الأنتليجينسيا الكردية بين التشظي والدور المطلوب – هفال زاخويي
تعد الـنخب الثقافية في أغلب البلدان من القوى المعرفية المؤثرة في تصحيح الأخطاء السياسية، والمساهمة في حل الخلافات بين القوى السياسية المتنافسة، وكذلك لها الدور الكبير في رسم خرائط الطريق لتحقيق مجتمعات صحية، متعايشة، متكاتفة، متضامنة، بخاصة في البلدان التي تتميز بتعدد المكونات (عرقية، دينية، مذهبية، سياسية)، اذ أن المتعارف عليه هو أن الـ”أنتليجينسيا” اي النخب الثقافية الحقيقية (رغم اختلاف الايديولوجيات لديها) يُفترض أن تكون متفقة فيما بينها حيال (رؤية وطنية موحدة) تكون متعالية على الانتماءات والهويات الفرعية، وتسعى لتحقيق (هوية وطنية متعالية على الهويات الأخرى)، درءاً للتمزق والتشظي اللذين يهددان المجتمعات جراء (صراع الهويات الفرعية).
في كردستان العراق، وطوال مسيرة جيل كامل (33 سنة) أي من مايو/أيار 1991 ولحد الآن غابت (النخبة الثقافية الكردية) عن المشهد إلى حدٍ بعيد، المشهد الذي عُرفَ بأنه عبارة عن صراع مستديم (تنتابه فترات تذبذب) بين القوى السياسية الكردية الحاكمة وغير الحاكمة، هذا الصراع الذي أثر ويؤثر سلباً على حاضر ومستقبل اقليم كردستان المحاط و(المحاصر) بقوى اقليمية معروفة بمنهاضتها لأي مشروع سياسي كردي يأخذ (شكله الطبيعي)، وهذه المواقف الاقليمية هي مواقف تاريخية معروفة ولسنا هنا بصدد النبش في الماضي ومآسايه بقدر ما نريد ايجاد رؤية حاضرة ومستقبلية لمصير اقليم كردستان الذي تحيط به المخاطر دوماً ومن كل جانب اضافة الى مخاطر الداخل.
انقسام المثقفين
إنَّ دور غياب النخب الثقافية والمعرفية الكردية- باستثناء محاولات فردية- ناتج من عدة أسباب أهمها وأكثرها تجلياً هو انقسام المثقفين الكرد على الأحزاب السياسية مما أفقدهم الدور الحقيقي في التعبير عما يجول في أذهانهم من رؤى حول (مستقبل اقليم كردستان)، إذ حلت الرؤية الحزبية وكذلك المناطقية على الرؤية الوطنية الشاملة، وأيضاً لعدة أسباب – قد تكون معروفة وجلية- وتبعاً لذلك انبرى (مثقفو الأحزاب) لبعضهم البعض برؤية حزبية وليست برؤية شخصية وفردية، ولم ترتق هذه الحالة إلى مستوى الحوار الايجابي، بل بقي في مستوى التراشق الاعلامي بتخوين واتهام بعضهم البعض من خلال طروحات عقيمة لم تخدم (القضية الكردية) بقدر ما أساءت إليها وجعلتها قضية مثار ذهول المثقفين غير الكرد الذين كانوا يتصورون بأن هناك نخبة ثقافية كردية موحدة في الرؤى والتوجهات – رغم خلافات الأحزاب التي ينتمون إليها- فكانت هنا (الثغرة) التي نجح المثقف الآخر (غير الكردي) أن ينفذ من خلالها ليكون حضوره هو الأقوى والأكثر جدارةً، (المثقف الآخر) الذي كان ينبغي أن نتحاور معه أيضا بروح ايجابية، كي يقدر أن ينماز هو أيضاً بنفس الروح، رغم أني هنا لا أضع اللوم في هذا الصدد على (النخبة الثقافية الكردية وحدها)، بل أضعه على (النخبة الأخرى المختلفة وبخاصة العربية ).
قد ينبري البعض ليرد ويقول: ليس هناك غياب لـ(النخبة الثقافية الكردية)، بل هناك (تغييب قسري) من قبل القوى السياسية، وأنا سلفاً أجيب: بأنه لا يمكن أن نطرح عنصر(التغييب) من المعادلة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: أين دور (المغيبين) في المهجر…؟ ألم يبقوا منقسمين على الايديولوجيات الحزبية التي ينتمون اليها ويؤمنون بها وغدوا في حالى تراشق لفظي انشائي يتهمون بعضهم البعض بالتخوين والعمالة..؟ وهنا لا يمكن لي انكار تلك الأصوات والآراء – القليلة المحترمة- التي تعرض طروحاتها الوطنية انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه شعبهم وبلدهم وقضيته العادلة بعيداً عن التعصب والتقوقع الحزبي.
نخبة كردية
إن هذا التشظي والانقسام بين مكونات (النخبة الثقافية الكردية) حالة مألوفة في أغلب بلدان الشرق الأوسط، ويمكن عده حالة واضحة ضمن ظاهرة الصراع بين (الثقافي والسياسي)، وهنا لا بد أن نعترف بأنه قد تم تحجيم دور المثقف سياسياً وهذا شيء طبيعي ومألوف، لكن المثقف نفسه ساهم بهذا التحجيم من خلال عرض خدماته بسهولة ليقدم نتاجه في النهاية كصدى للجهة التي ينتمي إليها وليست رؤيته هو، ولربما بل قد يكون من السهل عندما تلتقي بأحد منهم على إنفراد أن يعبر عن وجهة نظره كما هي، لكنه عندما يقدم النتاج يناقض نفسه بشكل مذهل وكأنه ممثل بارع يقوم بأداء دور مميز…والأسباب تكاد تكون معروفة أعمها وأغلبها هي (النفعية)…! هذا الأمر لم يبق في حدود حالة معينة بل تحولت إلى ظاهرة سلبية، وبذلك يمكننا القول أن نتيجة صراع (الثقافي مع السياسي) هي هزيمة المثقف، عكس الحالة المألوفة عالمياً وتأريخياً.
هناك الآن خلاف شديد بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وبين الاتحاد الوطني الكردستاني واللذين هما شركاء في ادارة اقليم كردستان، وهذا الخلاف قديم جديد، ويجدد نفسه بين فترة وأخرى، وهذه حالة طبيعية ومألوفة في عالم السياسة وتقاسم السلطة، أما أن تصل الحالة الى مرحلة التمزق المناطقي وتقاسم النفوذ فهذه حالة ينبغي الوقوف عليها ومعرفة مديات خطورتها وارتداداتها الكارثية مستقبلاً على مصير الإقليم وأهاليه ومكانته بعدما حقق شوطاً كبيراً من التقدم مقارنة بباقي مناطق العراق، هنا يكمن دور (النخبة الثقافية الليبرالية) والتي تكاد تكون غائبة، يكمن دورها في التحرك بايجابية ومسؤولية من خلال طروحات (وطنية) كفيلة بالتأثير على القيادات السياسية بشكل ايجابي للحيلولة دون الانزلاق الى صراع عنيف يهدد مستقبل الاقليم برمته ويفقده مكانته وحلفاءه ؟ أين هذه النخبة…؟ التراشق الاعلامي الحالي بين الحزبين في اقليم كردستان، ومقاطعة الاتحاد الوطني الكردستاني لأداء دوره في الحكومة لن تجلب أية منفعة للإقليم، وهنا أقصد بالمنفعة (المصلحة العامة لأهالي الإقليم)، هذا التراشق والتصادم الاعلامي، يقابله صمت وغياب للنخبة الثقافية الليبرالية المؤمنة بقضية شعبها، ولا أستبعد أن حالة (الذهول) تنتاب حتى القيادات السياسية بسبب غياب صوت هذه النخبة، ولا أستبعد بأن القيادات السياسية ستكون مستعدة على أقل تقدير لسماع هذا الصوت إن وُجِدَ، في وقت أنه يفترض بهذه القيادات أن تكون مستعدة أيضاً للتجاوب مع المبادرات والآراء التي ينبغي تكون واقعية وخَيِّرة.
(النخبة الثقافية الكردية) تستطيع أن تفرض نفسها بطروحاتها الوطنية، والقيادات السياسية قد تسمع وهي بالأحرى بحاجة ماسة الى طروحات هذه النخبة أكثر من طروحات مثقفيها كون أن هذه القيادات تدرك سلفاً توجهات المثقفين المنقسمين عليهما، وبذلك يكون هناك حوار ثقافي – سياسي لتجاوز الأزمة الحالية المندلعة بين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، صحيح جداً أن الخلافات حادة ومعروفة العلل، لكن لا يمكن أن تكون هناك أزمة دون حلول، حتى إن لم تكن الحلول جذرية، فهناك حلول وسطى، مرة أخرى أين هذه النخية… أين طروحاتها…؟ من يمنعها من الطرح الواقعي الهادي الوطني البعيد عن لغة التهكم والشتائم، من يمنعها من النقد البنَّاء…؟
يجدر بالنخبة الثقافية الكردية أن تسجل حضورها، أن تضع قضيتها نصب أعينها، أن تسعى لأن يكون صوتها مسموعاً محترماً جديراً بالتجاوب معه، وبعيداً عن -الرؤية السوداوية – لكن يفترض أن تدرك هذه النخبة أن مصير الإقليم على المحك في ظل هذه الأزمة العاصفة، وبعد ذلك عليها أن تدرك أيضاً بأن الندم غير مجدٍ، وأن النقد غير صالح، وأنَّ ما يكتبوه بعد انتهاء الأزمة –سلباً أم ايجاباً- لن يعدو كونه كلام إنشائي لا جدوى منه.
{ كاتب وأكاديمي