قراءة لرواية الخروج من الجحيم لناطق خلوصي
إنتصار الذات الأنثوية
حمد علي حسين
تعد رواية ” الخروج من الجحيم ” للروائي ناطق خلوصي ، الرواية الثانية الصادرة عام ( 2001)) بعد رواية ” منزل السرور 1989 ) ، رواية الموت والأنبعاث ، رواية الحياة التي تتحدى الموت ،إنها بانوراما صراع إرادات : إرادة شعب متسلح بعشق الحياة وبأيمانه بحقه في العيش كريما في وطنه ومتنعم بخيراته وإرادة عدووحشي متوسل بكل وسائل الدمار الأشد فتكا ، إرادة عدوغاشم يريد النيل من عزيمته وتدمير وطنه ومنجزاته لطوال عقود ، أنها احدى روايات أدب الحرب بموضوعها وشخوصها وشواخصها المكانية والزمانية وبأجوائها ونتائجها على الإنسان والطبيعة .
حكايتها حكاية دار أيتام اثناء العدوان على العراق في مطلع عام 1991 ( علما أن الروائي لا يحدد التأريخ ) كان القرار بأخلاء الدار من الأطفال اليتامى تفاديا قصفه من قبل طائرات العدووتناط عملية الأخلاء بمديرة الدار (خديجة منصور ) وبمساعدتها ” رجاء ” وعاملة وسائق حافلة الدار ” سالم ” لأن ليس هناك من مكان معين تقصده المديرة ، توجب عليها اختيار مكان آمن لهولاء الصبية .
تقرر اللجوء إلى مكان معين تحسبه بعيدا عن الخطر ( لا يذكره الروائي) ولكن تقوم طائرات العدوبقصف الجسر الذي يوصلهم الى المكان فتصاب ” رجاء ” اصابة بليغة وبعدها تفارق الحياة ، كما يستشهد احد الأطفال ويجرح آخران ويتولى المسوؤلون في المنطقة رعاية الأطفال . تعود ( خديجة منصور ) إلى مدينتها لتجد دار الأيتام قد دمرته تماما طائرات العدووعندما تذهب لبيتها تجد عائلتها ، زوجها وابنه وأبنتها،قد لجأت إلى مدينة أخ زوجها فتسافر لهموهي مثقلة بالأحزان على الأطفال وعلى “رجاء ” ويطال قصف العدولهذه المدينة أيضا . ثم يلتحق بهم ولدها البكر ” منير” العسكري الذي يقاتل في منطقة حفر الباطن ليعلن لهم برغبته بإنجاز عرسه من خطيبته في ذلك اليوم وبعد أن وافق أهلها ويتم العرس وسط فرحة الأهل وزغاريدهم وهومفعم بالتفاؤل ويغادر منير في اليوم التالي يلتحق بالحبهة .
يوظف الروائي قي منجزه الأبداعي المزاوجة بين أسلوب السرد بضمير المتكلم ، المنولوج ، للكشف عن النوازع إلى الخير ونبل المشاعر عند الشخصيات لا سيما الشخصية المحورية ، خديجة منصور” ، وبين أسلوب ضمير الغيبية في محاولة للتقرب من الشخصيات الأخرى والتعرف على مواقفها الأنسانية والأخلاقية والوطنية ، إزاء محنة البلد . وبذلك ظهرت الشخصيات كلها ذات حضور إيجابي وبعيدة عن أية إشكالية فردية ، وليس هناك من بينها مـَنْ يعاني من جدب عاطفي ، كما أنها كانت جميعها على مستوى واحد في الأداء وهي متماسكة نفسيا كما هي متماسكة اخلاقيا ف” خديجة ” يتغلب واجبها الأخلاقي والوطني نحوالأيتام الذين يسكنون الدار التي هي مسؤولينها ، على نزعتها العاطفية اتجاه عائلتها ، وهذه ثنائية الواحب الرسمي والأمومة في ظروف حرب وحشية . أن لغة الرواية ،كما هي عادة عند خلوصي ، بمفرداتها المألوفة وطراوتها مما يجعلها لغة مشهدية قادرة بإنسيابية على رسم صور حية وثرية ، أنها تقترب من لغة التواصل المعبرة التي هي نتاج الفطرة الأبداعية التي التي تتوافر في اعمال الكثير من الروائيين والقاصصين المتميزين والبعيدة عن التكلف والحذلقة والأستعراضية. من الجدير بالملاحظة أيضا ، إبتعاد الروائي عن نزعة الوعظ وأسلوب الخطابة والميل كلية إلى أسلوب الأيحاء من خلال الرمز في محاولة لتسجيل وقائع العدوان وتوثيقه ويصف الروائي التأثيرات على المدن وناسها بأستعادة صور الحياة قبل القصف ثم توقفها بعد القصف .ان اللغة اداة احساس وليست اداة أفكار مجردة وهكذا هي ثرية بالإيحات والدلالات والمعاني وبأسلوبها الخطابي الموجه إلى حواس القارئ وعواطفه بما يحفز أفكاره . من الجدير بالملاحظة ، أن الروائي لا يجعل البناثية التشكلية في الرواية هدفا ذا أولية بل يجعله تحصيل حاصل من خلال السرد .
لا تتمثل النزعة الروماتيكية لدى الروائي بالبطل الأشكالي ، أي الأرتكاز أساسا على فردانية البطل ومشكلاته الخاصة التي كثيرا ما تتمثل في عدم انسجامه مع المجتمع الذي يعيش فيه وانكفائه على الذات نتيجة مرض نفسي واجتماعي، بل أنه يحاول ، من خلال رسمه شخصياته ، التوكيد على أرتباط البطل الفرد بالمجتمع والسموبه ليتماهى مع الآخرين أنسانيا وبذلك يتوحد الخاص ،همومه الذاتية ، بالعام ،هموم الآخرين .
من الواضح لنا تماما قصدية الروائي من أختياره لشخصياته لتكون رموزا مختارة أختيارا واعيا وصورا بمدلالاتها الفكرية والرمزية . من المسلم به ، لا يمكن أن يكون الرمز ذاتيا بل جماعيا وأنسانيا في الوقت نفسه مما يجعله دلالة لكل انسان وبهذا يمكن توصيف “خديجة منصور ” ، مديرة دار الأيتام ، بالمعادل للوطن والأرض.لا يلجأ الروائي إلى الفردانية في تعامله مع شخصيلته فما من شكوى فردية ولا عواطف شخصية تشكل إشكالية ، حالة مرضية ،كما في روايات كثيرة ويبدوللقارئ أن الهم الفردي قد أصبح هما جماعيا.
من المفاهيم الخاصة بكتابة الرواية غير التأريخية ، أن الروائي ليس بمؤرخ تأريخ كما هوأيضا ليس براوية أحداث ، غير انه يقترب من تلك الأحداث من خلال تناول الرموز والمشاعر والعواطف والمواقف ، وأحسب هذا ما ذهب إليه أبن خلدون بمقولته المشهورة) أن التأريخ في ظاهره لا يزيد عن الأخبار وفي بطنه نظر وتحقبق ( أن الروائي بما يمتلك من بصيرة وأدراك حسي وعاطفة يصبح قادرا على رؤية الأحداث من زاوية الفنان المرهف الحس اكثر من المؤرخ ، ومن هذا المفهوم نجد الكثير من الروائيين قد نجحوا أن يوثقوا للحرب بأعمال خالدة : تولستوي في( الحرب والسلام (وأرنست هيمنغوي في (وداعا للسلاح ) على سبيل المثال. لقد نجح خلوصي كثيرا في توثيق مواقف شخصياته في زمن الحرب . أنها شخصيات لناس بسطاء وعاديين بأحلامهم وآمالهم وربما بؤس حياتهم ، غير أنهم متميزون بعواطفهم الأنسانية والوطنية، أنهم شخصيات لا تهزمهم أيام الخسارات والأنكسارت . لقد وظف خلوصي بكل جدارة هذه المواقف في الكشف عن عالم هؤلاء البسطاء الذين يتصورهم البعض يعيشون على هامش الحياة دون أن يكون لهم وجهة نظر بما يجري في الوطن . أنهم كبيرون بعطائهم ، بعبارة أدق أن خلوصي أنتقى شخصايته من شرائح أجتماعية واسعة بسيطة لذا لا نجد من بينها شخصية بطل ملحمي عملاق يصارع قوى العدوان بقوي سحرية كما لا نجد البطل ذالك الشخص المأزوم المنزي في ذاته أوالهائم في عالم خاص به ، بل انه الفرد الذي يحمل خصائص الجماعة وله رؤية تعبر عن طبيعة الحياة الجماعية . أعتمد الروائي ، كما يوحي العنوان ، موضوع الخروج من الحرب التي شنت على العراق عام 1991، ومواصلة الناس الحياة رغم المحن والخراب الذي لحق بالوطن ، وعودة الحياة إلى طبيعتها. لقد جسدت هذه الرواية أسطورة الاله تموز وعودته إلى الحياة ، تلك الأسطورة السومرية الشديدة الترميز ، بدلالاتها التي عبرت عن إيمان العراقيين قديما في الأنبعاث والحياة بعد الموت . أن الأنبعاث بعد الموت موروث عراقي تمتد جذوره إلى الأنسان القديم وقد تمثل بعودة عشتار إلى الحياة فتخصب الأرض وتجود الثمار وتزهر الأزهار. أن عرس “منير” الأبن البكر لخديجة منصور ، في نهاية الرواية ، كناية عن المعادل للوطن والأرض و المعادل الرمزي لتحدي الموت الذي تجلبه الحرب ، كما أنه يعبر تماما عن إيمان الروائي بالحياة وأستمراها وأن الأحتفال بالعرس هوأحتفاء بالحياة التي عاد نسغها يسري في نفوس الناس أملا وفي قلوبهم فرحا .أن أسطورة الاله تموز وعشتار تعبر عن ابعاد متجذرة في النفس العراقية خاصة والبشرية عامة .أن الأنسان لم يفقد يوما الأمل الأخضر بالحياة ، فلقد عرفت الشعوب الوثنية أسطورة الموت والأنبعاث كما عرفتها شعوب الأديان السماوية فيما بعد فكانت هناك شعائر أستسقاء المطر للتغلب على الجدب تأكيدا على دورة الحياة ، من الولادة إلى الموت ثم الأنبعاث من جديد , هكذا تكون رواية ” الخروج من الجحيم ” رمزا من رموز الموت والأنبعاث وأنتصار الحياة على الموت الذي وزعه العدوعلى مدن العراق وقراه وشوارعه وطرقاته . أن فكرة الأنبعاث وأستمرا رالحياة تشكل نقطة أرتكاز في البناء الحكائي للرواية ، أنها عمودها الفقري الذي يشد أجزاءها إلى بعضها بحرفية مقتدرة وجاعلا منها منجزا إبداعيا متماسكا . ان الوطن عند الروائي ليس يعدا جغرافيا وكيانا ماديا من تراب وشجر بل هومنظومة قيمية إنسانية وحضارية وثقافية وتراكم من عطاء الأنسان عبر عصور طويلة ، بالإضافة إلى عطاء الطبيعة التي ترتوي من أثداء دجلة وفرات وزابيه . أن إيمان الروائي بالحياة ينأى به بعيدا جدا عن نزعة التشاؤم والسودادوية التي قد تكون نتيجة لما أصاب البلد من دمار وخراب كبيرين وخطيرين ولم تنطفئ في روحه ، كأنسان واع ، جذوة الحياة والأمل الأخضر في الزمن الآت.
للحزن مرافئ وللمرافئ ضفاف تبدأ بعدها ضفاف الفرح ، الفرح الذي يولد من رحم الأحزان وله طعم متميز ، طعم الأنتصار, فعلى الرغم من ضجيج الحرب ودوي القصف الوحشي الذي طال كل مكان ، كانت تعلوبأستمرار أصوات حب الوطن والولاء له في محنته رافضة الأستسلام ، وكان هناك طقس العرس المعبر عن إرادة الحياة والتمسك ببسالة الصبر والتحمل والتجمل كما أرتفعت أصوات الفرح من خلال الغناء وبهذا يجعل الروائي الغناء ضربا من تحدي الحياة للموت ووسيلة لطرد الخوف والقلق من النفوس ، مستذكرا دور الغناء في حياة الرعاة الذي يطردون به وحشة الفراغ الذي يحيط بهم وكذلك الغناء عند صيادي السمك الذين يبددون أحساسهم بالخوف وهم يواجهون النهر بأعماقه السحيقة (ص( 60 ) ويعكس الأصرار على الغناء في الحافلة التي تقل الأطفال وفي خضم تلك الأهوال ، إيمان الروائي بأنتصار نزعة الفرح المتغلغلة في أعماق الناس ووجدانهم وبحتمية أندحار قوى العدوان ، رمز الشر، وبالخروج من الجحيم الذي تمثل بأتون الحرب ونيرانها.
الخاتمة
في هذه الرواية ينتصر الروائي للذات الأنثوية فيقدمها لنا في صورة جديدة تستحق منا الأحترام والأعجاب . من المسلم به ، إلى حد ما ، أن المرأة في المجتمع العربي الذكوري الأبوي تتلقى ولا تبادر كونها مخلوقاً يهجع عنده العقل والفعل المبدع وتتركز همومها الأنثوية حول ذاتها بالأرتهان الإجتماعي الذي غالبا ما يحدد موقعها بالظل وهذا ما يغرس فيها أحساساً بالدونية الذي يجعلها تعيش في ضعف متوارث وعجز وهمي وهكذا تبدو على انها ضحية تراث التعجيز ،ونجدها في كثير من الأعمال الأدبية ، إمرأة فاقدة لذاتها وأهليتها ، ونراها تتكلم عن نفسها ومشاكلها وحاجاتها بلهجة محايدة فتبدووكأنها تقص حكايتها على أنها حكاية أمرأة أخرى وليس حكايتها هي .
في هذه الرواية لا تشكل الأنثى ذاتاً مستلبة بل ذات فاعلة معطاءة وكبيرة الهمة متمتعة بكل صفات الإنسان القوي، فيتصاعد دورها بتواتر من الحالة العادية للمرأة إلى مرتقى الأبداعي في إدائها الوظيفي والوطني والإنساني بعد أن يكبر فيها وعيها الإجتماعي والسياسي ، الوعي الذي تتبناه الحبكة الحكائية للرواية وهكذا لا تشكل الموضوعة التقليدية ، صراع المرأة ضد الرجل، جوهر قضيتها .
إننا نجد هذه الرواية بشخوصها وأحداثها وأجوائها ودلالاتها ورموزها تقترب ،إلى حد كبير ، من توصيف الناقد الدكتور حسين سرمك حسن فنعدها واحدة من منجزات ” أدب الشدائد الفاجعة ” (الأدب الذي يتناول المحنة الجهنمية التي مزقت المجتمع العراقي ، إنساناً ومكاناً ومفاهيم) بعد الإحتلال الأمريكي البغيض للعراق عام 2003 . (المصدر ناطق خلوصي وأدب الشدائد الفاجعة .ص 10 ) في كلمة أخيرة أن الرواية انتصار للحياة التي تتحدى الموت بكل توصيفاته والصمود امام وسائل التدمير ووحشيتها ، انتصار لجذوة الحياة التي لا تنطفئ ولا تختفي يوما والتي عبرت الشعوب عنها بوسائل عديدة وتبقى ثنائية الحياة والأنبعاث قضية الأنسان الكبرى والرغبة الملحة في تغلب الحياة على الموت التي تمثلت بإنتظارالشخص المخلص في معتــــقدات شعوب عديدة منذ زمن بعيد .



















