نبض القلم
العراقي – طالب سعدون
عرفته عن بعد منذ سنوات طويلة .. لم أكن أعرفه معرفة شخصية .. كانت علاقتنا يومذاك لا تتعدى السلام والتحية إذا تلاقينا صدفة في شارع أو أي تجمع ادبي أو غيره .. لكن العلماء والادباء والكتاب والشعراء المتميزين لا يحتاجون الى تعريف .. وهو واحد من كبارهم .. انهم اصدقاء الجميع .. من عامة الناس وممن لهم اهتمامات في تخصصاتهم أو من خلال ما ينشر أو يغنى لهم .. هؤلاء المتميزون نتاجاتهم تسبق أسماءهم وتكون عنوانا لهم .. فعندما ترد كلمات ( الخيل والليل والبيداء تعرفني ) أو ( شاخ الزمان جميعا والعراق صبي ) ومثلها ( الشمس شمسي) تعرف لمن هذه الكلمات لانها طبعت في القلوب واصبحت تتردد على الاسماع كثيرا وتستحضر أسماءها دون عناء في مواقف تطابق معانيها في لحظتها فتتذكر ما قالوه …..
كانت تحيتي المعتادة له أهلا ( بسيابنا الجديد ) مع ابتسامة يقابلها هو ايضا بابتسامته المعهودة وتحيته الجميلة وعباراته الرقيقة المنبعثة من شاعر مرهف بالاحساس والتواضع الكبيرالذي عرف به دون أن تغره النجومية ..
وشاءت الظروف أن نلتقي صدفة في العاصمة المصرية – القاهرة .. وتكررت اللقاءات فيها كثيرا خاصة في الفعاليات الثقافية .. في الاوبرا مثلا .. أو في قاعة الاتليه وهو بذلك الخلق الكريم الذي عرف به في العراق والابتسامة التي كانت طابعه في كل مكان يحل فيه وعلاقات الاحترام والمحبة مع الجميع من الاوساط الفنية والثقافية والناس عموما من العراقيين والعرب .. فيستقبل بالود والترحاب والكلام اللطيف .
نعاه العراقيون والعرب والفنانون وكل من عرفه وضجت وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك اليوم بالخبر الحزين وكان المشترك بين الجميع في الرثاء الحزن والالم على خسارة قامة عراقية عالية في الخلق والادب والثقافة .. لها حضورها بالكلمة الراقية القريبة من القلوب و تأثيرها لوضوحها وصدق الاحساس والمشاعر في المضامين الوطنية والانسانية التي تناولها في قصائده التي غناها عدد كبير من الفنانين العراقيين والعرب وفي مقدمتهم رفيق دربه الفنان كاظم الساهر .. وقد شكلا ثنائيا رائعا في عالم الفن والادب فقد اجتمع الصوت واللحن والكلام لتكون علامة مميزة في ابداعهما .
قال عنه الشاعر الكبير نزار قباني عندما وصلته منه رائعته موال الغربة ( هذه ليست قصيدتك ياكريم انها قصيدتنا جميعا نحن المنفيين في فضاء العالم ………… ابق مزروعا ياكريم على شفتي كاظم الساهر واكتب لنا دائما احاسيسنا واحلامنا باسلوبك الطفولي الجميل )
ليس غريبا على كريم أن يكون بهذا المستوى الراقي من الادب والثقافة وهو الذي قال الشعر منذ نعومة أظفاره وهو في المرحلة الابتدائية واستمر متالقا به في كل المراحل العمرية والابداعية الى أن القى قلمه ورحل عن 68 عاما زاخرة بالعطاء أسفرت عن تجربة شعرية متميزة بكل مراحلها ، منها سنوات الغربة التي قال فيها عن العراق ما يستحقه ويناسب درجة حبه له .
وبعد عودتي الى بغداد انقطع التواصل معه .. وذات يوم قرات في صحيفة الزمان مقالا للاستاذ عبد الرزاق الربيعي بعنوان ( مواويل كريم العراقي الروحية ) وهو ابداع آخر يضاف لابداعاته الاخرى .. ومما ذكره الربيعي نقلا عن كريم العراقي الذي عده في وقته جديدا فيه فيض روحي وصفاء ووقفة مع الذات من تلك الوقفات التي اعتاد الانسان الاسترخاء في اكنافها كلما قطع شوطا في مضمار الحياة :
مآسي الكون ليس لها انتهاء
وبعض من مكارمنا دواء
ولا نرجو سوى رضوان ربي
السنا كلنا طين وماء
واورد الربيعي ابياتا اخرى ضمن ما اسماه الخطاب الشعري الذي يدعو للمحبة والسلام ونبذ الاقتتال والتحلي بالصبر عن الشدائد وقد كتب ثلاثين مقطعا وفق هذاالنفس الروحاني والدعوة الى التعاون بين الناس :
لنا من جنسنا بشر ضحايا
وغير الصبر ما وجدوا بديلا
اخي الانسان كن لاخيك اهلا
وكن بيتا وكن قلبا جميلا
ويختتمه :
الدين حب والعبادة رحمة
لله ترجع كلها الاديان
مقال الربيعي طمأنني عليه.. وهو رغم الالم والمرض لكنه واصل الكتابة ومنها في الروحانيات التي تشكل اضافة نوعية في شعره.. بعثت له رسالة عبر ( الوتس اب ) بعد ان حصلت على رقم هاتفه من الموسيقار الكبير نصير شمة لاعبر له عن تمنياتي ودعواتي له بالشفاء لننعم منه بكل هو جميل عودنا عليه ومنه هذه الروحانيات .. أجابني برسالة لا أزال احتفظ بها في هاتفي :
( شكرا لمشاعرك النبيلة الصادقة اخي الغالي استاذ طالب .. اكلمك وانا ما زلت بمستشفى كليفلاند في ابو ظبي وما زلت اتناول جرعات الكيمياوي اسبوعيا واملي بالله ومحبة الناس كبير .. تحياتي لك وللاهل ..) ..
رحل كريم العراقي وترك اثرا جميلا وكبيرا وبقيت كلماته في الادب والفن والاغنية والجمال والحب والانسانية خالدة لا تنسى ..واضاف اسمه بجدارة الى قائمة المبدعين العرب والعراقيين ..
رحم الله كريم العراقي واسكنه فسيح جناته ..
وانا لله وانا اليه راجعون .
{ { { {
كلام مفيد :
الابداع هو ان ترى ما يراه الاخرون والتفكير فيما لا يفكر به الاخرون ..( البرت انشتاين )