قصة قصيرة
الشجرة التي لا تثمر إلا الدمامل – نصوص – علي حسن
لم أكن موقنا مما سمعته عنها حتى ساعة وقوفي امامها وحين نظرت اليها لم يكن فيها ما يغريني كانت شجرة كبيرة ملأت المكان بنفسها ولم يثر انتباهي منها الا جذرها الذي لم يكن يماثل أي جذر آخر مما تنتجه الطبيعة كان جذرا دائريا مقرنصا ضخما يمتد بلونه الرمادي الى الطرف الغربي من البلدة حيث أشجاراللوز والتين والليمون وكان كل من يراها يخيل اليه انه يرى حيوانا اسطوريا لا شجرة باسقة وألقيت نظرة على ما حولي فلم أر هناك سوى حصى دقيق يختلط بتراب الأرض الحمراء وما عدا ذلك فلا وجود لشيء آخر سواها . كنت اعرف أن أجدادي قالوا عنها أقوالا كثيرة ولكن كل ماقالوه لم يخرج عن كونها واحدة من بضع شجرات تزرع الموت في المكان الذي تحل فيه وانها شجرة الشر التي ورد ذكرها في كتابنا المقدس وهي لا تعطي ثمرا وجذعها ينز سائلا لزجا يؤذي من يسيل عليه وحينها انتابني الشك في كل هذا فآثرت أن أعرفها عن قرب ولا أعتمد على ماقالوه أو ما يقولونه . وهناك رأيت منها ما رأيت . كان جذعها كبيرا تظهرعليه فقاعات مثل الحراشف لكنها كانت سوداء سوادا لامثيل له يسيل منها سائل رقيق فأدنيت أنفي منه وشممته فأحسست بدوار خفيف يجول في رأسي لم يلبث أن رفعني وألقى بي الى الخلف فوجئت بما حصل لكنني كنت واقفا على قدمي الا أن دوارا خفيفا جال في رأسي فعزوت ذلك الى رائحتها التي شممت والتي ظلت متشبثة في أنفي . كانت رائحة زنخة تدير رأس من يشمها . ورغم ما حصل فانني لم أحد عنها بل دنوت منها حتى صرت تحت أغصانها فرفعت بصري اليها فرأيت ما يمكن وما لايمكن أن يرى .
كانت ثمة طيور لم استطع أن أميزها اذ لم يسبق لي أن رأيتها فقد كانت لي معرفة بالطيور بحكم هوايتي في اصطيادها لكن ما أراه الآن لايخرج عن كونه مسخا لا شبيه له اذ لم تقع عيناي على مثله أبدا . كانت بلا اجنحة . ولم تخرج من حلقها زقزقة واحدة . أما عيونها فقد كانت معصوبة بسلك من حديد اسود اللون . أشفقت عليها حقا وودت لو أمكنني أن أفعل لها ما أقدرعلى فعله لكنني لم أكن أملك القدرة على الفعل فشعرت بحزن خفيف في قلبي لكن حين وقعت عيناي عليه أنساني ما كان من أمر الطيور . كان ذاك ثمرها وكان ثمرا مدورا مثل الدمامل يئج بلون مثل لون الكهرب وكان ناعما مثل الحرير فأغراني ما رأيت ومددت يدي نحوه ولمسته عندذاك شعرت بمتعة حسية تملأ بدني فضغطت عليه دون شعور مني وما ان فعلت ذلك حتى انفقأ في يدي وسال ما فيه على ذراعي فأحرقني ثم أعقبه ألم خفيف فدرت بنفسي وعدت الى البلدة .
كنت أقف امام الباب حينما خرجت هي فلما رأتني هتفت بخوف ما بك ؟ فقلت لها انني أشعر بوهن في بدني فمدت يدها الي واستندت عليها وعند ذاك أحسست بطراوة جسمها علي فعلت فمي ابتسامة قصيرة لمحتها هي فقالت ما ذا تريد بهذا يا علي ؟ لم أرد عليها وهناك قالت استلق هنا . وحين استلقيت في السرير الذي ننام فيه معا سرت في جسمي بعد لحظات من ذلك رجفة باردة من كتفي حتى قدمي انتبهت لها هي وعندئذ قالت سآتيك بغطاء فقت لها ألا تفعل لكنها لم تستجب لي فاستدارت ثم جاءت به وفردته علي ثم تركتني وخرجت ولم أرها بعد ذلك أبدا . مالت أجفان عيني على بعضها ثم انغلقت ولم استطع فتحها فانتابني احساس خفي بأني لن أرى شيئا قط وقلت لنفسي ربما هي حالة مؤقتة قد يعود نظري لي بعدها . من يدري؟ فوسوست لي وقالت وقد لا يعود فأزعجني أن اظل على ما أنا فيه لكن صوتها أيقظني مما كنت فيه . قالت اسم الله عليك يا فتى . اسم الله . قالت أمي . ما انت وهذا ؟ أردت أن أفتح عيني بحكم العادة لكنني لم أستطع فظللت ساكنا مثل يوم قائظ . رفعت يدي نحوها فأخذتها بكفها وضمتها اليها وبدأت تقبلها . كانت تبكي . فلم أتحرك أبدا . لكن عيني لم تذرفا دمعة واحدة فقد جمدت دموع عيني . أنا بخير . لاتقلقي . قلت أنا . فقالت أجل . أجل يا فتى . وشعرت بيدها على رأسي ومسدته كما كانت تفعل في الأيام الخوالي فأشعرني ما فعلت بمتعة افتقدتها كثيرا منذ زمن بعيد .
وكان لم تكن أي قد جاءت وحدها فقد كان يواقيم معها . كان يواقيم جارا لي قبل أن تسحقه سيارة من سيارات شرطة الاحتلال . وهو حرفي في ميكانيكا السيارات لا يضاهيه احد فيها . وحين جلس قربي قال لي ما الذي حصل ؟ قلت له لا أدري . فقال حصل هذا صدفة ؟ قلت لا . انما كان منها هي . ممن ؟ سأل . فأشرت الى الطرف الشرقي من البلدة . انفعل يواقيم قليلا وقال بحق العذراء مريم . من أشار عليك بهذا ؟ فابتسمت وأشرت الى رأسي وحين فعلت ذلك أحسست برجفة شديدة في بدني أعقبتها حرارة عالية ومن رآني ساعتها قال انني أخذت أهذي وبقيت على ذلك لفترة قصيرة ثم نمت لكنني أنا لم أعرف ما حصل لي وقمت على صوت المؤذن . وحاولت ان أنهض فلم استطع وعندها جاءت امرأتي ووضعت يدها تحت رأسي وقالت ارفع نفسك فضحكت وقلت ان استطعت لكنني سريعا ما عدت الى ما كنت فيه وقد رافقني في هذا جلبة في الخارج فقلت ماذاك ؟ ويبدو أن امرأتي نهضت وأطلت من النافذة فقالت انهم يقفون قرب الحمام . لا اسمع ما يقولون . وجلست قربي . ومن دون قصد مني مددت يدي فوقعت عليها فما كان منها الا ان دفعتها عنها . آذاني ما فعلت لكنني لم أقل شيئا واكتفيت بالصمت بينما اطلقت هي ضحكة قصيرة لكنها عذبة مثل ماء الينبوع.
وعادني يواقيم في أول الليل وكانت معه امرأته . كنت أعرف انها امرأة شكسةعلى غير ما كان عليه هو لكنها رغم هذا كانت امرأة تعرف كيف تدير أمور بيتها . التفت اليه وقلت ماذا حصل؟ فقال انها البلدة . ما ان رأت أوراق أشجار اللوز والبلوط على الأرض حتى قامت . فقلت ان لم تكن على أغصانها فأين تكون ؟ هذه طبيعة الاشياء . فقال نعم . ان كانت في زمنها والا فان ذلك ينبئ عن ان أمرا ما قد حصل . وخلال ما كنا فيه برزت لي هي من دون الاشياء كلها في ذهني فبان لي جذعها الذي ينز منه سائل أخضركثيف القوام مثل المخاط . وكان يتجمع على الارض . والطبيعي بعد ذلك أن يتغلغل في ترابها ومن ثم ينزلق الى الأسفل وهناك يمتزج بالأشياء ويذوب فيها . انتبه يواقيم لما قلته وفكر ثم قال بعد ذلك هذا ممكن جدا . وان ثبت انه منها عندئذ لابد من فعل ما . ولم أر يواقيم بعد ذلك حتى كان اليوم الثالث . كنت أشعر بذبول خفيف في أعضائي فلم أظهره أو أشير اليه وحين سألني قلت له أنا بخير فابتسم وقال انه كان يرى ذلك وسألته عم فعل هو فضحك وقال قطعناها من شروشها .
حل الربيع . وما ان حل حتى نبعت اوراق الاشجار مرة أخرى وعادت سيرتها الأولى وقد رافقتها الشجرة في هذا أيضا فقامت من موتها الذي كانت فيه وبدأت تنمو بحيوية غريبة . كانت تعيد نفسها لنفسها دون أن يعوقها عائق وقد أقلق البلدة ما رأته منها فكان أن تركها من ترك وبقي فيها من آثرالبقاء وكانت حجته في هذا انه لن يترك أرض اللوزوالبلوط لكن عزيمة من بقي فيها ازاءها لم يصبها الوهن أو الخمول فقاموا اليها ولم يكن أمامهم الا أن يحرقوها فأحرقوها فكان أن اشتعلت النار فيها وارتفع لهيبها حتى غطاها وغدت كتلة نارية كبيرة لكنها فاجأتهم فالنار التي أشعلوها فيها لم تعد نارا بل صارت كتلة باردة لاتأثير لها عليها فخمدت وانطفأت وعندها قال من قال منهم اتركوها فلاقدرة لكم عليها . هذه شجرة الشر ولا يقهرها الا الزمن . اتركوها له . وعند ذاك انكفأ الرجال على أنفسهم وتركوا ما كان معهم وعادوا الى البلدة . وهناك انسلوا في سررهم التي كانت تعبق بالطيب وناموا .
لكن طيف الشجرة ظل يلاحقهم في غدوهم وفي رواحهم في صباحهم وفي مسائهم وكلما كانوا يذهبون الى السوق أو الى مزارعهم أو الى أعمالهم فقد كانت تقف أمامهم مثل تمثال برونزي وعلى شفتيها ظلال ابتسامة .. خبيثة.
{ من المجموعة القصصية : الشتاء الأبيض . لما تطبع .


















