الأداء باللغة السهلة يجنب الشاعرة التعقيد البنائي – نصوص – جمال خضير الجنابي

دراسة في الأدب الكردي النسوي المعاصر   3-3

الأداء باللغة السهلة يجنب الشاعرة التعقيد البنائي – نصوص –  جمال خضير الجنابي

الأداء بالكلام المحكي :

إن لغة الناس اليومية تعد إحدى الظواهرالتي يتسم بها الشعر الكردي الحديث، فالشاعر إنما يعبر لنا بتلك اللغة في قصائده ليصل بنا الى قمة ما أراد نقله لنا من مشاعر وأحاسيس، فهو يجد في تلك اللغة عفوية الشعورالعاطفي، كما يجد فيها متنفساً يبوح من خلاله بتجاربه، ليصل بتلك اللغة الى مواطن شعورالقارئ،  فيحرك وترالاحساس لديه بأدواته اللغوية المأخوذة من أفواه الناس على مختلف مستوياتهم الفكرية والثقافية،

 واستعمال اللغة اليومية لا يعني حد الابتذال، فالشاعرالمبدع يستطع أن يجعل من أدائه هذا إيحاءً فنياً، وذلك من خلال قدرته على وضع هذه الألفاظ في شبكة من العلاقات اللغوية، يخرجها من دلالتها المحدودة الى صورة ذات معنى أوسع وأشمل،  فهو (يمتلك امكانية اغناء الحياة وانمائها، والتأثير فيها، لما يمتلكه من احساس بقيمة الكلمات وترابطها، وامكانية اخضاعها للايقاعات المختلفة)(14 )

ومثلما وجدنا اهتمام الشاعرالمعاصر بالموروث الأدبي، نجده لا يقل اهتماماً باللغة المحكية اليومية، وقد لانجد ديواناً شعرياً حديثاً تخلو لغته من الألفاظ العامية هذه، لما تحمله تلك الألفاظ من دلالات نفسية واقعية صادقة، يحتاجها الشاعرأحياناً ليقول من خلالها ما يريد، فالشعراء لابد لهم (من العودة الى الألفاظ القبلية،  وذلك لأن فيها عودة الى اللفظة التي كانت في مرحلة أولى قائمة في النفس والانفعال، ومرتبطة بوشائج حتمية ومبرمة في الوجدان، الى العهد الذي كانت فيه اللفظة انفعالية عاطفية، أو انها مع الحقيقة في وحدة تامة)(15 ).

فهي عندما تدخل في ضمن البناء الشعري، وتنصهر داخل تجربته النفسية المعنية، تصبح بنغمتها الشعبية طاقة تعبيرية مهمة، وجزءاً مهماً من تشكيل الصورة الفنية في القصيدة، هذا مع احتفاظها بقوانين اللغة الفصيحة، وعلى هذا فإن هذه اللغة(في إيحائها وإيقاعها اللذين لا يغيران ما ألفته الأذواق الشعرية عبر القرون فحسب، بل يعطيان القصيدة حيوية وحرية وانطلاقة ما كانت لها قبل ذلك، وهذا الاستخدام المألوف واليومي من اللغة لا يعبرعن الخروج على التقاليد فحسب، بل يشكل علاقة بارزة على العلاقات الوثيقة بالحياة والالتصاق الدائم بالواقع)(16 )

ومثلما تحكمت اللحظة الشعرية في إمكانية تداخل النص الموروث مع النص الشعري الاصل والحاضر، وإن الشرط ذاته يحكم تداخل اللغة اليومية مع النص الشعري، وإلا فإن العملية تصبح مجرد لغة لغوية فارغة من كل قيمة، وهذه بعض من الأمثلة الشعرية التي وظفت فيها الشاعرة هذه الألفاظ المتداولة في لغة الناس اليومية.

(يمضي العمر ومازلت أرتشف قهوتي المرّة

يا ترى الى متى تعود قصة هذه القهوة؟!

القهوة والشكولاته)

فالشاعرة في هذا النص يعبرلنا عن حالة شعورية مفعمة بالحزن والأسى، فالقصيدة مناجاة لحكمة الحياة وما فيها، فهي توظف الألفاظ والأفعال بحسب الحالة التي مرت بها، فتأتي توظيف الفعل ليشكل تلاحماً مع الحالة الشعورية، فأصبح الفعل بصورته الشخصية أكثر ايحاءً من خلال جعله للمعاني أفعالاً مادية، فجعل للأهواء أقداماً تدوس بها العقل واهواءه، فاستطاع الفعل تكثيف الشعورالعاطفي الذي طغى على النص.

(اعذروني

خانتني ذاكرتي

عيناي أصبحتا زجاجتين)

ففي قصيدة بعنوان(سواد جدائلي من رماد مدينتي) تستخدم الشاعرة بعض الأفعال المنحدرة من أصل فصيح، لكنها لكثرة استخدامها في الحياة اليومية تحولت الى لفظ عامي، نقرأ ذلك في قولها :

(لا أكادُ أسْكُنُ قـُصورا عالية في الهواءِ

المَلَكُ والمُلكُ

يَظُفرْونَ لي جَدائِلي السَّوداء التي)

الأداء باللغة السهلة

والنمط الثالث من أنماط الأداء اللغوي في مجموعةجنارنامق الشعرية، هو الأداء باللغة السهلة، التي على الرغم من ميلها الى الوضوح، وابتعادها عن التعقيد البنائي القائم على الغموض والانغلاق,فإنها في الوقت ذاته تحافظ على الطابع الشعري،  وتحتفظ بالقوانين الفنية التي تميزالقصيدة الفنية، فالشاعرة في هذا النمط من الأداء تكتب على وفق ما تمليها عليها حالتهاالمستشعرة كما هي مطبوعة بالوجدان، وكأنها لسان حالها، فتأتي لغتها غيرمتكلفة(بعيدة عن الصناعة اللفظية التي تعمد الى التزويق في الألفاظ وإلى الاستعارات والمجازات)(17).

والشاعرة في هذا الأداء اللغوي ينطلق(على وفق ما تمليها اللحظة الشعرية، فتركن الى لغة بعيدة التناول، لعلها الاحساس المتوقد، فتدفع الألفاظ لتمثيل الحالة من دون ان تكون بلين لمعاودة النظرفي التكوين الشعري)(18 ) .

على أن هذا البناء اللغوي، وعلى الرغم من تلك السهولة التي تطبع أسلوبها وبناءها، إلا أنها قد توقع الشاعرة في مزلق النثرية، عندما تسوقها هذه السهولة لتشكيل بناء لغوي ضعيف خال من روح الشعروسماته التعبيرية، فتحوله الى مجرد كلام.ولكن الشاعرة جنارنامق كان الاداء اللغوي حاضرا في مجموعتها الشعرية حيث اتكات على الاداء اللغوي في احيان كثيرة في مهمتها التعبيرية وقد نجحت ايضا في اصال افكارها ومشاعرها حيث تقول في قصيدتها (ناديته، ترجيته):

(دعني احبك من أجل الحب ولم يدعني

تفكيري النموذجي

تحفظي الجسدي

وعقلي الساذج)

الشاعرة هنا تخاطب حبيبها بلغة ذات طابع بنائي سهل خال من التعقيد اللغوي، فجاءت عباراتها وألفاظها عفوية تعبرعن لسان حالها، خرجت من قلبها كما هي، ان هذه السهولة نجدها تلاءمت مع هذا البناء الايقاعي للنص فجاءت لغة الخطاب على سهولتها تصورلسان حال الذات مع الآخر.

البناء السهل ينجح في تحقيق صور شعرية نابضة على الرغم من خلوه من غموض الاستعارات والمجازات .

(ناديته شقيقاً صديقاً

دعني احبك من أجل الحب دعني

ترك روحي عارية في برد الشتاء

اغمرني في حبه ولم يدعني)

النص يكشف لنا عن عاطفة تختلف عنها في النص، لان مخاطبة الشاعرة هنا للحبيب، التي تحاكيه بألفاظ وعبارات قدمتها في سياق خال من التعقيد اللغوي ليتلاءم مع ادراك حبيبها . لتكون هذه السهولة أداة الشاعرة في التعبيرعن مشاعرها بلغتها السهلة، أداة فعالة في انتاج دلالة النص المفعم بالعواطف، كما إن تكراركلمة (دعني) كشف من سهولة اللغة والاداء بها، فتحول هذا الاسم الى طاقة بث شعوري عفوي املتها عليها مشاعرها الدفينة، فاستطاعت التكرارأن يحوي هذا الفيض من الشعور، ليحولها لنا الى صورة نابضة داخل القصيدة .(ناديته شقيقاً صديقاً

دعني احبك من أجل الحب دعني

ترك روحي عارية في برد الشتاء)

الهوامش

1 . البنيوية وعلم الاشارة،  ترنس هوكز،  ترجمة مجيد الماشطة مراجعة ناصر حلاوي،  بغداد،  دار الشؤون الثقافية العامة،  1986,ص 59

2 .الاسس الجمالية في النقد العربي، عرض وتفسير ومقارنة د.عزالدين اسماعيل، مصر، دارالفكرالعربي،  ط/3،  1974,ص 329

3 .مفهوم الشعر، جابرعصفور، دراسة في التراث النقدي، دارالتنوير للطباعة، بيروت، ط/2،  1982,ص 250

4.اللغة الشعرية في الخطاب النقدي العربي تلازم التراث والمعاصرة،  محمد رضا مبارك، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1, 1992,ص82

5 .سياسة الشعر، ادونيس علي احمد سعيد،  ط/3، بيروت،  1983,ص 80

6 .المجالات الدلالية في القرآن الكريم،  رسالة ماجستير/ كلية الاداب- جامعة بغداد،  رزين كامل.

7 . انظر: اللغة الشعرية في الخطاب النقدي العربي تلازم التراث والمعاصرة،  محمد رضا مبارك،  دار الشؤون الثقافية العامة،  بغداد،  ط/1،  1992.ص 84

8 .انظر: فنون الادب،  هـ. ب تشارلتن،  تعريب زكي نجيب محمود،  القاهرة،  لجنة التأليف والترجمة والنشر،  1945.ص 17

9 .اللغة العليا،  النظرية الشعرية،  جان كوهن،  المجلس الاعلى للثقافة،  المشروع القومي للترجمة،  1995.ص 133

10 . الادب وفنونه،  عز الدين اسماعيل،  القاهرة،  1963.ص 32

11 . انظر: زمن الشعر،  ادونيس،  ط/3 بيروت 1983, ص 194

12 . حركية الابداع دراسة في الادب العربي الحديث، د. خالدة سعيد،  بيروت دارالعودة، ط/2،  1982,ص 29

13 .لغة الشعر في ديوان الاخطل الصغير،  رسالة الماجستير/ كلية التربية- الجامعة المستنصرية.

14 .التجربة الخلاقة البروفسور، س.م بورا، ترجمة سلافة حجاوي، دارالحرية للطباعة، بغداد،  1977,ص 110

15 .الرومانسية في الشعر العربي والغربي، ايليا حاوي،  دارالثقافة،  ط/2،  1983,ص240

16 .الشعر بين الرؤية والتشكيل،  د.عبد العزيز المقالع،  دارالعودة،  بيروت ط/1،  1981,ص 36

17 .لغة الشعر، اللغة السهلة، د.جميل سعيد، م/المجمع العلمي العراقي، المجلد الثاني والعشرين،  1972،  65/66.

18 . انظر:رماد الشعر،  دراسة في البنية الموضوعية والفنية للشعر الوجداني الحديث في العراق،  د.عبد الكريم راضي جعفر،  بغداد دار الشؤون الثقافية العامة 1998, ص 203 .