
فك التشفير
العراق والإمارات .. دورة الزمن والتاريخ – ياس خضير البياتي
ترددت أكثر من مرة في كتابة موضوع صحفي واحد عن الامارات خلال تواجدي فيها أكثر من ربع قرن، لأنني اعرف باليقين بأنني لن أسلم من (القيل والقال) و(الهمز واللمز)، لأنها جزء من ثقافتنا الاجتماعية، وممارستنا القبيحة، ونرجسيتنا المريضة، لولا حال العراق اليوم، وصورته المحزنة التي يدمن لها القلب، وعشقنا له، ومرضنا به، بعد ان كان عراقا حقيقيا بتألقه وعنفوانه. ولولا غصة النفس، وحسرة القلب، لما نشاهده في امارات الدهشة، وامنياتنا اليومية ان يكون عراقنا مثله، وان يتمتع أطفال العراق بما يتمتع به الطفل الاماراتي من دلال طفولي نادر، وان يحصد العراقي سعادة ورفاه الاماراتي، ورقي ما يقدم له. ولما لا فالعراق صاحب الفضل على البشرية حضارة وعلما وشهامة. وأعرف أيضا ان العراقي القادم الى الامارات سينبهر ويلعن حظه العاثر ويردد قولا مأثورا:(ليش ما نصير مثلهم…شنوا ينقصنا)، وماذا يعوز الوطن غير حكام تستنهض عراقتيهم الحقة، وتمتزج وطينتهم بطين حر الفراتين؟ نعم أنا على يقين ان المعدن لم يفقد معدنتيه، وأن تغير السابك لم يتغير المسبوك. أعترف ان الامارات تستحق بجدارة ان تكون ما نشيت كبير للتباهي بها، والتغزل بمنجزاتها، وجمالها الصحراوي المحدث بالحياة العصرية الحديثة، لأنني شاهد حقيقي على أيام تحديات البناء والتنمية ،وهي فترة كافية ان تعرف اسرار تطورها، ومنجزاتها المبهرة، وعالميتها بالمبادرات المدهشة، وتفوقها على دول كبرى في سعادتها، وتنميتها المذهلة ،ونظام جودتها ، وبنيتها التحتية، وطيرانها وموانئها ومطاراتها، ومجمعاتها السكنية الراقية، ومؤسساتها الرسمية ذات خمس نجوم، واسرار تدفق الملايين من البشر لسياحتها وفنادقها ومراكز تسوقها. الامارات في قياس الزمن والارقام، تجربة ثرية في البناء والافعال والإرادة، اختصرت دورة التاريخ بحكمة التنمية، وبعقل المستقبل، كأنها تريد ان تسابق الزمن التقليدي ، بزمن الارقام القياسية، لتحقيق رؤية الإمارات 2021 ?وعلى طريق إنجاز أهداف مئوية الإمارات 2071 ? حيث التطلع الى ان تكون أكثر البلاد مناطق العالم أماناً، وفي مقدمة الدول التي تقدم خدماتها الحكومية الذكية عبر الهاتف المتحرك، ولديها بنية تحتية عالمية ومتنوعة، ويجد فيها رجل الأعمال المستثمر ضالته، وتمتلك رصيداً متميزاً من المدارس والجامعات ورياض الأطفال على قاعدة الوصول إلى مخرجات بشرية متميزة وقادرة على تحمل مسؤوليات اليوم والغد. لذلك لم تبخل ان تضع أكبر ميزانية في تاريخها البالغة 180 مليار درهم للسنوات الثلاث، بمتوسط يبلغ نحو 60 ملياراً سنوياً، ومعظمه تم رصده في مجالات الإنفاق على ضمان رخاء المواطن، وتمتعه بصحة جيدة، وحصوله على أعلى قدر يطمح للوصول إليه من التعليم، وتمتعه بأعلى درجات الأمن والأمان على حياته وممتلكاته، حاضره ومستقبله.
نجومية الامارات
وبعد هل تحتاج الامارات الى شهادة صحفي يكتب عنها مجرد انطباعات عابرة، وهي نجمة تتلألأ في سماء العرب، لتضيء ظلمة العرب، وهي الشاهدة بأفعالها ونجوميتها العالمية، أم انني اريد توضيح رسالة ذا معنى ودلالة؟ الامارات هي الدرس الكبير، والتجربة الثرية، والتحدي المدهش بالإرادة، والانتماء للوطن، والابتكار للرقم الأول، بعد ان كانت امارة صحراء في البيئة والعقول والمنجزات، ولتجتاز دول عربية كثيرة بعصريتها وحداثتها، ومنها العراق، بعد ان كانت املها ان تصبح عراق السبعينيات، وأن يكون لها مدينة كالبصرة أو بغداد، وان تكون لها جامعات وتعليم وحياة مدنية، ورقي حضاري، مثلما عليه عراق الامس. بينما دورة الزمن تجعل العراقي يحلم اليوم ان يكون له مدينة تشبه أبو ظبي ودبي، وان يكون سعيدا ومرفها مثل الاماراتي، وان ينعم اطفاله برفاهية أطفالهم ومدارسهم وملاعبهم الجميلة ونافورتاهم الراقصة والمبهجة، بل يبتهلون الى الله ان ينعم عليهم بقادة يشبهون قادة الامارات وطنية وعطاء واخلاصا وحكمة. فماذا حل بالزمن ودورة التاريخ؟ نعم ستدهش عندما تعيش مدة طويلة فيها، لأنك ستكتشف ما تراه العين لأول وهلة، وتكتشف اسرار قوتها وحكمتها، وتكتشف تواضعها وتسامحها وكرمها وامنها وانسانها الأصيل، وحبها حد الدهشة للعراق، ولهجته العراقية، وقدسيته لعلم العراق وحضارته. مثلما سترى شيوخها الذين لا تغلق ابوابهم للمواطنين والمقيمين، فهي بيوت شامخة بأهلها لا ترضى الا ان تزورها وتتحدث مع أهلها. وابسط شيء في الامارات، على عكس أوطاننا، أنك تستطيع ان تدخل قصور الحكام، وكأنك في زيارة لأحد الأصدقاء، ولن تجد الاف الجنود والحرس والمدرعات في استقبالك كما يحدث في قصور حكامنا، بل ستجد ما لا تصدقه حتى في الاحلام، أنك تجالس حاكم امارة يخجلك تواضعه وبساطته وحديثه الحميم.
افعال… لا اقوال
الخبر اليقين في الامارات، يقرأ عندما تعيش معهم، حياتهم وتجربتهم ومنجزاتهم، لتكتشف بالأفعال، كم كانت هذه الدولة حريصة على بناء الانسان، وتدريبه عصريا، حتى تجد اليوم معظم قادة الامارات يقودون مؤسسات بلادهم بطريقة حديثة مدهشة، وكم شخصية إماراتية أخذت طابعا عالميا في خبرتها وسمعتها. ولو اردت ان تحصي عددهم وتخصصاتهم النادرة في السياسة والتنمية والطاقة المتجددة والاستثمار والمال والطيران والصناعة والتعليم والاقتصاد، لوجدنا صعوبة في ذكر الأسماء والالقاب. بل ان هذه الدولة السعيدة، هي دولة حياة بامتياز، وتدعو الى الحياة، وتحرض الناس على الحياة تحريضا، وتستقبل غدها بوعي المستقبل، وبلغة المستقبل. ومع ذلك يأتيك البعض ليفلسف لك الأمور بعقلية السبعينات وثورياتها، أو بعقلية الحاضر وجذورها الطائفية، ليضع لنا قائمة تبريرات لا تنتهي: العمالة والاستشاريين والمال، وكأن اوطاننا من الماس الصافي لا تحكمها الدول الكبرى والصغرى، وتاريخنا ناصع البياض، واقوامنا تعيش في مدن الفارابي الخيالية. ولقد وصلت من خلال النقاش الى حقيقة مفادها، ان البعض لا يريد معرفة الحقيقة، حتى ولو كانت ساطعة مثل الشمس، وله عناد جاهل، وعصبية أحمق، وتفكير قبيلة جاهلية، وتزمت طائفي. رغم انهم يعيشون في اوطان تخلف، لا تتناسب مع إنسانية الانسان، ويشكون ليلا ونهارا بما آلت فيه أوضاع البلاد والعباد! الامارات مدرسة كبيرة في الحكمة والتنمية، وأول درس تعلمناه هو الحاكم، فقد كان الشيخ زايد رحمه الله، حاكما حكيما، كان المؤسس الحقيقي للنهضة، والأب الحنون لكل الاماراتيين والمقيمين، لم يكن جنرالا عسكريا، وخبيرا اقتصاديا وصناعيا، انما كان عقله يتسع لكل هذا العلم بفطرية الحكيم، وحبه للعلم، وعشقه للوطن.
كان حالما وعاشقا ومعلما ووحدويا ومتواضعا وصاحب إرادة، لهذا أسس هذا الصرح المبهر للعالم بعقلية الحكيم، وأستعان بتواضعه بخبرات عراقية وعربية وعالمية لتأسيس الوطن الاماراتي.
وما العيب ان يستعين الحاكم بالخبرات المختلفة، وما العيب ان تستعين الدول بخبرات العالم ما دام حصاد الخير للشعب؟
فقاعة عبعوب
لا تقل لي يا صاحبي، اننا بلد الكبرياء والعزة ، فقد مات شعب العراق قهرا وموتا منذ ان أصبحنا ثورا وجمهوريين وفدائيين وعقائديين وديمقراطيين، لأنه جلب لنا موت الحروب، وغزوات القبائل، وظلم الحكام والاحزاب ،وجلب لنا ثقافة المكارم والعطايا ،وتوزيع الحصص والمؤن بميزان البخل ، كأننا بلد زراعة الفجل والبصل، لا ارض النفط والرافدين والخيرات ، مثلما جلب لنا أيضا المآتم والاحزان، حيث ضاق الوطن بالمقابر بدلا من المصانع ودور العلم والثقافة ،وقتل في شبابنا جذوة الامل بالحياة، فضاقت بهم شوارع ومقاهي الوطن بانتظار العمل والحياة والامل! لقد قضينا شبابنا ندرس التاريخ والجغرافيا بعين واحدة ،ونحلم بالوحدة العربية، والأمة العربية الواحدة، والرسالة الخالدة، ونحلم بالمستقبل عسى أن يأتي، ونحفظ كل الأغاني الوطنية، وطني الأكبر، ويا أهلا بالمعارك، لكننا لم نحصد من هذه المعارك ، الا اوطان خربة، ونفوس مهدمة، وأوطان محتلة ،وشعوب مشردة من اوطانها، وحروب ونزاعات طائفية تقسم المقسم وتضرب المحدث ،حتى اخذ العمر منا الكثير ،ولم نجد بعد هذه السنوات ، الا وطنا محتلا ممزقا ،وحكاما من كل الجنسيات الأجنبية ،وعشائر تحكمنا بالسيف والفصل ، وأحزاب دينية لا تخاف الله ،وتبتز افكارنا بسلطة الغيبيات، وسياسيون من الموديل الحديث لا يفقهون علما وسياسة ،لكنهم بارعون في عقد الصفقات ونهب الثروات .ثم يأتيك البعض ليتبجح بالديمقراطية الجديدة وبيته مهدم الاسوار بالموت والطائفية والفقر. أو يأتيك خبيرا في المجاري كعبعوب الذي أصبح فقاعة من الماضي، ليصف لنا دبي بأنها فقاعة، بينما هذه الامارة تنعم حضورا بأعلى مستويات العالمية في السعادة والرفاهية والتنمية. أين العراق؟
أنظروا لواقع الامارات الحاضر وتجلياتها المشرقة: مواطنون يعيشون كأسعد شعب، وأكثر رفاهية في العالم، بعد ان كانوا شعب يقتاد عيشه على البحر، ويعيشون في اكواخ من الطين وسعف النخيل، وعيونهم على العراق كقدوة للعيش والوجود، ويتباهون به امام العالم أيام الزمن الجميل. أنظروا لجواز الامارات الذي أصبح التاسع عالميا من حيث القوة، بينما جوازنا أصبح وصمة عار على العراقي في المطارات والدول، وماركة مسجلة للإرهاب والموت. أنظروا لحصاد البيدر الاماراتي الضخم … وحصاد البيدر العراقي الهزيل! وطن صاعد للقمم يتزاحم مع الأمم الكبيرة للحصول على الريادة في مواقع التنمية والسعادة، ووطن مريض تفتك به حروب الطوائف والقبائل ويعود للوراء مائة عام! ماذا حل بوطن النخيل والانبياء والمعارف، وهو صاحب الحضارات والتاريخ والجغرافيا، وملهم البشرية، ابجدية وعلما، أن تنتكس راياته، وان يكون في آخر الأوطان تخلفا وتعاسة وفقرا. ماذا حل بوطن الرافدين الذي يموت العراقي عطشا، ومرضا بالكوليرا والاوبئة، وأسنة الأنهر والمجاري والمزابل.
ماذا حل بالوطن الذي لا يريد ان يتعلم من الآخرين أسرار الحكم والتمية والتنافسية والسعادة، ويعتقد انه الافضل والاحسن، ام اننا مازلنا أقوامنا جاهلية نعيش بعقل امجاد الماضي (امجاد ياعرب امجاد)! قل لي يا صاحبي المسكون بالماضي، بعقل منفتح، من كان على صواب أو خطأ، الثوريون والديمقراطيون والأحزاب الدينية، أم أصحاب الحكمة والتنمية والتواضع؟ اليس ما نراه اليوم على الواقع في اوطان الحاضروالمستقبل تلخص لنا المشهد: ان من صنع مستقبل الأوطان المزدهرة هو الذي قرأ المستقبل برؤية العلم والتنمية، لا برؤية الحروب وثقافة النهب والفساد؟ اليس عيبا وحزنا أن يقول لنا الغير أين العراق؟
{ أكاديمي واعلامي

















