مصير مؤلم
الدكتور أمير بقطر وسوء طالع مكتبته – نصوص – شكيب كاظم
اول مرة سمعت باسم الدكتور أمير بقطر (1898- أو- 1899/ 19/7/1966) الباحث في الامور الفلسفية والتربوية والمؤسس لكلية التربية بمصر وعميدها، عن طريق المرحوم أبي، اذ كان معجباً بكتاباته، وبقي أسمه عالقاً في ذهني، حتى اذا قرأت الفصل، الذي خصصه الأديب المصري الكبير الاستاذ وديع فلسطين في كتابه المهم والمفيد الذي سماه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره) الذي صدر جزؤه الاول ويقع في 366 صفحة، عن دار القلم بدمشق بطبعته الاولى سنة 1424- 2003، تأكدت لي قيمة هذا الباحث الرائد في مجالي علم النفس والتربية، المولود في مدينة أسيوط المصرية أواخر القرن التاسع عشر، والمتخرج في جامعة كولومبية بنيويورك، ولكن على الرغم من جديته واخلاصه وعلميته، فقد كان سوء الحظ والطالع ملازماً له، تستقرئ ذلك وتستشفه من خلال مطالعة هذا الفصل الجميل، الذي كتبه عنه الاستاذ الوديع، فهو لم يرزق من الولد ما يعينه على أمور الحياة الدنيا، واذ يتوفى بنوبة قلبية وهو يصطاف- كما اعتاد كل صيف- في مدينة ريفية بالنمسة في التاسع عشر من تموز/ 1966، واذ يتهيأ محبوه وعارفو علمه وفضله، على أحياء الذكرى السنوية الاولى لوفاته، تحصل نكبة الخامس من حزيران 1967، فكان من طبائع الامور، ان يلغى الأحتفال، فالدنيا حرب، ولا مكان للعلم وللعقل فيها، وتاتي الداهية الدهياء، مصير مكتبته المأساوي، فاذ يتوفى الدكتور أمير بقطر، الذي كان يسكن في شقة من بناية قديمة، يروم أصحابها تهديمها، كي يبنوا على أرضها عمارة تدر عليهم مالاً وفيراً، والانسان شغوف بالمال يحبه حباً جماً، فما بالك بقليلي العقول، منتفخي الجيوب ومندلقي الكروش والبطون؟!
ويبدو ان في مصر قانوناً، كما كان ساريا عندنا في العراق، بسبب اشتداد أزمة السكن، وانشغال الدولة بأمور العسكرة والحروب وتركها الاهتمام بحياة الناس، فدول الراديكاليات لا تتذكر الناس الا في الواجبات، فلا حقوق للبشر في دول الراديكاليات الثورية، ومازال عالقاً في ذهني، اعتذار الرئيس جمال عبد الناصر، في خطابه عشية الاحتفال بالذكرى الرابعة عشرة لثورة يوليو 1952، من انه لا يجد في خزينة الدولة عملة صعبة كي يبني بيوتاً للناس!
أيجوز هذا؟
أقول يبدو أن هناك قانوناً لا يسمح لمالك العقار، باخراج المستأجر، الا بسبب، وقد حان السبب وحصل، فلقد توفي المستأجر الاخير والوحيد في هذه البناية، فضلاً عن انه لا وريث له، لذا إهتبلها صاحب البناية فرصة سانحة، كي يبلغ الجهة المعنية، بموت المستأجر الاخير، ولا يهمه علمه ومنزلته وبحوثه، فلا صوت يعلو عند اصحاب الكروش على صوت المال، فجاء مندوبو هذه الجهة الرسمية، فكسروا باب الشقة، ونقلوا جميع ما فيها لبيعها في المزاد، لم تسلم حتى مكتبته، التي أمضى العمر كله في جمعها وقراءتها! فلا فرق عند الجهال بين الكتاب والمكنسة، فكلها أموال تؤول الى المزاد، ومن ثم الى الجيب الذي لا يمتلئ والمنادي مثل جهنم: هل من مزيد؟!
وما حركت الجامعة، جامعة القاهرة، التي كان أمير بقطر عميداً لكلية التربية فيها، ولا جامعة اسيوط بوصفه من أبنائها، فالكل منشغل في أمور الحياة الـدنيا الزائلة، وهكذا آل مصير هذه المكتبة الى سور حديقة الأزبكية يساوم عليها كل جاهل ومفلس عقل وجيب.
قال الاديب المصري الكبير الاستاذ وديع فلسطين (وقد أفجعني أن أرى هذه الكتب متناثرة على السور العتيد- قبل هدمه- تقلبها أيدي المماكسين، وتباع مفرداتها بقروش قليلة، ولو كان هناك رشيد يعرف قيمة هذه المكتبة لأشار باهدائها الى احدى كليات التربية، بما ينتفع بها طلابها واساتذتها وباحثوها ولكن…)
مصير مكتبة الاستاذ الدكتور امير بقطر المأساوية، يعيد للذاكرة مصائر مكتبات ومخلفات العديد من كبار الباحثين والمبدعين في العراق والوطن العربي فهم ما ان يطويهم الردى، حتى يسارع الورثة الى بيعها او التخلص منها، اذ يعدونها عبئاً ثقيلاً عليهم، وهي حقاً عبء على الجهال وبعضهم من الراشدين يهديها الى احدى المؤسسات العلمية والثقافية، وفي الذاكرة مكتبة الراحل الكبير الدكتور مصطفى جواد (1900- 16/ 12/ 1969) المهداة الى مكتبة المتحف العراقي، فضلاً على مكتبة الراحل الباحث يوسف يعقوب مسكوني (1903- 11/ 4/ 1971) ولقد رأيتهما، لدى زياراتي مكتبة المتحف العراقي العامرة لغرض القراءة، في حين يهتم الناس والجهات المعرفية في اوربة والغرب بارث كبارهم، ومازلت اتذكر الدراسات التي كتبها الباحث العراقي الرصين الاستاذ الدكتور صفاء خلوصي (17/ 8/ 1917- 8/ 9/ 1995) الذي تخرجت على يديه الكريمتين أجيال واجيال، استاذاً في كليتي الاداب والتربية بجامعة بغداد واستقر في سنواته الاخيرة في ضاحية اكسفورد القريبة من لندن أقول: أتذكر دراساته التي كان ينشرها في مجلة (العربي) الكويتية عن زياراته لمنازل العديد من المبدعين الانكليز، وابقائها مفتوحة للزوار والباحثين، وكأن أصحابها ما غادروها، وفي الذاكرة زيارته لمنزل وليم شكسبير (1564- 1616) فضلاً على زيارته لمنزل الاخوات برونتي، شارلوت (1816- 1850) مبدعة رواية (جين إير) واميلي (1818- 1848) منتجة رواية (مرتفعات وذرنك) وصغراهن الأقل شهرة (آن) (1820- 1849) ولنقف ملياً عند السنوات القليلة التي عاشتها الاخوات المبدعات الثلاث.
ولله في خلقه شؤون وشجون.


















