التأطير المتجاوز لما لا يتبقى من النسيان – نصوص- علوان السلمان
القص القصير (فن الايجاز والتركيز الدال)..نتاج فني يتكئ على شروط ومواصفات تستدعي احساسا بالشكل وقدراً من الابداع الجمالي بجسد لغوي متقاطع والواقع عبر الخيال الذي يضفيه المنتج (المبدع) السابح في مجتمعه والناسج بخيوطه الابداعية عوالمه السردية من اجل تحقيق سرد بحدث نام عبر الصراع الدرامي الذي يحتدم في مواقف الشخصية وسلوكها بصور مكثفة..موجزة..تاركة اثرها في نفس المستهلك(المتلقي) ومحركة لذاكرته لتحقيق الادهاش الممتع والاضافة الخلاقة لفكره منفعة..
ويعد (ادجار الن بو) و(غوغول) المرتكزان الاساسيان لانبثاقه ..مرورا بموباسان الذي قال عنه هوليروك جاكسان(ان القصة القصيرة هي موباسان وموباسان هو القصة القصيرة)وانتهاء بحركة التجريب وظهور القص الحداثي المتجاوز…
و(ما لا يتبقى للنسيان) المجموعة القصصية التي نسجت عوالمها انامل مبدعها القاص والروائي عبدالامير المجر واسهمت دار الشؤون الثقافية في نشرها وانتشارها/2015..كونها تخاطب الواقع الثقافي والحضاري لتحقيق موقف موجه بالكشف عن خلجات النفس الانسانية من خلال الاسقاط الذاتي للسارد الذي اسهم في تشكيل الواقع وتكوينه..ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية الكاشفة عن مضمون النص بفونيماته الدينامية الممتدة على الازمان والمؤكدة للذاكرة الحية المتوقدة عبر النفي..فضلا عن النصوص الموازية الكاشفة عن متن النص السردي والتي توزعت ما بين جان جاك روسو واهتمامه بالوجود الانساني المجتمعي…(ان ايماننا بالانسان وولائنا للانسانية هما اللذان يثيران في طبيعتنا الخيرة اعمق الدوافع لان نجعل من البليد المسخر انسانا بشريا نابها)..واعتراف الكاتب بكشفه عن المكان والبيئة التي انطلق منها السرد والذي يعد بؤرة ثقافية مضافة..(كل الاماكن التي سرقت اغلب سني عمري مجرد محطات عابرة..وتبقى قرية(الخر الصغير)المكان الوحيد الذي يتنقل بي بينها ويأبى المغادرة)..
( قبل ان يحل االغروب..تغيب امنا في جوف بيتنا القصبي الرابض عند الطرف الشرقي لنهر قريتنا..وحين تخرج يكون الغروب قد حل ودخان المبخرة التي اعدتها قد تعالى عند الباب تقريبا..حيث الفسحة التي نجلس فيها على البسط المتقابلة حول الموقد الذي تعد عليه طعام العشاء..ابونا يخيم على وجهه وجوم فيبدو منكسرا وما ان تخرج امنا حاملة المبخرة حتى يولي وجهه صوب المسطح المائي الذي تدفعه الاهوار التي تختنق بالماء عند الربيع فيحيط قريتنا لتغدو شبه جزيرة يخترقها النهر الذي يرفس ماؤه الجاري بقوة في خاصرة الهور..
اصبحت واخي الذي يصغرني بنحو عامين نكره نقيق الضفادع الذي يتقاطع عند حافات المسطح المائي لانه يثير في نفسينا شيئا من الخوف ويبعث احساسا بالوحشة يذكيها حال امنا وابينا اللذين صارا يمارسان ما يشبه الطقس الذي يجعل الحزن يخيم على بيتنا عند المساءات او حين يحل الغروب حيث يتعالى نقيق الضفادع الذي يتوقف بعد حلول الظلام الا ضفدعة واحدة ياتينا صوتها كالانين فتغرق امنا بنوبة من بكاء تحرص على ان يكون صامتا لكن نشيجها يفضحه فنغرق معها بالبكاء فيما يظل ابونا حانيا راسه ومصغيا لانين الضفدعة الذي يتناغم مع نشيج امنا بشكل غريب..) ص9 ـ ص10..
فالقاص يوظف تقنيات سردية متباينة(احداث/شخوص/زمكانية مشكلة لمنظور فكري/ايهام..)لخلق اثر للنص في مستهلكه مع اعتماد لغة تستمد جماليتها من المجاز والاستعارة اللفظية مع ايجاز وتركيز التعابير ودلالاتها الموحية..الخالقة لنص يتجاوب والواقع الاجتماعي وتحولاته الفكرية عبر شخوص تتحرك في مواقف سردية متفجرة.. .باعتماد التشخيص والتجسيد لتقديم صور مشهدية مقترنة بزمن ومتشكلة من سلسلة من المتناقضات الثنائية المتصارعة والمتداخلة مع اعتمادها الرمز الذي شكل قناع الشخصية ..فضلا عن اسهام الخيال كقوة خلاقة في اضاءة التجربة والانفعال.
(كلما تحركت وحدتنا باتجاه احد القواطع الملتهبة تركنا جنديا او اثنين يحرسون الاثقال المتبقية وحين ياتي ذكرهم في مكاننا الجديد نسميهم(المتروكين)..
حين امتدت سني الحرب طويلا افترشت قواطعها العديدة الكثير من اشيائنا الصغيرة المتروكة في ملاجئنا التي عادة ما نؤثثها بقطع من خشب او اشلاء صناديق لاعتدة بعد ان تمنح ودائعها لفوهات النار وورق الصحف والبطانيات المتهرئة..ولان السنين تقادمت وضاعت بين ايامها الكثير من ملامح وجوهنا التي خشبتها ليالي الشتاء وسموم القيظ لذا نسينا ملامحنا القديمة مثلما نسينا الكثير من متروكاتنا الصغيرة حبيسة اقفاص الذاكرة التي اكتظت بصور المعارك والحكايات المبتورة في لياليها الغائصة في ظلمات الترقب والخوف..لكنه انتهى..انتهى الخوف مع انتهاء الحرب وتقافزنا مثل اطفال جذلين بعد ان خرجنا من مخاضاتها ماخوذين بدهشة النجاة من حرائقها المرعبة..) ص81..
فالنص تتمثل فيه خصائص بنائية متمثلة في(وحدة الاثر ولحظة الازمة(التوتر) مع ابتعاد عن الاستطراد الوصفي وتعدد المسارات باعتماد لغة تقرأ الذات وانعكاساتها على الواقع والتي تحتفي بالتكثيف والتركيز والايجاز كرديف للصمت الدال.. مع استبطان تفاصيل الواقع جماليا والذي ارتسم على امتدادات النص المتشكل من (اللغة/الوصف الموجز/الحوار بشقيه الذاتي والموضوعي من اجل اضاءة اللحظة النفسية لشخوصه والكشف عن دواخلها ونوازعها..)والتي وظفها القاص من اجل توضيح ملامح الشخصية والاسهام في تطوير الحدث وابراز المكان بكل مكوناته وتشكيلاته لتحقيق عناص السرد(الحدث/الشخصية/البيئة..).. (لقد كانت الدموع وجبتنا اليومية حين نلتقي ويسكب احدنا بما في دلاء الروح من وجع وهو يستحضر الزوجة التي غادرت او الحبيبة التي هجرت او الابناء الذين اكلتهم الحروب وشظايا نيران الكوارث التي مرت حتى غدونا وحيدين اغرابا نجمع من ارصفة الطرقات كل يوم اطياف ايامنا الغابرة ونعبئها لبعضنا في المقهى الذي جمعنا فغدونا فيه كالايتام نتقاسم زاد فجائعنا والفائض نوزعه دموعنا بيننا..) ص99 ـ ص100 فالقاص يتأمل الواقع واحداثه عبر آلية الادراك الحسي والوصفي المكثف للاحداث والشخوص فكان نصه صورة للواقع الاجتماعي والتجربة المالوفة مع كشف معرفي لاغناء ذاكرة المستهلك عبر سرد يتميز بوحدته الموضوعية المازجة بين وحدة الشخصية والبناء الفني والحوار بمستويه الخارجي(الواقعي)والداخلي (الذاتي)..والكاشف عن عوالم الشخصية وانعكاساتها على الاحداث بابعاد ودلالات مع ايحاءات وتاثيرات يتركها الاسلوب الفني في معالجة اللحظة والحدث والمشهد التصويري..
وبذلك قدم القاص نصوصا سردية تميزت بابعادها الجمالية في ضوء تشكيل التجربة الانفعالية ومنعطفات نسيجها المؤطر بالتجاوز عبر الممارسة والموقف و الحلم والرؤيا..بتناول الجزئيات وتجسيمها مشهديا لتقديم عمل فني منسق يتجاوز عشوائية الواقع بمشاركة الذات لموضوعها تقديما مكتظا بالقيم والصور الفنية المجسمة للواقع بكل مكوناته وتشكيلاته عبر لغة موحية تعتمد الهمس المتدفق بغزارة العاطفة فيخلق عالما ديناميا تتسم فيه اللفظة بفاعلية وقدرة على التصوير والايماء كونه يكتب بوجدان يستوعب الحياة وما يتنفس حولها بصدق وموضوعية فيمنح متلقيه الدفء..



















