العراق و أوزبكستان.. جذورٌ تاريخية ومسارٌ يتجدّد

العراق و أوزبكستان.. جذورٌ تاريخية ومسارٌ يتجدّد

أحمد جاسم الزبيدي

لم تكن العلاقات بين العراق وجمهورية أوزبكستان وليدة اللحظة ولا نتاج التحولات السياسية التي أعقبت استقلال دول آسيا الوسطى. فالجذور تمتد أعمق من ذلك بكثير، إلى زمن الاتحاد السوفييتي، حين كان العراق ينظر إلى الشعوب السوفييتية، ومنها الشعب الأوزبكي، بوصفها شريكاً ثقافياً وتعليمياً يُسهم في بناء الكفاءات العراقية في مجالات اللغة والعلوم والثقافة. ومع مرور العقود، تحولت تلك العلاقات من تعاون محدود في إطار تنظيمي، إلى شبكة إنسانية واسعة من الذكريات والصداقات والتجارب العلمية التي حملها خريجو الجامعات الأوزبكية إلى وطنهم.

جذور العلاقات في الحقبة السوفييتية

بدأت ملامح التعاون العراقي–الأوزبكي بالظهور منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين عقد العراق اتفاقيات تعليمية وثقافية مع الاتحاد السوفييتي. وقد شملت هذه الاتفاقيات إرسال بعثات طلابية عراقية للدراسة في جامعات الجمهوريات السوفييتية، ومن بينها جمهورية أوزبكستان السوفييتية الاشتراكية.

تميزت العاصمة طشقند ومدن مثل سمرقند وبخارى وفرغانة بجامعات عريقة ومراكز بحثية مختصة باللغات الشرقية، الطب، الهندسة، الزراعة والفيزياء. وكان الطلبة العراقيون يحظون بفرص تعليمية رفيعة المستوى مكّنتهم لاحقاً من لعب أدوار فاعلة في الجامعات العراقية وفي مؤسسات الدولة.

جمعية الصداقة العراقية–الأوزبكية… جسرٌ ثقافي وإنساني

شهدت سبعينيات القرن الماضي ولادة جمعية الصداقة العراقية–الأوزبكية، وهي إطار ثقافي واجتماعي هدفه تعزيز التقارب بين الشعبين. نظمت الجمعية فعاليات مشتركة، معارض للكتاب، أسابيع ثقافية، لقاءات شبابية، واستقبلت وفوداً فنية ورياضية.

وكان لهذه الجمعية دور كبير في تعريف العراقيين بالثقافة الأوزبكية، من موسيقى وآداب وفنون شعبية، وفي المقابل فتحت نافذة واسعة أمام الأوزبك للتعرف على التراث العراقي العريق. وما زال كثير من أعضاء الجمعية  واخص بالذكر المرحومة اقبال خان تختاخوجايفا والشخصية الدبلومسية سليموف من الشخصيات التي ساهمت في تعزيز العلاقات الثنائية في مرحلة لاحقة.

الطلبة العراقيون في جامعات أوزبكستان… ذكريات جيلٍ كامل

منذ السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات، تزايدت أعداد الطلبة العراقيين الذين قصدوا الجامعات الأوزبكية، خصوصاً طشقند، سمرقند، بخارى، نمنغان، وأنديجان. درَس هؤلاء في تخصصات متنوعة:

الطب البشري وطب الأسنان

الهندسة بأنواعها

اللغات الشرقية والترجمة

الصحافة والإعلام

الزراعة والجيولوجيا

الرياضيات والفيزياء

تخرّج من تلك الجامعات مئات الطلبة العراقيين الذين عادوا لاحقاً ليصبحوا أساتذة جامعات، أطباء متميزين، مترجمين، إعلاميين، ومهندسين تركوا بصماتهم في مؤسسات الدولة العراقية.

وقد شكّل هؤلاء الطلبة، بذكرياتهم المشتركة عن السكن الطلابي، والشتاء الطشقندي، و”بازار تشورسو”، والعلاقات الإنسانية العميقة مع زملائهم الأوزبك، نواةً لجسر بشري وثقافي أصبح جزءاً من الذاكرة الجماعية بين البلدين.

مرحلة ما بعد استقلال أوزبكستان

مع إعلان استقلال أوزبكستان عام 1991، انتقلت العلاقات من الإطار السوفييتي العام إلى العلاقات الثنائية المباشرة. وبدأت الزيارات الرسمية المتبادلة، ووقّع البلدان اتفاقيات تعاون في:

التعليم

الثقافة

الأرشفة التاريخية

التجارة

الاستثمار

كما بدأ عراقيو تلك المرحلة، خصوصاً خرّيجو الجامعات الأوزبكية، بالعودة إلى طشقند لإحياء روابطهم الأكاديمية والثقافية، مستندين إلى تلك الذكريات التي لم تنطفء رغم العقود.

جالية عراقية صغيرة ولكن مؤثرة

ساعدت العلاقات التعليمية والثقافية القديمة على ظهور جالية عراقية محدودة في أوزبكستان، تضم أساتذة جامعات ومترجمين وإعلاميين ورجال أعمال.

وقد ساهم هؤلاء في مدّ جسور جديدة بين مؤسسات البلدين، خصوصاً في مجالات الترجمة، التعليم، والدبلوماسية الثقافية.

خريجو أوزبكستان… سفراء غير رسميين

اليوم، يشكل خريجو الجامعات الأوزبكية من العراقيين شريحة مهمة من النخب العلمية والثقافية. كثير منهم يتبوأ مناصب أكاديمية، وآخرون نشطون في الصحافة، التعليم، ومجال الترجمة بين العربية والأوزبكية والروسية. هؤلاء، بحكم معرفتهم العميقة بالمجتمع الأوزبكي ولغته وثقافته، أصبحوا سفراء غير رسميين للعلاقات بين بغداد وطشقند.

خاتمة: علاقة تنبض بالذاكرة وتتجدد بالمستقبل

تاريخ العلاقات العراقية–الأوزبكية ليس مجرد وثائق دبلوماسية أو زيارات رسمية، بل هو نسيج إنساني غني امتد لعقود. جيلٌ كامل من العراقيين نشأ في جامعات طشقند وبخارى وسمرقند، وتشرّب قيم الصداقة مع الشعب الأوزبكي، وعاد ليحمل تلك الروح معه إلى العراق.

واليوم، في ظل الانفتاح المتبادل والتعاون العلمي والثقافي المتجدد، تبدو هذه العلاقات مهيأة لمرحلة أكثر عمقاً، أساسها الجذور التاريخية والإرث المشترك الذي تركه خريجو أوزبكستان في ذاكرة العراق.

مشاركة