الجهل بالتركيب يعوق التعامل النقدي

الدلالات اللغوية لضمائر الأسلوب القرآني

الجهل بالتركيب يعوق التعامل النقدي

 هادي حسن حمودي

لفت نظري الدكتور محمد عبد العالي عيسى من القاهرة إلى مقال بعنوان (الضمائر في القرآن الكريم) أرسله لي وأراد التعرف على الرأي اللغوي فيه.

ثم تفضل الصديق محمد عبد العالي فأخبرني أن المقال ليس له، ونقله لي كاملا، كما ذكر لي الموقع الإلكتروني في الشبكة العنكبوتية حيث نشر المقال وما ساوقه (الموقع مدون في الأسفل).

(1)

هذا المقال يمثل نهجا تقليديا لقدماء أخضعوا القرآن لما يريدون، بالرغم من جهلهم بتركيبه اللغوي. ولا أدري كيف يمكن أن يتعامل الناقد مع نص يجهل تركيبه اللغوي!

ذلك أني بعد أن قرأت المقال وما ساوقه مما نُشر هناك تذكرت جملة واقعات حقيقية طريفة يجدر ذكرها:

* يقال إن شيخا سئل: هل يجب على المتوضئ أن يغسل شاكلته؟ فلم يعرف الجواب، إذ كان يجهل معنَى (الشاكلة). والشاكلة: جانب الوجه القريب من الأذن عن يمين وشمال. ولم يكن يعرف إن كانت الشاكلة مشمولة بآية الوضوء أم لا؟

* ويقال إن شيخا سئل عن معنى (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ) فجزّا الآية تجزئة أخرى قائلا: (وماتوا) معروفة. والإشكال في (فيقي)!

* وجاء رجل إلى شيخ يستفتيه بالكفارة التي عليه لأنه أكل المخيض (وهو نوع من الطعام) مع امرأته وهي حائض. متصورا أن المخيض هو المحيض المذكور في: (فاعتَزِلوا النّساءَ في المحيضِ).

* ونقلوا أن أحدهم صلى بالمسافرين صلاة المغرب قصرا (أي إنه صلى ركعتين بدل ثلاث ركعات) معتمدا على قوله، تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ).

وكلما قرأت مقالا من عديد المقالات التي تشيع هذه الأيام مثل مقال (الضمائر في القرآن) الذي نحن بصدده أتذكر الواقعات المذكورة.

(2)

مثل هذا المقال جمّ غفير وهي جميعا تشترك في أن كاتبيها ظنوا في أنفسهم العصمة اللغوية، من غير أن يدركوا أن فهم اللغة حق الفهم لا يرتضي اللهوجة والتسرع، بل يجب أن يقوم على أساس استكشاف الدلالة الأولى (أي الأقدم) للفظ، ومن ثم النظر في تطوراته واستعمال القرآن الكريم له. من غير مواقف مُسبقة، لا كالذي قرره بعضهم من أن للمرأة أن تتعرى أمام محارمها، ولها أمام غيرهم أن تغطي فقط جيوب جسدها كإبطيها وما شابه، اعتمادا على رؤية مشوهة ممسوخة لقوله، تعالى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). وكالآخر الذي قال إن للمرء أن يكرع من الخمر حلالا بلالا ويتوقف في اللحظة التي يرى أنه إذا استمر في الاكتراع فسيسكر!!

ثم هي تشترك في أن كاتبيها يذمون من لا يرى رؤيتهم ويرمونه بساقط الكلام ومرذول القول. ويطلقون شعارات فضفاضة كثيرا لا تنسجم مع المواضيع التي يتحدثون عنها. وقد سبق أن نشرت في مقالات صحفية وتدوينات في موقع التواصل الإلكتروني (فيسبوك) أمثلة من ذلك،

(3)

المقالة التي بين أيدينا تبدأ، كغيرها، بمقدمة تسويغية مخادعة وإن كانت مصوغة بحذلقة لغوية لم تسلم هي ولا المقالة كلها من الأخطاء النحوية واللغوية، فيقول الكاتب الذي لم يذكر إسمه: (وما دمنا تطرّقنا للضمائر، فنُثبت هنا أهمّ قاعدةٍ مستقرأةٍ (كذا) مِن كتاب الله وموافقة للسان العربيّ المبين، التي أخلّ بها المفسّرون قاطبةً وهُتِكَ بها نظام اللسان العربيّ (!!) فلمْ يعُدْ النصّ يشفّ عن معنَىً أكيد، تلك التي (!!) لو أُعيد النّظر فيها فقطّ لتغيّر النّظر إلى كثيرٍ مِنْ العقائد ولسقط نصفُ التفسير الموجود بين أيدينا، ولانحسمت (؟) أمورٌ كانت محلّ نزاع تاريخيّ في مسائل: ماهيّة الوحي، خلق القرآن، قصّة الخلْق الأوّل، دور الملائكة وإبليس، فلسفة الوجود ونظامه، التوحيد والوسائط الربّانيّة، ومعنَى خلافة الإنسان). والمقال كله ليس له أدنى علاقة بهذه المسائل التي يشير إليها. ولنأخذ على ذلك مثالين ذكرهما الكاتب المجهول:

(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ). ثم يعقب الكاتب: (وسألنا: رسلُ مَن التي جاءت لإبراهيم؟ لقال المفسّر: رسل الله! قُلنا: لماذا لمْ يقل: “رسلي” كما قال (لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)؟! قالوا تعظيما وتفخيماً لنفسه تكلَّم عن نفسه بالجمع!! قلنا: “لأغلبنّ أنا ورسليّ”، أولى بالتفخيم والتعظيم).

ويواصل: (وسألنا: مَنْ قائل هذه القصّة كلّها للنبيّ؟ لقال المفسّر: الله سبحانه! قُلنا: الله يقول: “يُجادلنا في قوم لوط” فهل الله العليّ يُجادَل؟ وهل الله الواحد “جمْع” – مع عدم اعترافنا بالتفخيم المزعوم الذي لا ضابط له؟ وكيف يقول الله لإبراهيم “إنّه قدْ جاء أمرُ ربّك” متكلّماً عن غائب؟).

* والرد عليه بسيط جدا: فلنأخذ هذا المثال: لو أرسلت مفاوضا يفاوض أحد الناس بشأن ما، فهذا المفاوض يتكلم عن لساني بل ينقل كلماتي ذاتها. وأستطيع بعد انتهاء المفاوضة أن أقول: تصوروا يا جماعة إن فلانا يناقشنا، ولي أن أقول: إنه ناقش من أرسلته إليه. التعبير الأول أمعن في الدلالة. إذ التعبير الثاني يجعل النقاش محصورا بين المفاوض ومن يفاوضه. بينما التعبير الأول يجعل المناقشة معي حتى لو كانت عبر وسيط أو مفاوض.

* أما سؤال لماذا قال كذا ولم يقل كيت؟ فليس من العلم في شيء. فله أن يقول كذا أو كيت. ولكل تعبير دلالة وسياق بياني.

ومثال آخر يقول فيه: (ثمّ نقرأ بغصّتنا (؟) بعدها قصّة لوط: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) والسؤال يتكرّر مِنْ القارئ العربيّ (هذا ما يقوله): مَنْ المتكلّم (الجمع) الذي يقول: “فلمّا جاء أمرُنا جعلنا”؟ يُجيب المفسِّر: هو الله تعالى المفخِّم نفسَه! قلنا: كيف يكون هو الله ثمّ يقول: “مسوّمةً عند ربّك”، يتكلّم عن (يتكلم على لا عن) نفسه جمعاً ثمّ بضمير الغائب أيضاً، لِمَ لا يقول “مسوّمةً عندي”، وعلى الزعم بالتفخيم “مسوّمةً عندنا”؟!).

ولا يكتفي بذلك بل يقول: (ثمّ نواصل القراءة: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)، ونسأل مجدَّداً السؤال نفسه: المتكلّم يقول (بضمير المتكلّم الجمع): “وما ظلمناهم”، لكنّه يتكلّم عن “الله” وعن “أمْر الربّ” بضمير الغائب المفرَد، فإذا كان اللهُ المتكلّمَ والضمائرُ كلُّها راجعةً إليه لَمَ لمْ يقلْ: (وما ظلمتُهم- مِنْ دوني – جاء أمري)؟!).

ثم شن غارة على المفسرين كما سبق أن شن غارة على من سماهم (عبيد الفقهاء) في موضوع الخمر إذ أميل إلى أن الكاتب واحد.وحين يصل إلى الخاتمة ليستخلص ما يريد يتيه في خضم من المناورات اللفظية بحيث يضيع في متاهاتها حتى يقرر أن الآيات القرآنية ليست من الله وإنما من كلام الملائكة، وأن كل ضمائر الجمع في القرآن تشمل الله والملائكة. أو هي تخص الملائكة فقط.

(4)

ولا أريد أن أطيل على القارئ لئلا يصيبه الملل، فأكتفي بأن أقول:

* قرر القدماء أن لفظ (إنّا) و(نحن) لتفخيم المتكلم وتعظيمه. وهذا ما أثار ثائرة كاتب المقال. وقد تناسى هو، كما لم يذكروا هم، أن معنَى التعظيم والتفخيم يتضمن معنَى تفخيم المتكلم وتفخيم مضمون كلامه. أي توكيد منزلة المتكلم وتوكيد المعنَى المقصود. وقد يقتضي السياق تأكيد التوكيد كما في (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فـ (إنّا) الأولى والثانية و(نحن) والجمع في (نزلنا) واللام في (لحافظون) كلها للتأكيد والتوكيد. ترفع الدلالة والمعنَى إلى أعلى مستوى من اليقين. وفي المكاتبات الرسمية العراقية أيام الحكم الملكي، نقرأ (نحن ملك العراق.. رسمنا بما هو آت..) فهذا تفخيم للملك كما انه تفخيم لمضمون المرسوم الملكي لزيادة احترامه والاهتمام به.

* وقد ورد ضمير الجمع (نحن) و(إنا) دالا على الله تعالى وحده في جميع الآيات القرآنية المؤكّدة لقدرته تعالى، وذلك لتعميق توكيد مضامينها، كما في: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ . وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ..).

استشهد الكاتب ببعض هذا النص، ولواه يمينا ويسارا ليقول إن المقصود الملائكة. فنسأله: من الذي استجاب؟ سيقول الله؟ ومن الذي وهب يحيى لزكريا؟ سيقول الله؟ ولمن كانوا يدعون رغبا ورهبا؟ سيقول يدعون الله إذ ليس من المعقول ولا من المقبول ولا من المنقول أن يدعوا الملائكة (رغبا ورهبا). وزكريا ينادي (ربه) فيجيبه ربه (فاستجبنا) وليس فاستجبت تأكيدا ليقينية المضمون وإلا فهل اشترك الملائكة معه في الاستجابة؟ وهكذا بقية الآيات، فكل ضمائر الجمع فيها دالة على الله، تعالى، وحده، لتأكيد المضامين، لا لإجلاله وتعظيمه فحسب.

وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ..) هل يدل على غير الله تعالى؟

ومن الذي يرسل الرسل؟ الله، تعالى، وها هو يقول (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم). لاحظ أرسلنا، وهل تشمل الملائكة؟

ومن الذي يرزق؟ الله تعالى بحكم قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) ولنقارنها مع (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وأيضا: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ)

وإهلاك القرى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً) فهل تمثل هذه الآية إرادة الله وحده، أم إرادة الملائكة أيضا؟

وتعال إلى آيات الخلق (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ) (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فضمائر جمع والمراد الله تعالى وحده.

فهل نحن بحاجة إلى أمثلة أخرى؟ آيات القرآن كلها أمثلة إن شئت التدبر فيها والتفكر بمضامينها بعيدا عن ليّ الكلام وتحريفه. هو الوحي الذي أوحاه الله لرسله.

(5)

وقد سُبق هؤلاء بآخرين أساءوا إلى القرآن من نواح عدة منها، مثلا، أن بعضهم قال: إن ابن نوح كان من الناجين، لأنه (غرق) في رحمة الله التي هي الماء! وعلــى هذا قــــس مــــا ســــواه.

نهج هؤلاء لا يمكن أن يوصف بالعلمية ولا بالموضوعية, هو خطيئة، وفي أحسن الظنون خطأ يؤدي إلى خطيئة. إن المنهج العقلي العلمي الموضوعي الجدير بصفته يلزمنا أن نتواضع أمام النصوص التي ندرسها أو ننقدها، فكيف نتناول نصا نجهل أصول تركيبه اللغوي؟

تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ).

وكلما قرأت مقالا من عديد المقالات التي تشيع هذه الأيام مثل مقال (الضمائر في القرآن) الذي نحن بصدده أتذكر الواقعات المذكورة.

(2)

مثل هذا المقال جمّ غفير وهي جميعا تشترك في أن كاتبيها ظنوا في أنفسهم العصمة اللغوية، من غير أن يدركوا أن فهم اللغة حق الفهم لا يرتضي اللهوجة والتسرع، بل يجب أن يقوم على أساس استكشاف الدلالة الأولى (أي الأقدم) للفظ، ومن ثم النظر في تطوراته واستعمال القرآن الكريم له. من غير مواقف مُسبقة، لا كالذي قرره بعضهم من أن للمرأة أن تتعرى أمام محارمها، ولها أمام غيرهم أن تغطي فقط جيوب جسدها كإبطيها وما شابه، اعتمادا على رؤية مشوهة ممسوخة لقوله، تعالى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). وكالآخر الذي قال إن للمرء أن يكرع من الخمر حلالا بلالا ويتوقف في اللحظة التي يرى أنه إذا استمر في الاكتراع فسيسكر!!

ثم هي تشترك في أن كاتبيها يذمون من لا يرى رؤيتهم ويرمونه بساقط الكلام ومرذول القول. ويطلقون شعارات فضفاضة كثيرا لا تنسجم مع المواضيع التي يتحدثون عنها. وقد سبق أن نشرت في مقالات صحفية وتدوينات في موقع التواصل الإلكتروني (فيسبوك) أمثلة من ذلك،

(3)

المقالة التي بين أيدينا تبدأ، كغيرها، بمقدمة تسويغية مخادعة وإن كانت مصوغة بحذلقة لغوية لم تسلم هي ولا المقالة كلها من الأخطاء النحوية واللغوية، فيقول الكاتب الذي لم يذكر إسمه: (وما دمنا تطرّقنا للضمائر، فنُثبت هنا أهمّ قاعدةٍ مستقرأةٍ (كذا) مِن كتاب الله وموافقة للسان العربيّ المبين، التي أخلّ بها المفسّرون قاطبةً وهُتِكَ بها نظام اللسان العربيّ (!!) فلمْ يعُدْ النصّ يشفّ عن معنَىً أكيد، تلك التي (!!) لو أُعيد النّظر فيها فقطّ لتغيّر النّظر إلى كثيرٍ مِنْ العقائد ولسقط نصفُ التفسير الموجود بين أيدينا، ولانحسمت (؟) أمورٌ كانت محلّ نزاع تاريخيّ في مسائل: ماهيّة الوحي، خلق القرآن، قصّة الخلْق الأوّل، دور الملائكة وإبليس، فلسفة الوجود ونظامه، التوحيد والوسائط الربّانيّة، ومعنَى خلافة الإنسان). والمقال كله ليس له أدنى علاقة بهذه المسائل التي يشير إليها. ولنأخذ على ذلك مثالين ذكرهما الكاتب المجهول:

(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).

ثم يعقب الكاتب: (وسألنا: رسلُ مَن التي جاءت لإبراهيم؟ لقال المفسّر: رسل الله! قُلنا: لماذا لمْ يقل: “رسلي” كما قال (لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)؟! قالوا تعظيما وتفخيماً لنفسه تكلَّم عن نفسه بالجمع!! قلنا: “لأغلبنّ أنا ورسليّ”، أولى بالتفخيم والتعظيم).

ويواصل: (وسألنا: مَنْ قائل هذه القصّة كلّها للنبيّ؟ لقال المفسّر: الله سبحانه! قُلنا: الله يقول: “يُجادلنا في قوم لوط” فهل الله العليّ يُجادَل؟ وهل الله الواحد “جمْع” – مع عدم اعترافنا بالتفخيم المزعوم الذي لا ضابط له؟ وكيف يقول الله لإبراهيم “إنّه قدْ جاء أمرُ ربّك” متكلّماً عن غائب؟).

* والرد عليه بسيط جدا: فلنأخذ هذا المثال: لو أرسلت مفاوضا يفاوض أحد الناس بشأن ما، فهذا المفاوض يتكلم عن لساني بل ينقل كلماتي ذاتها. وأستطيع بعد انتهاء المفاوضة أن أقول: تصوروا يا جماعة إن فلانا يناقشنا، ولي أن أقول: إنه ناقش من أرسلته إليه. التعبير الأول أمعن في الدلالة. إذ التعبير الثاني يجعل النقاش محصورا بين المفاوض ومن يفاوضه. بينما التعبير الأول يجعل المناقشة معي حتى لو كانت عبر وسيط أو مفاوض.

* أما سؤال لماذا قال كذا ولم يقل كيت؟ فليس من العلم في شيء. فله أن يقول كذا أو كيت. ولكل تعبير دلالة وسياق بياني.

ومثال آخر يقول فيه: (ثمّ نقرأ بغصّتنا (؟) بعدها قصّة لوط: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) والسؤال يتكرّر مِنْ القارئ العربيّ (هذا ما يقوله): مَنْ المتكلّم (الجمع) الذي يقول: “فلمّا جاء أمرُنا جعلنا”؟ يُجيب المفسِّر: هو الله تعالى المفخِّم نفسَه! قلنا: كيف يكون هو الله ثمّ يقول: “مسوّمةً عند ربّك”، يتكلّم عن (يتكلم على لا عن) نفسه جمعاً ثمّ بضمير الغائب أيضاً، لِمَ لا يقول “مسوّمةً عندي”، وعلى الزعم بالتفخيم “مسوّمةً عندنا”؟!).

ولا يكتفي بذلك بل يقول: (ثمّ نواصل القراءة: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)، ونسأل مجدَّداً السؤال نفسه: المتكلّم يقول (بضمير المتكلّم الجمع): “وما ظلمناهم”، لكنّه يتكلّم عن “الله” وعن “أمْر الربّ” بضمير الغائب المفرَد، فإذا كان اللهُ المتكلّمَ والضمائرُ كلُّها راجعةً إليه لَمَ لمْ يقلْ: (وما ظلمتُهم- مِنْ دوني – جاء أمري)؟!).

ثم شن غارة على المفسرين كما سبق أن شن غارة على من سماهم (عبيد الفقهاء) في موضوع الخمر إذ أميل إلى أن الكاتب واحد.

وحين يصل إلى الخاتمة ليستخلص ما يريد يتيه في خضم من المناورات اللفظية بحيث يضيع في متاهاتها حتى يقرر أن الآيات القرآنية ليست من الله وإنما من كلام الملائكة، وأن كل ضمائر الجمع في القرآن تشمل الله والملائكة. أو هي تخص الملائكة فقط.

(4)

ولا أريد أن أطيل على القارئ لئلا يصيبه الملل، فأكتفي بأن أقول:

* قرر القدماء أن لفظ (إنّا) و(نحن) لتفخيم المتكلم وتعظيمه. وهذا ما أثار ثائرة كاتب المقال. وقد تناسى هو، كما لم يذكروا هم، أن معنَى التعظيم والتفخيم يتضمن معنَى تفخيم المتكلم وتفخيم مضمون كلامه. أي توكيد منزلة المتكلم وتوكيد المعنَى المقصود. وقد يقتضي السياق تأكيد التوكيد كما في (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فـ (إنّا) الأولى والثانية و(نحن) والجمع في (نزلنا) واللام في (لحافظون) كلها للتأكيد والتوكيد. ترفع الدلالة والمعنَى إلى أعلى مستوى من اليقين.

وفي المكاتبات الرسمية العراقية أيام الحكم الملكي، نقرأ (نحن ملك العراق.. رسمنا بما هو آت..) فهذا تفخيم للملك كما انه تفخيم لمضمون المرسوم الملكي لزيادة احترامه والاهتمام به.

* وقد ورد ضمير الجمع (نحن) و(إنا) دالا على الله تعالى وحده في جميع الآيات القرآنية المؤكّدة لقدرته تعالى، وذلك لتعميق توكيد مضامينها، كما في: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ . وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ..).

استشهد الكاتب ببعض هذا النص، ولواه يمينا ويسارا ليقول إن المقصود الملائكة. فنسأله: من الذي استجاب؟ سيقول الله؟ ومن الذي وهب يحيى لزكريا؟ سيقول الله؟ ولمن كانوا يدعون رغبا ورهبا؟ سيقول يدعون الله إذ ليس من المعقول ولا من المقبول ولا من المنقول أن يدعوا الملائكة (رغبا ورهبا). وزكريا ينادي (ربه) فيجيبه ربه (فاستجبنا) وليس فاستجبت تأكيدا ليقينية المضمون وإلا فهل اشترك الملائكة معه في الاستجابة؟ وهكذا بقية الآيات، فكل ضمائر الجمع فيها دالة على الله، تعالى، وحده، لتأكيد المضامين، لا لإجلاله وتعظيمه فحسب.

وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ..) هل يدل على غير الله تعالى؟

ومن الذي يرسل الرسل؟ الله، تعالى، وها هو يقول (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم). لاحظ أرسلنا، وهل تشمل الملائكة؟

ومن الذي يرزق؟ الله تعالى بحكم قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) ولنقارنها مع (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وأيضا: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ)

وإهلاك القرى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً) فهل تمثل هذه الآية إرادة الله وحده، أم إرادة الملائكة أيضا؟

وتعال إلى آيات الخلق (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ) (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فضمائر جمع والمراد الله تعالى وحده.

فهل نحن بحاجة إلى أمثلة أخرى؟ آيات القرآن كلها أمثلة إن شئت التدبر فيها والتفكر بمضامينها بعيدا عن ليّ الكلام وتحريفه. هو الوحي الذي أوحاه الله لرسله.

(5)

وقد سُبق هؤلاء بآخرين أساؤوا إلى القرآن من نواح عدة منها، مثلا، أن بعضهم قال: إن ابن نوح كان من الناجين، لأنه (غرق) في رحمة الله التي هي الماء! وعلــى هذا قــــس مــــا ســــواه.

نهج هؤلاء لا يمكن أن يوصف بالعلمية ولا بالموضوعية, هو خطيئة، وفي أحسن الظنون خطأ يؤدي إلى خطيئة. إن المنهج العقلي العلمي الموضوعي الجدير بصفته يلزمنا أن نتواضع أمام النصوص التي ندرسها أو ننقدها، فكيف نتناول نصا نجهل أصول تركيبه اللغوي؟

{ موقع المقال المذكور: (www.tajdeed.org/article).