الرواية العراقية المغتربة تتطلع إلى الوطن

الملتقى الروائي الأول في المركز الثقافي بلندن

الرواية العراقية المغتربة تتطلع إلى الوطن

وحيدة المقدادي

لندن

إختتم الملتقى الأول للرواية العراقية المغتربة ، المنعقد في المركز الثقافي العراقي بلندن أحد تشكيلات وزارة الثقافة مؤخراً ، جلساته بعد ثلاثة أيام من القراءات والتحليلات التي إستعرض فيها الروائيون المغتربون تجاربهم في الكتابة من المنفى من خلال شهادات روائية شخصية إنطوت على جانب كبير من السيرة الذاتية التي إرتبطت لدى الجميع بالهم العراقي المشترك ، لتُصبح في النهاية سيرة مشتركة للوطن الواحد ، وكان الناقد والقاص عدنان حسين أحمد قد ألمح من خلال أدارته للجلسات الى أن الرواية العراقية المغتربة ظلت تدور في الفضاء العراقي برغم إبتعادها الجغرافي عن الوطن، معتمدة على ماتجتره ذاكرة الروائيين من حوادث وذكريات ومشاعر، كما أن الرواية المغتربة تمحورت غالباً حول موضوع السجن والتعذيب والعلاقة بين الجلاد والضحية والشعور بالإغتراب الروحي وغيرها من الموضوعات المتعمقة في الذات الجمعية العراقية، الأمر الذي يجعل منها وثيقة تاريخية  دامغة عن حياة القهر التي عاشها أبناء الرافدين في ظل أنظمة متعاقبة لاتعرف للإنسان حُرمة ولا للحياة الأنسانية قيمة.

وبعد شهادات فاضل العزواي وسميرة المانع وصبري هاشم في اليوم الأول، تم تخصيص اليوم الثاني لروائيين كانوا قد أبلوا بلاءً حسناً من مواقعهم ولكن أصواتهم بقيت بعيدة عن الجمهورالعراقي الواسع، وذلك للأسباب والأوضاع المعروفة التي باعدت بين المبدع وبيئته وحرمت المتلقي العراقي من تلك الثمرات البرية الشهية، فكان الملتقى الروائي بمثابة فرصة للإقتراب من تلك الأصوات الروائية البعيدة التي لونتها المنافي بأطياف نادرة،  فقد غادر الروائي زهدي الداودي العراق إلى ألمانيا في العام 1967،ولكن شهادته الروائية خلال الملتقى  كانت تدور في فضاء مدينة كركوك التي أمتع الحضور في وصف أجوائها الثقافية المتطورة مؤكداً أن الوضع الثقافي في كركوك في الخمسينيات هو أفضل مما هو عليه اليوم، أراد الداودي الذي قرر في الصف الخامس الإبتدائي أن يكون كاتباً، أن يربط الرواية ربطاً طبيعياً بالحياة (فالرواية الخالية من الصراعات جثة بلا حياة) على حد تعبيره، وعندما نشر قصته (الصديقان) في مجلة (الأديب العراقي) أرسل نسخة منها الى رئيس الجمهورية آنذاك الزعيم عبدالكريم قاسم، وذات مرة قدمه الدكتورعلي جواد الطاهر إلى الشاعر بلند الحيدري قائلا : هذا هو زهدي، لو كان يعرف الفرنسية لظننت أنه ترجم قصته من الأدب الفرنسي واليوم تحظى قصص زهدي الداودي بإهتمام طلبة الدكتوراه حتى في كردستان برغم أنه يكتب ويفكر ويحلم بالعربية.

وعلى العكس من زهدي الداودي الذي دار حديثه في فضاء مدينة كركوك، فقد إستعرضت الروائية (دُنى غالي) إبنة البصرة التي نسجت صداقة دافئة مع الصقيع الدانماركي، أستعرضت علاقتها الناجحة مع بيئة المهجر الذي حطت فيه الرحال في عام 1992، فهي من قلائل الكتاب المغتربين الذين دخلت البيئة الجديدة الى أفق تفكيرهم وكتاباتهم، بل أنها أثبتت حضوراً عراقياً طيباً أمام الدنماركيين من  خلال ترجمتها لقصص (هانس كريستيان أندرسون) الى اللغة العربية وهو مشروع تبنته المكتبة الملكية في الدانمارك، و(دُنى غالي) التي أصدرت ثلاث روايات آخرها (منازل الوحشة) قالت لجمهورالمركز الثقافي العراقي أن الشخصية الروائية كثيرا ماتتمرد على الكاتب وتوقعه في مطبات غير متوقعة.. وهي  بعد ثلاث روايات، تقول أنها ماتزال جديدة على الكتابة الروائية ولكنها تتمتع برغبة قوية للأكتشاف وأستبطان شخصية معينة والغور فيها، تحفزها لذلك والدتها التربوية التي تأتي لها بشخصيات واقعية جديدة كلما عادت من العراق،وختمت دُنى غالي شهادتها الروائية بالقول أن الكاتب لابد أن يرتدي بدلة العمل يوميا ويمارس الكتابة، لأن الوقت كالجمرة.. ينبغي الإفادة منها وهي مشتعلة.

وأدلت الكاتبة المعروفة سالمة صالح بشهادة مقتضبة حملت خلاصات مركزة عن بواعث الكتابة وفنية الراوية ومأزق النقد الروائي، ففي روايتها الأولى (النهوض) التي صدرت عام 1995 وأعيد طبعها مؤخراً، عالجت سالمة صالح مسألة البراءة والذنب ومايُظهر الناس ومايُبطنون، فهي كاتبة مولعة بإزالة الحاجز الكائن بين المُعلن والمُضمر في الطبيعة البشرية، وترى أيضا أن التفاصيل المقحمة لاتخدم فنية الرواية بل تصبح عبئاً عليها، وأن من شروط النص الأدبي الناجح الأستمتاع بكل جملة فيه، على العكس من  النص العلمي الذي يُعنى بالخلاصات، كما أشارت الى أن عدم وجود نقد أدبي حقيقي، وليس عروض الكتب أو النقد الصحفي العابر الذي تنشره الصحف، هو من أسباب اللبس الحاصل في الكتابة الروائية كالخلط بين الشخصيات، وتحول الرواية الى سيرة ذاتية للكاتب، والأطالة غير المبررة وأستعجال الشهرة وماشابه من الأشكاليات التي تحيط بالفن الروائي، ومن المتوقع أن يصدر للكاتبة سالمة صالح قريبا رواية (الهاوية).

وتحدث الروائي عبدالهادي السعدون القادم من إسبانيا في اليوم الثالث ليجسد تجربة الجيل الأصغر من الروائيين العراقيين وهو جيل التسعينيات الذي عاصر الحروب وتجرع مرارتها مع ذلك لم يكن لنتاجه أية علاقة بـ (قادسية صدام) على حد تعبيره.. وقد إمتدح الناقد حاتم الصكر آنذاك قصصهم  قائلاً إنها تشكل (حساسية جديدة) في الرواية العراقية، ومع أن الدكتور علي جواد الطاهر كتب عنهم دراسة نقدية حطت من قيمة نتاجهم إلا أنها في الوقت نفسه منحتهم شهرة كانوا بحاجة أليها، وقال عبدالهادي سعدون أنه ترجم عشرين كتاباً من الإسبانية وأكد أن الترجمة (ساعدتني في تكوين صوتي الأدبي)، كما قدم ملاحظة هامة عن مأزق الكتاب العراقيين، فهو يخشى الكتابة عن الواقع العراقي الحالي بكل تحزباته وفصائله لأنه كان قد غادر العراق في العام 2000 دون أن يكون له إنتماء سياسي.

وقالت الكاتبة خولة الرومي المولودة في منطقة رأس القرية ببغداد، أن الفراغ الذي شعرت به خلال إقامتها منذ عام 1995 في بريطانيا، جعلها تتجه إلى الكتابة، فهي تتذكر بيتها في راغبة خاتون وتتذكر رائحة ورد الرازقي والشبوي، وكان عشق الماء سببا في عوداتها المتكررة الى العراق (ربما لأنني من الصابئة المندائيين..). وقال الناقد عدنان حسين أحمد في تقديمه أن رواية خولة الرومي الجديدة (آدم عبر الأزمان) ستلقي حجراً في المياه الراكدة.

ورَكز الكاتب عبدالله صخي في شهادته الروائية أمام جمهور المركز الثقافي العراقي على ضريبة العيش في الخارج والثمن النفسي الذي يدفعه المغترب (كنت أدرك أن المنفى سيسلبني بعضاً من إنسانيتي، في أقصى غرب لندن رحت أبني وطناً صغيراً بحجم القلب ورسمت عالماً خيالياً). في روايته (دروب الفقدان)  تتبع عبدالله صخي آثار المهاجرين الأوائل من الجنوب الى بغداد وسكناهم في مدينة (الثورة)  التي تغير إسمها مع كل نظام سياسي مر به العراق (أردت أن أكشف قدرة الأنسان على تحدي العبودية، وعبقريته في مواجهة الألم).

مداخلات ونقاشات

في كل مجالسهم ولقاءاتهم لايملك العراقيون إلا أن يتحدثوا عن هواجسهم السياسية وواقعهم المضطرب وإنعكاساته على مجمل شؤون حياتهم، ولم تنج أيام الملتقى الروائي الثلاثة من ذلك الهاجس المؤرق، وفيما ثمن بعض الحاضرين التطرق الى مدينة كركوك الجميلة في شهادة زهدي الداودي، ناقش البعض الآخر مشكلة توزيع الكتاب في العراق وموقف السلطة من الثقافة وإغلاق دور السينما وتأثيره على أزدهار الرواية، وأطلق الشاعر كريم عبد من الصفوف الخلفية أقتراحاً يدعو الى تشكيل حزب سياسي للأدباء لحماية حقوقهم.

وكان من بين المسائل الهامة التي تجدد طرحها خلال أيام الملتقى، ضرورة وجود نقد أدبي جاد يتناول الإنتاج الروائي العراقي في المهجر وهي فكرة بدأها الأديب فاضل العزاوي وفندها الناقد عدنان حسين أحمد مؤكدا أن هناك نقد عراقي يوازي الإنتاج الروائي العراقي وأشار الى المؤلفات النقدية للدكتور محسن جاسم الموسوي وعبدالله أبراهيم الذي أصدر خمسين كتابا في النقد وكذلك فاضل ثامر وآخرون.

وتناول الدكتور صلاح نيازي في مداخلاته مسألة العلاقة بين الهجرة والكتابة بلغة أجنبية، موضحاً أن (جيمس جويس) عاش في ألمانيا ثلاثين عاماً إلا أنه لم يكتب سوى عن مدينة (دبلن) في وطنه أيرلندا، وأنه لو لم يسافر الى ألمانيا لكتب عن خلافات مذهبية في أيرلندا بين البروتستانت والكاثوليك ولكن أقامته في ألمانيا جعلته يتناول الأمور من زاوية فكرية، أما لماذا لم يكتب الروائيون العراقيون المهاجرون بلغة أجنبية؟، أوضح الدكتور نيازي أن قلة منهم قد فعل، لكن الغالبية العظمى لم تكتب لأننا عموما لانرغب بالأختلاط في المجتمع الأنكليزي أو غيره، ولأن علاقتنا بالمجتمعات الأجنبية تقتصر على الجانب الثقافي وليس الأجتماعي، ولكن برغم ذلك فأننا نلحظ الأجواء الأنكليزية في نتاجنا الروائي المغترب في أمور عديدة، كطريقة تحليل الشخصيات و(قانونية) الموقف وهذه الملامح تكشف عن تأثر الروائيين العراقيين بالمجتمع الذي هاجروا إليه، وهذا التأثر الخفي يتطلب ناقداً عراقياً كبيراً يستطيع أن يكتشفه ويرصده.

توصيات هامة

فيما إسترسل الكتاب المشاركون في الملتقى الروائي في اليومين الأولين في الحديث عن تجاربهم الشخصية في المغترب، شكل اليوم الأخير نقلة هامة على صعيد ترجمة الأفكار والهواجس والأمنيات إلى توصيات جدية الغاية، منها حماية الأنتاج الروائي العراقي في المغترب وجمعه وتوثيقه وأعادته إلى بيئته الأصلية التى غادرها قسراً أو إختياراً تحت وطأة الخوف والقمع،وتلا الناقد عدنان حسين أحمد التوصيات التي رفعها المشاركون في الملتقى الروائي الأول الى وزارة الثقافة العراقية، وتلخصت كالآتي:

–           إعادة النصوص الروائية التي كتبت في المهجر الى العراق وتوزيعها على المحافظات العراقية

 وجعلها متاحة للقارئ العراقي الذي أنقطعت صلته بالإنتاج الروائي العراقي لعدة عقود .

حث النقاد والباحثين العراقيين على تناول الإنتاج الروائي العراقي الذي ولد في المهجر ودراسته وتقييمه وتوثيقه.

العمل على إدامة الصلة بالروائيين العراقيين المغتربين من خلال إقامة الندوات والأماسي الثقافية، وكذلك توجيه الدعوة للروائيين العراقيين في الداخل لزيارة المراكز الثقافية العراقية في دول المهجر.

العمل على ترجمة النتاج الروائي العراقي المهجري وذلك لتقديم الوجه الناصع للثقافة العراقية الذي شوهته الحوادث.

الإهتمام بالإبداع الروائي الذي كتبه العراقيون من الكرد والتركمان والكلدان والصابئة وجميع مكونات الشعب العراقي.

حث المغتربين العراقيين على الكتابة عن مهاجرهم ورصد حياتهم فيها وكذلك الكتابة عن المجتمعات الجديدة التي يعيشون فيها.

وقد قوبلت التوصيات بإستحسان وإرتياح جمهور الملتقى الروائي نظرا لما إنطوت عليه من الفائدة  لحماية الأدب العراقي المغترب.

وكان مدير المركز الثقافي العراقي بلندن الدكتور عبدالرحمن ذياب قد أوعز بطبع ونشر النصوص الروائية الجاهزة للمشاركين في الملتقى الروائي الذي أخذ المركز الثقافي العراقي على عاتقه تنظيمه ودعوة المشاركين فيه من دول أوربية مختلفة خدمة للثقافة العراقية.