الذكرى السنوية للغزو
التدمير الأمريكي المتعمّد للعراق
صـــبحي ناظــم توفيــق لقد زجّ الأمريكيون (135,000) جندي معزّزين بمئات الدبابات والطائرات والمُعدّات المتطورة، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق الأمن بهذا البلد إيفاءً لوعودهم في إعماره وإبرازه نموذجاً في هذه البقعة من العالم، وعوضاً عن ذلك إقترفت قياداتهم العسكرية و”سلطة الإدارة المؤقتة” جملة أخطاء لا يصدّق أن تقدم عليها دولة عظمى… لذلك فلدى إستذكاري لتلك الأيام العصيبة تقفز إلى ذهني يوم إلتحقتُ برتبة “نقيب” تلميذاً في “كلية الأركان العراقية” عام (1973) حين تلقينا دروساً في (واجبات الأركان) نصّت إحدى مفرداتها:- ((تشكل قيادة الفرقة “حكومة عسكرية للشؤون المدنية” حال دخول تشكيلاتها أية مدينة، سواء أكانت في أرض العدو أم متمردة على سلطة الدولة)) .
وكان وجوباً علينا أن ندرخ إجراءات تلك الحكومة المُفتَرَضة، والتي تبدأ بحظر التجوال وإعلان الأحكام العرفية فوراً، وإستدعاء قادة العدو السياسيّين والعسكريّين والإداريين للتوقيع على وثائق إستسلام أصولية ولو توجَّبَ ذلك إستخدام السلاح، وإجبارهم على إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم لتسليم أسلحتهم إلى مواقع مُحددة وفق منهج زمنيّ، وفرض الحِفاظ على مؤسّسات الدولة ومُحتوياتها، وإصدار أوامر جازمة لمسؤولي الأجهزة الأمنية وأفراها للإلتحاق بمراكزهم، وإلى الأطّباء ومنتسبي المستشفيات وموظّفي الدوائر الخدميّة ومحطّات الوقود والمخابز لتأمين المتطلبات اليومية لمواطني المدينة المحتلّة، وذلك قبل تشخيص المُسيئين والمشكوك في ولاءاتهم إبتغاء حجزهم أو تقييد حريّاتهم… ولمّا لم يتّخذ الأمريكيون أياً من تلك الخطوات، ويفترض أنهم أصحاب خبرات متوارثة في إحتلال أقطار وإسقاط حكومات، فقد إستغربنا-نحن ضباط الأركان السابقون- من هذا التصرف المُريب، والذي تمخّض عنه فقدان الأمن والأمان في بلد يتحكم به نظام طالما وصفه الأمريكيّون دكتاتورياً وشمولياً بأجهزته الأمنية التي لا تعرف الرحمة… وذلك ما جعل العراق فور إنهيار نظامه عرضة للنهب والسرقة والتدمير والحرق، أعقبها قتل بالجملة وبمعدّلات يوميّة ولغاية يومنا هذا… فهل يُعقَل أن “واشنطن” لم تُخطّط لِما بعد إحتلال العراق كما يزعم البعض؟! وأن “البنتاغون” أو الخارجيّة الأمريكيّة لا تدركان هذه الأمور!! وهل أن القادة الأمريكيين لم يتلقوا دروساً مشابهة لمحاضرات الضباط العراقيين في كلية أركانهم المتواضعة؟! وكيف يدير القادة الأمريكيّون العشرات من القواعد الضخمة في العالم لحماية مصالح دولتهم العظمى والغرب وسواهما، إن هُمْ ليسوا على دراية بمثل هذه الأمور المبدئية والأساسية.
أما الأخطاء اللاحقة، فكانت نتائجها أنكى وأمرّ من سابقاتها، ومن أخطرها حلّ وزارة الداخلية والمؤسسات الأمنية، ثم وزارتي الدفاع والإعلام تباعاً، وإعتبار منتسبيها بمثابة مُنحَلّين/مطرودين، ما أكسب الأمريكيين مئات الآلاف من الخصوم المقتدرين على إستخدام السلاح، بعد أن قُطِعَ عليهم مصدر رزقهم، ناهيك عن إستشعارهم بالإهانة… وعدم إتخاذ أية خطوات جدية لسحب الأسلحة المتنوعة من بين أيدي الذين ثبت أنهم إصطحبوها أو سرقوها وخبأوها في بيوتهم ومزارعهم وقراهم… ثم تشكيل “مجلس حكم مؤقت” على أسس عرقيّة وطائفية ومذهبية، وتعيين الأغلبية العظمى من أعضائه ممن كانوا مقيمين خارج العراق لعقود، حيث لم يستطع معظمهم أن يتفهم واقع العراقيين وبالأخصّ خلال الأعوام العشرة الأخيرة من العهد السابق… ثم أسسوا “هيأة إجتثاث البعث”، لتتخذ قرارات ((عقوبات جماعية)) حيال الملايين من العراقيين الذين كانوا قد اُضطُرّوا للإنتماء إلى صفوف ذلك الحزب… ثم إلغوا جميع دوائر الدولة العليا ونهبوا ممتلكاتها وحرقوها، وإعتبروا منتسبيها مطرودين من الخدمة بلا حقوق ولا رواتب تقاعدية… وأعادوا تشكيل “الشرطة العراقية” بجمع أشخاص من الشارع العراقي، ومن دون تحقيق هوية، وأخفقوا في تسليحهم وتجهيزهم بمعدات مقتدرة يمكن أن يتفوقوا بها حتى على ما لدى الجناة والعابثين… وماطلوا في إعادة تشكيل بعض الجيش العراقي، وشكلوا أول أفواجه على أسس غير مدروسة وبرواتب بخسة وبأسلحة بسيطة… ولم يكترثوا بظاهرة البطالة التي عمَّت الشارع العراقي، في حين منحوا أعضاء “مجلس الحكم” وكبار مسؤولي الدولة رواتب ومخصصات تبلغ بضعة آلاف من الدولارات، حتى تساءل المواطن العراقي عن ماهية الفرق بين ترف مسؤولي النظام السابق و((رموز))”العراق الجديد”… وأهملوا معضلات خطيرة في مجالات الكهرباء، المجاري، الشوارع، المحروقات، فتضاعفت أثمانها في السوق السوداء إلى عشرات أضعاف أسعارها الرسمية… وقد شابت العنجهية جنودهم في دورياتهم ومداهماتهم للبيوت، وثبتت بحقهم سرقة الأموال والذهب، وكذلك المال العام من المؤسسات الحكومية وأمام الأنظار دون أن يجرأ أحد المسؤولين العراقيين إتخاذ أي إجراء بحقهم… ولم يتخذوا خطوات جادة للسيطرة على التسلّل والتهريب وضبط الحدود، أو إعادة تشكيل قوات الحدود العراقية بإستدعاء منتسبيها السابقين ليرابطوا في مئات المراكز الحدودية السائبة… وقد سمحوا لزعماء الأحزاب وكبار إداريّي “العراق الجديد” أن يستحوذوا على قصور فارهة تركها قادة النظام السابق وأقرباؤهم فإتخذوها مساكن لشخوصهم ومكاتب لأحزابهم ومراتع لراحتهم وإستجمامهم، ما أثار إرهاصات مشهودة لدى عموم العراقيين… وقد حصروا مفهوم “الأمن” في مجرد الحفاظ على قيادات وأفراد قوات التحالف وكبار المسؤولين العراقيين، وملأوا الشوارع بجدران كونكريتية مزعجة، وقطعوا الجسور، وإعتبروا أجزاءً مهمة من بغداد والعديد من المدن الكبرى مناطق محرّمة على عموم العراقيين… وقد فشلوا في إعداد دستور إنتقالي للبلاد، وفرضوا عوضاً عنه “قانون إدارة الدولة المؤقت”، ما أفسح أكثر من مرتعٍ خصب لصراع عنيف على السلطة في أي ظرف سانح… وقد أمضى”المدير الإداري لسلطة الائتلاف” والرئيس الدوري لمجلس الحكم بعد محادثة قصيرة على إتفاقية غير واضحة المعالم تقضي بنقل السلطة إلى حكومة عراقية مؤقتة، ومن دون تهيــــــــــــئة أرضـــــية ملائمة لهذه الخطوة الخطيرة والحساسة.
ولذلك فلمّا بُنِيَ ((العراق الجديد)) على أُسس عوجاء وتحت طائلة تصرّفات عرجاء، فقد مال بناؤه وترنّح، ويبدو على أكبر الظنّ أنه إن لم يكن آيلاً إلى السقوط، فإنه سيظلّ أشبه بمُصاب بطفرة وراثية لا يُرجى شفاؤه حتى يكتشف العلماء دواء ناجعاً ربما يُعدّل بعضاً من إعوجاجه.
{ عميد ركن متقاعد- خبير ستراتيجي