الطيران وسط نار بابا كركر – نصوص – ياسر جاسم قاسم

شتاء اللقالق للروائي إحسان وفيق السامرائي  3-3

الطيران وسط نار بابا كركر –  نصوص –   ياسر جاسم قاسم

اما جدة نعمان التي تزور ضريح (ابو قبقاب) الشيخ الكيلاني ويبين تفاصيل الزيارة وكيف ان الجدة ترمي الاموال في الضريح في وصف انثــــربولوجي واضح المعالم .

ويروي اسطورة الشيخ عبد القادر ولماذا سمي بابي قبقاب فالجدة تروي القصة ” من طب الانكريز بغداد وطردوا العصملي وقتلوا الناس وصلوا للحضرة فدخلوها بجزمهم وخيولهم وكان الميجر واقفا في الصحن يرطن والشيخ عبد القادر يتوضى والقبقاب في قدميه فسمع الهرجة فقام ونغز الميجر بعكازته قائلا له .

ولك اطلع برة انت نكست الجامع فلم يلتفت اليه الميجر فغضب الشيخ ونزع قبقابه فضربه به فغاص الميجر بالكاع ولم يجدوه حتى اليوم …. اما ابو خزامة فقد امره الشيخ الكيلاني بضرب الانكريز حتى انهزم الانكريز وعبروا النهر )فياتي السؤال الذكي من نعمان (زين جدتي وطوب ابو خزامة ليش هسة ميروح الى فلسطين ويطرد اليهود؟ ابني الناس من دخل الانكريز كانوا على نياتهم صادقين ولكنهم اليوم تبدلوا وصاروا شياطين) وهو جواب على قدر عقل الجدة وتساله الجدة من علمك كل هذا الحجي متضايقة من اسئلته الذكية (معلم فوزي(وهو شيوعي) قال لنا في الصف ان خرافات الملالي وكلاواتهم هي اللي جابت الانكليز أي وطوب ابو خزامة مدفع خربان تركه العصملي وهو لا يلهم تراب ولا فشقي ) وهو جواب علمي ينقله نعمان المقتنع به على لسان معلمه الى جدته.

فسؤال نعمان الى جدته عن شارات للكيلاني وغيره هو سؤال تنويري يطلقه من يرد على اكاذيب واساطير المتدينين . ثم تاتي صيغة التكفير التي نعيشها يوميا (ولك لا تكفر استغفر الله) ثم الجدة تهدد (بس اوصل راح اخلي خالك يودي هذا المسقوفي للحبس شلون يحجي على رجال الله ويقول خرافات وراح تشوف شيسوي بيه) فكل شخص يمس مقدسات الناس وخزعبلاتهم يتهمونه بابشع التهم والغاء الاخر .

ويسال نعمان المعلمة ديزي (هل انتم تروحون مثلنا للزيارة؟) فترد عليه بانهم يرحون للكنيسة وتستمر المقارنة بين زيارات المسيح للكنيسة وزيارات المسلمين للاضرحة والجميل ان الروائي يصور حالة التناقض التي يعيشها المتدينون مع انفسهم فسالم كان يعاشر امراة غير جيدة وفي يوم ما جاءت لامه تشكوه لها ، وفي يوم كان سالم يصلي فوقف نعمان دون ان يمر من امامه لان نعمان يعرف ان خاله سالم اخبره ذات يوم ان مررت من امام شخص يصلي فانك تبطل صلاته .. المهم سالم قطع صلاته وركض خلف نعمان فتصيح ام سالم به والتي هي جدة نعمان: ” نعمان بطل صلاتك مو؟ والراقوصة ما بطلت صلاتك؟ ” حيث كان سالم يضايق الراقصة في الملهى .

والاحداث السياسية المتتتالية التي تبين وبشكل لا يقبل اللغط الاحداث التي كانت تقع في العهد الملكي واحداث خروج اليهود لفلسطين وقتل الملك غازي وكيف دبر له الانكليز حادثة السيارة. وعهد رئيس الوزراء محمد الصدر يبتدأ في العراق ويشرح السامرائي لماذا نصب الصدر بدلا من صالح جبر . ثم يروي نعمان قصة ذهابه للكاظم لديزي حيث تبدا الرؤية الانثربولوجية عندما سمع نعمان جدته تقول لامه( شوفي بنتي ايبين ..ابو قبقاب.. نسى وتاخر وقد يكون جدك ابو الجوادين زعل علينا لاننا لم ننخاه وحتى لا يبقى بخاطره وكلهم اهل البيت بعد عيني راح اخذ نعمان معي حتى نزور جده الكاظم ونعتذر منه وراح اتوسل جدك واخض الباب وان شاء الله ما يفشلنا … المهم وبعد وصولهم يصف نعمان ما يجري في الحضرة وماهية الحضرة من ذهب وكيف ان الناس يقبلون كل شيء فيها تيمنا وتقربا ثم تبدأ المحاورة الذكية من قبل نعمان مع جدته :

اقول اللي كلهم بالحضرة عندهم شغل مع جدي؟

أي نعمان ومو بس هذولة وكل العطالة

وجدي الكاظم ماذا يشتغل؟

ولك اهل الله بعد عيني ما يشتغلون بس قاعدين للمحتاجين

وانت ما شفت المرضى والعميان والمكسرين واللي يريد ايشوف ويمشي واللي تريد ولد والحرمه الماعده والي كلهم جايين يردون حاجتهم منه وهسه راح اتشوف جدك شلون يرجع ابوك للشرطة.

بس انا سمعت عمي عبد القادر يقول لبابا : ابو نعمان اشوف لو الحكومة تعزل وتبطل الاطباء والشرطة وتسد المدارس والمستشفيات .. مو احسن ما دام الائمة يحلون كل شي والجماعة … اش اش : تقول له الجدة ولك لتكفر استغفر الله؟ )

وهنا نلاحظ الاسئلة الذكية والتنويرية التي يبعثها السامرائي في روايته : اشوف لو الحكومة تعزل … الخ. حيث نلاحظ انه سؤال على لسان نعمان يضرب التقديس بالصميم وهو سؤال عقلي فلسفي تنويري فاعتقاد الناس اسطوري باناس يعتبرونهم ائمة وسادة ويحلون مشاكلهم فان كان هذا صحيح فلماذا نحتاج المستشفيات والحكومات والاطباء والشرطة لحل المشاكل وسؤال التنوير هذا يعتمده الروائي في روايته كثيرا .

ويستمر في تجسيد عيون المجتمع الذي ينتمي اليه فالرواية تضع العلاجات الكبيرة في هذا الصدد فالسيد محمد الصدر رئيس الوزارة في العهد الملكي لم ينفع العراقيين بشيء وبدرية تصيح (بعد ما خلصوا من فرهود اليهود خطية وهجولوهم ورجعوا علينة

به به قال ابو خليل ، أي وهسه تقولين اليهود خطية ايبين بدرية نسيت شلون كنت تصيحين وتقولين هذولة بوكتهم حلال ) وهذا تصوير واضح للتناقض الذي يمارسه ابناء المجتمع

ثم يعلو النقد المجتمعي في الرواية حتى يصل ص305 في اوجه( أي صدق لو قالوا احنا العراقيين اهل البيعتين منصير اوادم .. نذبح الناس ونلطم عليهم) حتى ان سالم ينظر الى اليهوديات لانه يعتبرهن لسن باصحاب عرض وشرف وهذه هي الرؤية الايديولوجية العنصرية المقيتة التي يشرح من خلالها السامرائي معاناة اليهود في العهد الملكي.

شق رابع

وبعد صدور امر تعيين ابو نعمان في السليمانية تنتقل الحكاية بشقها الرابع والاخير في المكان الجديد (السليمانية) حيث ستبدأ حياة جديدة انطلاقا من هذه المدينة المختلفة في اناسها وبيئتها الجبلية ، اما الذكرى فتتجسد عبر حواس الام عند العبور على ديالى (كان شعورا بالامل والذكرى والالم عندما تسربت رائحة النخيل والدفلى والسوس والتراب والكالبتوس والتوت البري ) وقبل الوصول يبدا السؤال المصيري في الرواية : نعمان يسال امه: ( هل سنبقى يا امي مثل اللقالق كل يوم ويوم نحن بمكان) كما ان السامرائي يرسم صورا مكانية رائعة تجسد عبر الخيال المكان (من بين الجبال المعشوشبة ببقايا الخريف تدخل الظل يلف الاشجار العالية فتضاحك الاولاد راكضين وراء جراء كلبة سوداء) وفي مكان اخر يرسم صورة ملونة اخرى : من بين الغيوم البيضاء ظهرت السليمانية مدورة مثل صينية بيضاء يحيطها الاس والورد ومئات الغربان تنعب باصواتها المتوالية تحوم فوق اكوام من رؤوس الماعز المطروحة على جانب الطريق) كما تبدا اللغة الكوردية تاخذ مكانها في المدينة الرابعة كجزء من المعنى والتخيل الذي يتحدث عنه السامرائي .

(نه موكوري مديري بوليس

به سه رجاوا بفرمو )

على الرغم من ابتدائها منذ بدايات الرواية في قرة تو .وفي السليمالنية بالاضافة الى اختلاف الطبيعة فجبال ازمر وغيرها واختلاف التاريخ ابتداء من بنائها كمدينة من قبل سليمان باشا وليس انتهاء بفلكلوريتها حيث يسمع اصوات الدفوف والدراويش فهم (لا يدخلون السليمانية الا ليلة الجمعة ) ودخلوها ايضا يدعون الله ان تمطر السماء وتاتي نفس الاسئلة التي سالها نعمان عند ضريح عبد القادر وعند الكاظم (الاسئلة التنويرية)(سيصعد الدراويش جبل ازمر فيطلبون من الله ان ينزل المطر )ضحك عبد الرحيم  مشيرا الى السماء الزرقاء .. (والقنبلة الذرية؟)

(اسكت انت فليس للاكراد غير الله.. بس لازم اكو سبب .. السليمانية ناشفة من البرد فكيف يمكن للدراويش ان ينزلون المطر هه) ويستمرون بدق الدفوف دون نزول المطر .

اما الحوارية الذكية من السامرائي في التنوير (هل الدراويش مسلمون يا امي ؟ شلون مو اسلام يا نعمان؟ الم ترهم يضربون انفسهم بالدرباشة ويدخلون السيوف في بطونهم ، وكيف لا ينزل الدم منهم ، لانهم رجال الله.) ويستمر الحوار الذي يستند فيه نعمان الى ابيه الذي سمعه يقول : (شوف عبد الرحمن هذولة الدراويش مو اسلام لان الاسلام لا يعرف السكاكين ولا الذبح وكل هذه الظواهر دجل يسيء  للاسلام جيب لي شي مكتوب وافتح القران وقلب السور وابحث لي في الاحاديث وتعال دلني على الدراويش) وتتصاعد نغمة السامرائي حينما يطالب ابو نعمان بشخص مثل كمال اتاتورك لاشاعة العلمانية وتحجيم الاسلاميين في اماكنهم.

اما ديزي المسيحية في بغداد فقد راسلت نعمان وكيف ان ذكرياتها عنه وعن حديثه تبكيها يوميا.

وفي السليمانية تتخذ السياسة بعدا اخـــر فالكرد لا يحبون الحكومة

(يريدون حكوومة كردية .. مهاباد اخرى في العراق)

والحكومة الملكية اعدمت الاكراد الذين عملوا مع روسيا الشيوعية على تاسيس حكومة كوردية في العراق . وتبدا الصراعات القومية بين المتحدثين (فالاكراد لو كانوا مخلصين كما يقول عبد المنعم لتعاونوا مع القوميين العرب ضد بريطانيا لتاسيس حكومة وطنية) وتبتدأ النعرات بين العرب والكرد التي ينقلها السامرائي معالجا عبر فصول مكانية (شتاء اللقالق) معاناة امم تسكن العراق.

وتبدأ معاناة نعمان في المدرسة بسبب لغته وقوميته ورفض الكرد له بسبب ما يتعرض له الاكراد من ضغوطات وظلم من حكومة المركز في بغداد وفي خاتمة الرواية وبعد كل هذا الالم والشقاء والواقعية السحرية تصف الجدة الخريف (ياه .. رائحة الخريف .. وكيف تعرفين الخريف من الشتاء يا جدتي .. من رائحة المطر والغيم واوراق الاشجار والبرودة ، حتى الارض تصبح رائحتها مثل رائحة اوراق الرارنج ، وهل للارض رائحة يا جدتي؟ العارفة في الجزيرة يشمون التراب ويقولون هذه الارض الفلانية وهذه ارض شيـــــــــــخ فلان والعربي يعرف الاثر مثلما تعرف انت الكتابة.

الماء بعيد

يشم الهواء والتراب مثل الغزلان التي تعرف مكان الماء ان كان قريبا او بعيدا فتركض له..، والربيع؟ والربيع يكون قصيرا انه شهر الاعراس والفرح وفيه تلد النعاج وتبدل الحياية جلودها وتسلخ الايائل قرونها مثل اوراق الاشجار وتقع الاوراق اليابسة منها وتنـبع اوراقا اخرى ) وفي هذه الاوصاف دلالات جميلة جدا لوصف واقع حالم بربيع يتخلى فيه الحاقد عن حقده والمتلون عن الوانه ويكتفي بلون واحد وننتج اناسا جددا قادرين على تحمل الصعاب في مجتمع نظيف هذا ما يدعو اليه السامرائي من وصفه للربيع. ولكن يفاجئنا السامرائي بصورة تقريرية مباشرة ليست فيها لمحة فنية ص424 حيث يخاطب الاب ابنه: ” لا تجعلني اراك طفلا فقد ولت ايام طفولتك ولابد من التفكير بالمستقبل حتى تجعلني فخورا بك) فهذه صورة مباشرة تماما تخلو من فنيات الرواية . وللقالق وقعها في الرواية (فعدت ارقب اللقالق البيض وهي تطير باتجاه الغرب وقد لوحتها نار بابا كركر) ( وشيء وحيد لم تقدر عليه امي ولا جدتي .. ان انسى حب تلك الارض العذراء ولاقبلات كولدران ها انا راجع الى بغداد التي طالما كرهتها واحببت فيها ديزي (مسيحية) من يدري؟ اين هي بعد سنتين من انقطاع اخبارها غابت مثل مارسيل(يهودية) حلم طفولتي فماذا سيتبقى لي؟ ) تؤكدان انصياع الرواية للمكان والذكرى وترابطهما الكبير.