السودان الصمغ والسياسة ـ خالد الاعيسر

السودان الصمغ والسياسة ـ خالد الاعيسر
بعد أحداث أم روابة ودخول قوات الجبهة الثورية بعض مناطق شمال كردفان، تابعت عن كثب تغطيات الصحف الغربية وما جاء على صدر صفحاتها؛ الملاحظة الهامة في تقديري تمثلت في عدم تركيز الصحافة الغربية على النتائج المأساوية للأوضاع الانسانية التي ترتبت على هجرة سكان تلك المناطق ونزوحهم، ولم تهتم كذلك لحجم الأضرار الذي أفرزته العملية العسكرية غير المبررة وما خلفه من مشكلات.
الأدهى أن الاعلام الغربي غض النظر عن الخروقات والجرائم التي ارتكبت في حق المدنيين العزل والأبرياء وسرقة مواشيهم وممتلكاتهم والحاق الأذى بالبنية التحتية ومحطات المياه والكهرباء .
كل الذي تداعت لأجله بعض وسائل الاعلام الغربية ومن بينها صحيفة الغارديان البريطانية ذائعة الصيت على خلفية الحادثة هو ما أسموه نوبات قلقل شركات المشروبات الغازية الكبيرة كوكا كولا وبيبسي خشية سيطرة الجبهة الثورية المعارضة على المناطق المنتجة للصمغ العربي.
قلق لماذا؟ لأن هذه المناطق تمثل المصدر الرئيس لإنتاج وتصدير الصمغ العربي، ومعلوم أن السودان ينتج مايقارب 70 من انتاج الصمغ العربي في العالم.
الصمغ السوداني عندهم أغلى من أرواح أصحابه، بالله انظروا كيف يفكر هؤلاء القوم، الأراوح العزيزة التي أزهقت لا تهمهم، وكم من السودانيين شردوا لا يهم، الذي يهم هو صناعة وشرب الكوكا كولا والبيبسي ؛ أليست تلك مفارقة تسيء لمن يدعون الإنسانية .
علمياً، الصمغ العربى يلعب دوراً فاعلاً في مزج السكر بعصير المشروبات الغازية؛ ومن دونه يتركز السكر ويتصلب في قعر العلبة. هذا هو سبب خشية صناع ومستهلكي المشروبات الغازية من انعدام توريد عنصر نادر في صناعاتهم.
معلوم أن الصمغ العربي له استخدامات كثيرة غير تلك التي ترتبط بصناعة المشروبات الغازية والتي من بينها استخدامه في غسيل الكلى كمحلل اصطصفاء لعلاج مرضى الفشل الكلوي.
هذه ليست المرة الأولى التي يفرض فيها الصمغ العربي نفسه بقوة مع أزمات السودان، فقد كان حاضرا من قبل مع مشروع قانون عقوبات 1997 وشكل نقطة محورية واحتل عناوين الصحف الغربية والأمريكية كذلك، عندما أقر الكونغرس عقوبات مشددة للحد من قدرة السودان كنوع من العقاب على خلفية مزاعم تتهم الحكومة السودانية برعاية الإرهاب إبان الحقبة التي مكث خلالها اسامة بن لادن في الخرطوم والتي كانت سببا مباشرا لافتراء سلسلة من التهم على السودان بمزاعم اضطهاد الأقليات الدينية.
المشروعون في الكونغرس يومذاك استثنوا الصمغ العربي من قائمة العقوبات تلبية لرغبات شركات المشروبات الغازية الكبيرة، وقد أبلت هذه الشركات قبل ذلك بلاء حسناً سعيا لعدم تضمينه في العقوبات التي مات بسببها آلاف السودانيين.
معلوم أن شركتي كوكا كولا وبيبسي تعد الممول الرئيس لجماعات الضغط التي تفرض سلطتها على صناع القرار وأرباب السياسة الأمريكية. ومع ذكر العقوبات الأمريكية عادة ما يتبادر للذهن سؤال مهم كيف للسودان أن يستفيد من هذه السلعة السحرية الصمغ العربي سياسيا خدمة لقضاياه المصيرية؟، والتي من بينها القضاء على المعارضة المسلحة التي أضحت تسبب الأذى لشركات المشروبات الغازية بعد أن فعلت ذلك مع المواطنين السودانيين العزل.
للاجابة عن السؤال، يمكن قراءة مابين السطور في التصريحات الرسمية التي أعقبت الحادثة وعلى رأسها إفادات مسؤولين سودانيين كبار ذكروا فيها إن مصالح أمريكا والدول الغربية التي ظلت تعادي السودان باتت تقودها نحو التطبيع مع الحكومة السودانية عبر فتح أبوابها للحوار.
المعروف أن أكبر مصلحة منظورة لأمريكا في السودان تتمثل في النفط الذي تستأثر بفوائده دول أخرى على رأسها الصين، وعليه فإن الصمغ العربي وحده الذي يشكل عملياً ورقة ضغط وكرت سوداني مهم يمكن استخدامه وتجيره خدمة للأهداف الاستراتيجية أمام التسلط الأمريكي.
الذي يعضد فرص السودان لممارسة هكذا ضغط هو الاحصاءات التي لا تكذب، حيث تقدر بعض مراكز الاحصاء الأمريكية الموثوقة أن معدل استهلاك الفرد في الصين للمشروبات الغازية الكوكا كولا مثلا في حدود 90 علبة في العام، بينما يزيد العدد في الولايات المتحدة الى علبة في العام، علماً بأن تعداد سكان الولايات المتحدة يبلغ مليون نسمة تقريباً.
وقد يقول قائل إن ايقاف تصدير الصمغ لأمريكا لا يضر اقتصادها، وهذا صحيح؛ لكن بكل تأكيد ايقاف تصديره سيضر بمصالح أكبر ممولي اللوبيات المناهضة للسودان، الذين لن يكون أمامهم خيار سوى الضغط على الادارة الأمريكية لاتخاذ سياسات متوازنة وأكثر مرونة في حال قرر السودان إيقاف تصديره.
والشاهد على ذلك السابقة التي أزعجت الولايات المتحدة عندما هدد السفير السوداني في الولايات المتحدة جون يوك لوث في مؤتمر صحفي عقد في واشنطن يوم 30 مايو 2007م بحرمان الغرب من الصمغ العربي وظهر وهو محاطاً بمنتجات الكوكاكولا ومنتجات الصودا الاخرى التي تعتمد على الصمغ العربي في منتجاتها، الأمر الذي سبب مخاوف كبيرة لهذه الشركات من أن يتخذ السودان هكذا خطوة.
إذن، الأمر ليس بالسذاجة التي يراها بعض، خاصة إذا نظرنا لما تحققه شركات المشروبات الغازية الكبيرة من أرباح فلكية وعلى رأس ذلك شركتي كوكا كولا وبيبسي ، وقد حققت كوكا كولا الأمريكية العام الماضي أرباحا بلغت يفوق عشرة مليارات دولار بينما بلغت أرباح شركة بيبسي الأمريكية أكثر من 12 مليار دولار.
الواقع غير المنظور لكثيرين هو أن هذه الشركات تعلم علم اليقين أنها ستكون مضطرة للضغط على الحكومة الأمريكية عبر من تمولهم من أعضاء بالكونغرس الأمريكي في حال قرر السودان إيقاف التصدير، والشاهد أنها تخفي حاليا بسبب العداء الأمريكي المستفحل للسودان حقيقة مهمة وهي شراؤها للصمغ السوداني.
AZP07