‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬أرشفة‭ ‬مقالاتي‭ ‬وقصائدي‭ ‬حتى‭ ‬أكون‭ ‬نظاميّاً‭ ‬وليس‭ ‬عبثيّاً‭ ‬أمام‭ ‬المحامي‭ ‬الذي‭ ‬سينظر‭ ‬بقضيتي،‭ ‬بعدها‭ ‬ظلّ‭ ‬يترقّب‭ ‬وصول‭ ‬تذكرة‭ ‬الطائرة‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬لاجئاً‭ ‬الى‭ ‬أمريكا،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كان‭ ‬المتأمّل‭ ‬من‭ ‬أشدّ‭ ‬المتفائلين‭ ‬بسقوط‭ ‬جمهورية‭ ‬الخوف‭ ‬والرعب،‭ ‬حتى‭ ‬أنّه‭ ‬كتبَ‭ ‬قصيدةً‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬أوراق‭ ‬المعارضة؛‭ ‬كانت‭ ‬بعنوان‭ (‬الطاغية‭ ‬والوجه‭ ‬الدمويّ‭ ‬للحرب‭)‬؛‭ ‬ولمّا‭ ‬حانت‭ ‬لحظةُ‭ ‬وداعه‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬الملكة‭ ‬علياء‭ ‬يوم‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬أيّار‭ ‬عام‭ ‬2001،‭ ‬ذرفتُ‭ ‬دمعي‭ ‬بمرارة‭ ‬على‭ ‬فراقه،‭ ‬وهاهو‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬وغربة‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬عاماً‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬يعودُ‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬،‭ ‬هاتفني‭ ‬قبل‭ ‬يومين‭ ‬بصوته‭ ‬الحنون‭ ‬ناشداً‭ ‬منّي‭ ‬الحضور‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬لرؤيتي،‭ ‬أجبتُهُ‭ ‬بصوتٍ‭ ‬بحَّ‭ ‬من‭ ‬الشوق‭: ‬اذا‭ ‬رزقني‭ ‬الله‭ ‬سأكون‭ ‬هناك،‭ ‬أذكر‭ ‬عندما‭ ‬نشرتْ‭ ‬له‭ ‬جريدةُ‭ ‬الجمهورية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحصار‭ ‬قصائد‭ ‬بعنوان‭ (‬المتأمِّل‭ ‬بين‭ ‬العين‭ ‬والنهر‭) ‬والتي‭ ‬كتب‭ ‬مقدمة‭ ‬رصينة‭ ‬عنها‭ ‬الشاعر‭ ‬عبد‭ ‬الزهرة‭ ‬زكي‭ ‬،‭ ‬أنّ‭ ‬الوسط‭ ‬الثقافي‭ ‬تلقى‭ ‬نصوصة‭ ‬بالترحاب‭ ‬والإعجاب‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬،‭ ‬هذا‭ ‬المتأمّل‭ ‬يعرفه‭ ‬الوسطُ‭ ‬الثقافي‭ ‬بعبارة‭ ‬تبدو‭ ‬طريفة‭ ‬؛‭ ‬اذ‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ : ‬أيبااااااااااه‭ ‬كلما‭ ‬شعر‭ ‬بالدهشة‭ ‬والإعجاب‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬ما،‭ ‬انه‭ ‬الشاعر‭ ‬الحنون‭ ‬كمال‭ ‬العبدلي،‭ ‬حيث‭ ‬تُختزل‭ ‬الانسانية‭ ‬والطيبة‭ ‬والإيثار‭ ‬بشخصيته‭ ‬المدهشة‭ ‬حقاً‭ .‬

hassanalnawwab@yahoo.com

مشاركة