الأنثربولوجيا والواقعية تتداخلان عبر الأسئلة – نصوص – ياسر جاسم قاسم

شتاء اللقالق للروائي إحسان وفيق السامرائي  -1-

الأنثربولوجيا والواقعية تتداخلان عبر الأسئلة –  نصوص – ياسر جاسم قاسم

قرة تو، بعقوبة ،بغداد ، السليمانية ، اربع مدن يستلهمها الروائي احسان وفيق السامرائي في روايته الجديدة الصادرة عن (دار ضفاف) في الشارقة حيث يصهر السامرائي هذه المدن عبر حكايته المتلاحقة الاحداث وبعنصر تشويقي يتميز به الروائي عن اقرانه من روائيي هذه المدينة حيث يدور الحديث في هذه المدن عبر حوارية بين نعمان الطفل وجدته التي تقص عليه مشاهدات من التاريخ والحاضر وعبر المكان الذي تنقلا فيه ، واستطيع ان اميز ما جاء بالرواية بالنقاط النقدية التالية التي ركزت عليها في بحثي حول الرواية:

1-         طابع اسطوري حيث ، افاد  من موضوع الاسطورة فهو قد ركز على طبيعة الاسطورة نفسها مستخدما التوتر بين الدلالات الرمزية وتسيير الاحداث تفسيرا عقلانيا. ولعل هذا ينطوي على حقيقة ان على القراء ان يحذروا من أي تفسير مبسط للرواية.

2-         اغلب ما سيدور في الرواية من خلال منظور طفل اسمه نعمان يحاور جدته في المدن الاربعة الرئيسية في الرواية حيث لا زال احساسه بالواقع او قوانين العلة والمعلول والفرق بين عالمي الجماد والاحياء وعالم الخيال والاسطورة والواقع

3-         الاسئلة التنويرية التي وردت في الرواية وفيها نقد مجتمعي لاذع واوردها على لسان الطفل نعمان.

4-         عالم الجريمة في العراق من صلب الى ذبح الى اقصاء والغاء للاخرين ،

5-         حاول ان يقدم لقرائه التناقض الكامن بين الوضع الانساني ومحاولات الانسان في تحقيق رغباته في عالم من مفارقات لا تنتهي فمن تهجير قسري لطائفة اليهود من العراق الى اقصاء  لليساريين وتكفير لهم الى ….

6-         التجربة الانسانية العميقة والغنية حيث يصور السامرائي بكل صدق واخلاص احاسيس اليهود المشردين على انها احاسيس فئة من هذا المجتمع تعيش في خضم احداث عنيفة وتتحمل مشاق التهجير والهموم وان اولئك الناس تعذبوا قسرا وتالموا كما انه طالب القارئ ان يفتح عينيه جيدا ويدرك مع هؤلاء الناس عمق الماساة وبشاعة الظلم الذي حل بهم (أي اليهود العراقيين)

7-         كما سعى السامرائي الى اللاتناسب في المكان حيث تنقسم معاني الكلمات ودلالاتها الى انظمة لغوية متعارضة والى خطابات مختلفة فيها من المفارقات والتناقضات الدينية والاثنية العرقية 8-   الوعي بالسياسة عندما يكشف عن وعي الناس وتقسيماتهم الشيوعية والقومية والدينية .

9-         ايصال المعنى عبر حوارات متتالية بواسطة رسائل مباشرة بين الجدة والحفيد والبقية من الشخوص10-           اما بالنسبة للحبكة فساستعير من الناقد (انتوني بيرجيس) عندما عبر عن الروائيين العديد منهم بادروا بالتمرد على ما كانوا يطلقون عليه الاستنباط أي اختراع الصدف للوصول الى الخاتمة السعيدة وهذا ما وجدته عند السامرائي.

11-       الاهتمام بتفسير تتابع الحياة اليومية من خلال التخيل وتلك هي محاولة لفهم طبيعة العالم الخارجي والعقل الذي يخطط له غير ان البعض سيعترض بالتاكيد مدعيا ان هذه هي مهمة الشاعر نعم هي كذلك غير ان اسلوب الشاعر هو الضغط المتناهي في حين ان الروائي يجب ان يبقى متاثرا مهما كان ذلك التاثير طفيفا بالايقاع البطيء لخالقي الرواية التقليدية .

12-       كما ان رواية السامرائي تتوق الى التوسع في الفضاءات التي يزورها السامرائي ابتداء من قرة تو الى السليمانية .

13-       كما ان السامرائي يبتدئ بالعنصر الكردي (قرة تو) وينتهي به (السليمانية) ويحصر الجانب العربي بين المنطقتين الكرديتين .

14-       الرواية متماسكة واحد الاسباب في هذا التماسك يمكن العثور عليه في المجال العظيم لقدرة ونظرة اولئك الناس الذين وضعهم السامرائي في روايته.

15-       نلاحظ في رواية السامرائي التمرد العميق على الموروث وهذا تم من خلال الاسئلة الذكية التي مارسها نعمان مع جدته فهو بحق روائي معاصر يعمل على تزويد العقول بالكلمات والرموز التي نحتاجها لفهم العالم المعاصر

16-       يقول عزرا باوند” ان المعرفة لا يمكن اكتسابها دون معرفة السنة مختلفة ” من هذا المنطلق جعل السامرائي عددا من شخصياته يعرف اللغتين الكردية والعربية لتمارس معرفتها وهيمنتها على فصوول الحكاية وتتنقل بسهولة بين المدن المختلفة لغويا .

17-       هنالك صور مرئية في الرواية مثل وصف المدن وهذا جزء من اضفاء الصور على الخيال البصري .

18-       الرواية حية بفضل لغتها الاسرة وكل صفحة من صفحاتها تنطوي على الجدل والصراع الفعلي ومن زوايا متعددة من تاريخ العراق الحديث

19-       بعد هذا كله (عدد من المدن في رواية السامرائي وعدد من اللغات والاحداث) لم يعد لدينا واقع واحد ولغة واحدة بل وقائع ولغات.

20-       اعتمد السامرائي على تنوع المواقف وشخصيات المجتمع في عصر عاصره بقوة .بعد هذه الملاحظات التي اردت ان يتعرف عليها القارئ كملامح في رواية شتاء اللقالق الان سانتقل لتفاصيل الرواية وابين من خلال نقدها ما بينته في اعلاه مما ورد فيها من سمات نقدية .

فالقطار يسير ويستمر في سيره وحسب تعبيرات صورية يستلهمها احسان من ترتيلات الاطفال بتعبيرهم عن هذه السكة المستمرة ،سكة العمر الطويل فمن يدري قد تكون رؤية السامرائي متلخصة في التعبير عن قطار العمر وليس القطار بزمجرته وسكته ودليلنا ما ورد في الرواية: (استمر القطار يمشي والعربات تطقطق (والارض تركض في صمت ))، والعبارة المقوسة الاخيرة تجعلنا نبحر في معنى الصمت وفلسفة التامل المطالبين بها فالارض تركض بنا بصمت وصمتها عجيب فلا شيء يبقى طويلا بعد هذا الركض المستمر ، يستعمل الروائي الكلمات الموصلة للناس عبر عمق نفسي مقصود ينقل القارئ من واقع الرواية الى واقع المجتمع وبحذق مميز فاستخدامه للكلمات التالية /زرازير ، العصملي، الانكريز، المرة، زين شلون، من تصعد وياهم ، وعشرات من الكلمات العامية الدارجة عند العراقيين، مما ينقل القارئ الى هذه الواقعية المميزة عبر اللهجة بمعنى انه يربط الادب باللغة ، ولو تعمقنا قليلا لرايناه يربط الفكر باللغة باعتبار ان الادب فكر ، كذلك للاسطورة حضور في رواية السامرائي والتي سنسرد بعضا منها خلال قراءتنا النقدية هذه، فترد اسئلة على لسان الطفل ومنها: من هو ابو الجبال ؟ حنفيش : الذي يعيش في حضارات الجبل وعنده غزلان وارانب وطيور وجوز وعسل ، وهاهو السامرائي يرصد التحركات الانثروبولوجية في روايته عبر رصد ما يحبه الناس في تلك القرى والقصبات : عبر حوارية تقع بين نعمان وجدته عن واقع هذه المدن وشخصيات تمر بنعمان يسبح من خلالها القارئ برؤى تخيلية واخرى ميتافيزيقية واخرى ميثولوجية واخرى انثروبولوجية ، فكاكالي الانسان هو كردي يسافر دوما الى قصر شيرين ، وياتي لهم بالفستق الاخضر ومن السما، وتبدا الجدة واصفة مدينة قرة تو ، ويطالب السامرائي عبر وصفه المكان بالتجلي فيه ،فكأنما هو مطلب صوفي بامتياز يطلب من خلاله بالانتقال للمكان عبر تامله (الاشجار،والوديان، حتى الارض تغير لونها، وتمتلي الوديان بالماء في الشتاء ، الا ترى الوان الطيور واشكالها) اما الشخصيات التي يعرض لها السامرائي واصفا اياها وصفا نابعا من تشكيلاتها الانثروبولوجية فشكري اغا هو تركماني يلبس فينة حمراء ويمسك الباسطون، بيده ويركب حصانه ويتمشى مع نهر (خريسان) فهو من العصملي ، ويستمر بوصف الاشخاص وصفا واقعيا فابو الجزمة الطويلة الموصوف من قبل الجدة للحفيد يرطن بكلمات لا نفهمها ويصيد الخنازير وهو انكريزي، وهذه مفاهيم انثروبولوجية تعمد السامرائي بتخطيطها بانثيالات الرواية الواضحة ، ومن بين الاشارات الهامة للاديان استخدام مفردة الصليب ص18 للدلالة على توارد التنوع الديني  كمفهوم من مقومات البلاد التي عاش فيها الروائي ،لقد كان السامرائي واصفا ممتازا لعادات وتقاليد وواقع الناس في المدن التي تكلمت عنها الرواية :فبائعي الماء والعلك والسجائر والشاي ، والتيتي المفتش عن البطاقات كلها استلهامات واقعية لعناصر الثبات المجتمعي ، ولقد صهر السامرائي مدنه الاربعة بتدرجات لغوية ومعنوية قائمة على تذويب شخص المكان كي لا يكون نشازا ظاهرا (وقد فرح خاله عندما عرف بان نعمان سيعيش في قرة تو فهي ولاية حلوة فيها كل ما يريد وسيلعب مع اولاد الموظفين واذا ضاج فان قرة تو ليست بعيدة عن بعقوبة) وهنا الضربة والحل لاشكاليات تناقضات المكان ف(قرة تو) ليست بعيدة عن بعقوبة بالمسافة فقط بل حتى انها ليست بعيدة معرفيا عن المنطقة والتجليات الزمانية والمكانية ، فالوله بالزمن عنده ليس بمعنى الخضوع له بل محاولة قهره والتغلب عليه واذا كان سريان الزمن لا يمثل او يعني شيئا بذاته فاننا نجد انفسنا في الحياة اليومية مجبرين على الرحيل معه والمكان لدى السامرائي في وصفه مدخلا للزمان فهو بوصفه يجعلك تعيش تلك الايام التي عيشت في هذه المدن ووصفه تدريجيا تامليا فهو لم يصف قرة تو مباشرة فعلى مشارفها وقبل الوصول اليها واذا بتراكض اولاد صغار يلبسون سراويل مكونة مرقعة وعلى رؤوسهم (عرقجينات) فهذه اموال الناس على مشارف القرية فكيف بالقرية نفسها ، قد تكون افضل حالا او اسوأ من يدري فهذا عنصر تشويقي يعبر عنه السامرائي لمتلقيه ولنلاحظ العمق النفسي الذي ياتي مرة اخرى بصيغة حوار (فالطفل يشعر  بضيق ورغبة بالبكاء من كلام خاله الموبخ له كونه اعطى الاطفال المتراكضين خلف القطار بسكويتا)، فهذا عمق نفسي ووصف معنوي واضح، اما تناقضات الوصف المكاني فيرسمها السامرائي رسما واضحا ،فقرة تو عند الوصول اليها تبدو ليست كما وصفتها جدته ولا خاله عن المكان ،(فلا جبال عالية ترى من عتبة البيت ولا مهرة بيضاء وحتى النهر حجبته الصخور والاشواك ولم يسمع الطفل غير هدير ) ويبدأ كذلك لدى الطفل المقارنات الواضحة بين مفردات القرية والمدينة ،ففي قرة تو لااولاد  ولاباعة ولا حتى سيارات او عربات اذا ماذا موجود؟ الجواب: حمير محملة بالحطب والفحم والدجاجات الســــارحة بالدروب ولكن النتيجة ماهي؟ لا لا ستتعود يا ابني وتحب المكان.

اذا المكان الذي سيتعود عليه وعليه ان يحبه هو ليس من شخص وكنه المتلقي الانسان، ولكن عندما يجبر عليه سيتعود عليه مغصوبا لا مريدا، ويعود السامرائي للوصف الانثروبولوجي فكانما الرواية لوصف انثروبولوجي فكري، عبر تدفق من اللغة والمخيال الادبي الرصين، فارتفع صوت المؤذن عبر الشط قادما من القرية الكوردية وهنا تزاوج (اثني -ديني) (اسلام، كورد) كما ويرجعلك السامرائي الى مباني الطفولة ومعاني الامومة وتعلق الطفل بامه عبر كلمة لم يستثن احد من قولها (اريد امي) والرد(ستصل هذا الاسبوع )ومعها ما يفرح أي طفل (ملاعيب وحامض حلو) فهو هنا يدغدغ المشاعر ويرجع كل واحد فينا الى كلمة (اريد امي) ومفرداتها ومعانيها العجيبة ، اما الظلام فله طعم اخر في قرة تو لانها قرية خالية من الكهررباء وتعيش على (الالات) و(اللوكس) كما ان الرواية تجسد انصهار المدن الاربعة وحضاراتها وليس المقصود بالحضارة في البنيان والعمارة بقدر ما هو مقصود من الاساليب الحضارية االتي تبنى عليها فلسفة المكان فالكلمات الكوردية تملأ الرواية فيقول ص 31 : ” اروله … به ساقه ي بم” وياتي استخدامه للاساطير ولاسيما الشعبية منها فنراه يركز على كلمة (السعلوة) التي اوهمنا بها ونحن صغار فنرى السامرائي يركز عليها بذي بعد رمزي ، ونراه يتحدث عن التفاعل الثقافي الحضاري بين شخوص روايته عبر اسئلة تنثال ضمنا فام هميلة تقول: ان حمه لا يعرف حرفا من العربية والسؤال ياتي من الجدة :اشلون؟ ولكن الجواب ياتي مسرعا مصورا تفاعل ثقافي هام فالصغار يعرفون التفاهم بينهم اكثر منا (الكبار) فحمة ممكن ان يتعلم من نعمان وهنا يوصل السامرائي الى القارئ حكمة بالغة مفادها ان الصغار يستطيعون التفاهم اما الكبار فلا، والتفاهم ينجر ليس فقط على اللغة كما اظهرها السامرائي بل ينسحب التفاهم الى كل المفاصل الاخرى .

وياتي التضارب بين الاستخدام الديني وبين المفهوم الانساني ويعكس السامرائي من خلال الحوار بين ام هميلة وام سالم، وهن لسن بمثقفات ولا باديبات ولكن بفطرتهن الانسانية المعهودة اكتشفن زيف المتدينين فهنالك احتقار للفقراء والمحتاجين والسؤال: الاسلام والرحمة اين سيكونان؟ والجواب: من ام سالم (بس يعرفون هؤلاء الاسلاميون يصلون ويحجون ويقشمرون.. ليش هو هذا الاسلام؟ )ولا جواب، فالجواب عند المتلقي ان الاسلام ليس شعارات وعبادات بل هو معاملات انسانية تطالب بها ام هميلة وام سالم والمهم نراه يستخدم يصلون، يحجون ، وبدلا من يخدعون يستخدم (يقشمرون) وهي كلمة عامية اراد منها السامرائي ان يقرب الفكرة المستخدمة من قبل عوام الناس، كي تكون اقرب كثيرا الى النفس وواقعية اكثر ، ونرى الحوار الثقافي داخل قرة تو كيف يتفاقم فماذا قلت لها يا نعمان ، واذا به يجيب بالكردية وتتم ترجمة كلامه للعربية ويبدأ السرد قاصا هذا التفاعل الانساني العجيب في هذه الشعرية النائية، وفي بعض الفقرات يزاوج السامرائي بين الاسطورة الرمز والميثولوجيا والانثروبولوجيا والكلمات العامة منتجا خليطا استطيع تسميته ب(الخليك المتشابك) فالحوار بين نعمان وجدته يتصاعد حتى ينتج هذا الخليط وعلى الرغم من ان الرواية تهتم بنزع الغطاء الميثولوجي الاسطوري عن الخرافة فان سطوة الاسطورة تتردد في اغلب صفحات الرواية فاسطورة مرة تتداول في قرة تو ومرة اخرى في السليمانية ومرة في بغداد وهكــــــذا فالطوب ابو خزامة وابو القبـــاقب وغيرها من الاساطير التي سيجدها القـــــارئ في ثنايا الرواية .

” كان ابي شابا قويا لا يعرف الخوف قلبه يدور في البادية وحده يشتري ويبيع التتن والسلاح للقرى والعشائر وفي ذاك الزمان لم تكن هنالك سيارات ولاقطارات فكل الناس كانوا يستخدمون الخيول والدواب وقد ورث ابي مهرة عربية اصيلة كان يركبها ويذهب بها الى حيث يريد والجزيرة مثلما يقول العرب تحبل وتجيب، تتغير بين يوم وليلة بسبب الرمال والزوابع والجزيرة كما تعرف ليس فيها غير الشوك والعاكول فلا شوارع ولاكهرباء او ماء، ودروب الجزيرة لا يقطعها الا (العارفة) فكان البدو يسمون الماشي في دربها (درب الصد ما رد) لانه مثل التايه قد يرجع او لايرجع بسبب العطش والجوع والسعالو والحنافيش والذيابة”.