حديث مستطرد عن الرصافي
الشاعر الكبير ما باع السجائر على قارعة الطريق – نصوص – شكيب كاظم
قرأت مقالاً كتبه الصحفي العراقي الشاب المغترب في عاصمة السويد (عمر) نجل الأديب القاص والروائي العراقي- المغترب كذلك- فيصل عبد الحسن حاجم وكأن قدر العراقيين أمسى الغربة والاغتراب في بلدان الشتات، نشرت المقال جريدة (الزمان) بعددها الصادر يوم الأربعاء 5/ جمادى الاولى/ 1436هـ = 25/ من شباط/ 2015، المقال اوقفه (عمر فيصل) للحديث عن أبيه الأديب، وتلك سابقة خطرة، فلأول مرة أقرأ من يكتب عن ابيه، والحق يقال، إنه تحدث عنه بحيادية وموضوعية، واقصى الذاتية والابوة والبنوة من مقاله، فكان منصفاً وصادقاً، فأنصف الكاتب والأديب فيصل عبد الحسن حاجم، ونحى العواطف، عواطف الابن تجاه أبيه.
ولقد قرأت، يوما مقالة نقدية لأديب عن نفسه، ذاكراً إنه اذ لم يجد من يكتب عن كتابه، فقد تولى هو هذه المهمة الصعبة، وأرى أن ذلك معيباً، والاكثر عيباً أن تنشر الجريدة مقالة كهذه، ومقالة (عمر فيصل) تعيد لذاكرتي، يوم أهديت صديقاً لي كتاباً من كتبي، فجاءني بعد اشهر- وهو الصحفي والمترجم- قائلاً: إنه لم يجد في وقته المزدحم فضلة كي يقرأ كتابي، بله أن يكتب عنه، ورجاني أن اكتب عن نفسي، وبتوقيعه، فبهت من عرضه هذا واستغربت، قائلاً له: إني اهدي كتبي لعشرات من الاصدقاء والقراء، ولا أضع في حسباني أن يكتب عني الكاتبون، بل أقصى أماني أن يقرأ منه فصلاً، أو صفحات، فهذا كتابي أهديه لأني لم أجد من يشتريه.
فأجابني ان هذا الامر، كتابة الكاتب عن نفسه، وباسماء أخرى أو محددة، موضوع شائع ذائع،فقلت له مؤكداً: ان كان بعضهم يفعل ذلك، وانا اعرف عدداً منهم، جاعلاً من ذاته وكالة خبرية تمجد ذاته وكتاباته، فضلاً عن عقده صداقات مع من يتوسم فيه ميلاً للكتابة عنه، فأنا أربأ بنفسي أن اقترف هذا الفعل المخجل المشين.
مقالة (عمر فيصل) الموسومة بـ (صورة كاتب بقلم ابنه- أديب عراقي من الزمن القبيح) مقالة جيدة منصفة، راجياً له السير على النهج المنصف ذاته، لكن بودي أن أقف عند فقرة معقباً وموضحاً، خدمة للحق والحقيقة، ضالة الكاتب وهدفه.
قال (عمر فيصل) وهو يتحدث عن الحدث الحاسم الذي مثل مفترقاً في حياة أبيه يوم أكمل الدراسة الثانوية بتفوق، هو المحب للأدب،لكن المتفوق بالفرع العلمي، هل يدرس الأدب في الجامعة، أم يواصل درسه للعلوم؟ هنا يتحدث ابوه، قائلاً لابنه (ان الادب لا يطعم خبزاً في الوطن العربي، وذكره بمصير بدر شاكر السياب، اكبر شعراء الحداثة في العراق، الذي القي باثاث منزله في الشارع، لانه لم يكن يملك ثمن كراء شقته، وكانت الحكومة مغتاظة من شعره الثوري المندد بها دوماً، وكذلك، الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي كان يبيع السجائر على الرصيف ليكسب لقمة عيشه، ومات وهو لا يملك داراً يسكنها بل في دار مؤجرة، سرعان ما القى مالكها مخلفات الشاعر البسيطة الى القمامة، حين لم يجد المال لتسديد اجرة الكراء) 1.هـ.
في هذا المقبوس غلطان شنيعان، اطلقهما (عمر فيصل) من دون ترؤ وتمحيص، او هذا ما وصل اليه، رأيت الوقوف عندهما خدمة للحقيقة:
1- بعد أن تخرج بدر شاكر السياب من قسم اللغة الانكليزية بدار المعلمين العالية، عين مدرساً في اكثر من مدينة منها الرمادي، لكنه آثر الانتقال الى البصرة بعد أن حاربه بعضهم، شاعر وحزب، فنقل خدماته الى مديرية الموانئ العامة بالبصرة، واذ ضربه المرض الوبيل، حتى كاد يشل جسمه، فعاملته مديرية الموانئ العامة، معاملة موظف اعتيادي، متناسية شعره ومنجزه ولأنه ما عاد بمكنته الدوام، ففصلته، واستتبع الفصل ضرورة مغادرته الدار الحكومية، ولقد كتبت ذلك مرات عدة، وتحدثت عنه في ندوات.
هذه هي الحقيقة المرة.
2- لقد كثر الحديث عن بيع الرصافي للسجائر، وهذه مغالطة وفرية، ونحن- غالباً- لا نمحص في المرويات، بل نطلق الكلام جزافاً وعلى عواهنه، ونأخذها مسلمات، ونبني أراءنا على ما قال السابقون، حتى وان كان قولهم خاطئاً وغلطاً، فالرصافي لم يبع السجائر على قارعة الطريق والرصيف مثل الصبيان، فكانت أخلاقه وانفته تمنعانه من اتيان هذا العمل، ومع ان العمل، أي عمل شرف لصاحبه لكن هذا العمل لايليق بقامة ابداعية شامخة مثل الرصافي، ثم كان هناك الأخيار الاكارم، الذين كانوا يغدقون عليه الاموال والاعطيات والهبات والالبسة وافخر الاطعمة والحبوب أمثال: آل عريم الكرام في الفلوجة، ومظهر الشاوي، الذي أهداه عباءة وعصا ابنوسية، فضلاً عن المال وحكمت سليمان الذي كان ينفحه بفاخر الفاكهة من مزرعته في الصليخ ببغداد، يوم كانت الصليخ مزارع ولم تزحف اليها وعليها الابنية وبيوت السمنت والحديد.
وكذلك اعطيات اسرة المنديل الكريمة بالبصرة، ممثلة بعميدها عبد اللطيف المنديل، اذ ان عبد العزيز عريم، يوم اشترى الدار المطلة على الفرات بالقرب من جسر الفلوجة وكان يشغلها المهندسون الانكليز من موظفي الشركة التي قامت بانشاء الجسر الحديد في الفلوجة، الذي يشبه جسر الصرافية ببغداد، ولما كانت للرصافي صداقة مع ابيه، فقد طلب من الرصافي النزول في هذه الدار، كما يذكر ذلك الاستاذ سعيد البدري في كتابه (الرصافي في أعوامه الأخيرة) الصادر عام 1950 ببغداد وكتب بعض فصوله الاديب الشاعر نعمان ماهر الكنعاني- رحمه الله- ولقد زرت الدار مراراً، اذ كنت اعمل في الثمانينات من القرن العشرين رئيس ملاحظي مؤسسات الانبار النفطية لكن اسفت اذ زرتها شتاء 2002، صحبة الاديب مؤيد داود البصام والقاص حنون مجيد، فوجدتها مهدمة، واذ سألت اجابني من اجاب، ان اصحابها يرومون بناء عمارة على قطعة الارض هذه!!
جليه الامر، أن الرصافي قدم طلباً، عريضة الى مديرية الكمارك والمكوس العامة ببغداد، بداية الاربعينات، بعد مبارحتة الفلوجة اثر حوادث مايس 1941 للحصول على حصة من السجائر وهي ما تشبه الحصة التموينية، ولقد حدثني المرحوم ابي عن هذه القضية، وكان موظفاً في تلك المديرية، الكمارك وانه حاول جاهداً الحصول على عريضة الرصافي، من شعبة الذاتية للاحتفاظ بها ذكرى، دون جدوى، اذن الرصافي قدم طلباً للحصول على حصة كمية من السجائر، كان يبيعها جملة، مستفيدا منها في تمشية اموره، هو الكريم المتلاف، الذي كان لا يقيم للمال وزناً عاده وسيله للعيش وتمشية امور الحياة، وليس غاية يركض وراءها.
كذلك هو لم يجلس على الرصيف يبيع السجائر مثل الصبيان فكبرياؤه تمنعه من ذلك ، حتى ان مات جوعاً، فضلاً عن ان العديد من اعيان العراق ووجهائه واثريائه، كانوا يمنعون عنه غائلة الحاجة، حتى انه أعتذر عن قبول هدية عبد العزيز عريم، بان يسجل الدار التي يسكنها بالفلوجة باسمه، فضلاً عن اعتذاره عن قبول عرض ابن عمه عبد المجيد عريم بشراء الدار التي يسكنها في الاعظمية وتسجيلها باسمه، او اية دار في الرمادي، رجل هذا شأنه وكبرياؤه كيف نصدق جلوسه على قارعة الطريق يبيع السجائر، او يلقي مالك الدار مخلفات الشاعر البسيطة الى القمامة؟
فالناس كانت تعامله باحترام وتقدير بالغين.



















