جماليات الحداثة المعاصرة عند محمد مهر الدين
إستبدال المعالجات التشكيلية بقوالب تقنية جديدة
ماضي حسن
كندا
حينما يطل نظرنا على اعمال الفنان محمد مهر الدين، نجد انها تحمل خلاصة لتجارب غزيرة خاضها الفنان امتدت الى نصف قرن من حياة هذا الفنان الدؤوب، انه منهمكا يقلب الخامات المتنوعة والمنسجمة التالف في وحداتها وتراكيبها، والمتفردة احيانا اخرى.. التي تجري على وفق انماط متناظرة الاضداد، ومتطورة النتائج لكن الفنان نجده في خضم ذلك الزخم الكثيف من التنوع، يعيد صياغة تلك التراكيب بعقلية العالم بعناصر تلك الخامات، وبمهارة الواعي لصنعته بصبر ينازع اثبات وجودية الكينونات الشكلية وصيرورتها، والنزاع هنا هو اثارة الهواجس الوجدانية داخل الذات بما تحملها من ارهاصات محتدمة لكي تستجيب الى تلك التداعيات، من مسعى يهدف الى تفكيك تلك التراكيب والتكوينات، وتحليلها الى اخر من الساكن الى المتحرك، والناطق، ثم يسمو بنا الى خلق تداعيات جديدة تتشكل على وفق ما يتحقق من انسجة مبرمجة محسوبة ودقيقة، يخطط لها بحسابات تنتقل على يد الفنان في مجال التنفيذ، امرا شاقا.. فموازنة المفردات والحنكة في تقنية المساحات والالوان ذات الخبرة العالية، تكون معادلة تتوازن بها قدرة التنفيذ والمهارة التي تحاكي تقنيات التكنلوجية الحديثة. ان المرجعيات التي يستند اليها الفنان – مهر الدين – في اعماله، تتحرك بازاحات واعية، حيث تتداخل اجزاء تحت اخرى، وتتغير الفراغات، فنجد مرة يشكل فضاء يشغل مساحة في اطار محيط العمل، ومرة اخرى تنطلق الفراغات من المحيط، وتنفذ في مكانات داخل الاشكال لكي تتنفس في مجالات اخرى، فالفراغ عنده متحرك تبعا للاستجابات الحسية والمنطقية للشكل.، والتكوينات الشكلية عنده ذات مدلولات محسوبة وليست عشوائية عائمة.. كما يحصل في انماط اخرى من فنون التجريد.. اذ تتوازن فيها المفردات بجمالية جذابة هادئة في استخدام الالوان الباردة والداكنة التي تعطي نكهة تبتعد عن البهرجة العاجلة، المثيرة، المباشرة، لذلك فان الفنان – محمد مهر الدين – : يحمل ذهنية متشعبة في اللون : مشاهدة وممارسة، وان الالوان الحارة يستخدمها في موقع يحرك فيها اجواء السكون بطريقة ذكية، ومقتضبة، وان وجود تلك المساحات الصغيرة والبقع اللونية من تلك الالوان توحي وكأنها خلقت وجوبا.. لهذا المكان، وان الغاءه يجدث انكسارا في عملية التوازن.
كما ان المدلولات الرمزية لدى الفنان، تعطي ابعادا اخرى، فضلا عن ابعادها التشكيلية الخاصة فالرموز عنده تحمل في طياتها فكرة، وواقعا، تراثيا، حيث تدخل فيه اسقاطاته الذاتية، والوجدانية.. واحيانا اخرى يتحول من تلك الايقاعات الرمزية، الى الكتابة الحروفية المباشرة، ولكن مشفرة تحت سحابة ضبابية تخدم التقنيات العالية الجمالية للعمل.
ان فكرة الاختزال لدى محمد مهر الدين : لم تصل الى حد تجريد الواقع بمظاهره المرئية.. فهي وسيلة للتعبير عن العالم الداخلي، بجانب الاحتفاظ بما هو اساس في العالم الخارجي، وان التجانس البصري لديه ينطلق من هذا المنطلق.. كي يبعث فينا شعورا بحالة من الوجود، تتعدى ما تتضمنه التفاصيل الواقعية والتشخيصية.. ان الاشياء التي يستخدمها، هي اشتراك رمزي ناتج عن انعكاساته الذاتية على نحو تتفاعل مع مرجعياته، ولكن الاسقاطات الذاتية هي منفتحة الحلقات.. تتعدى الاسهاب النرجسي، ومن الملاحظ ان الفنان يدخل في اعماله الاستعارات التشخيصية في مساحات محدودة تخدم – الفكرة – لأعمال فنية معروفة كلوحة (الجورنيكا) مثلا وغيرها.. كجزء متجانس مع ما يهدف اليه الفنان من فكرة.. ينم انجازها على نحو متكامل، وان استخدامه لتنوعات كبيرة من التجارب التكنلوجية من المواد (كالكولاج) واستخدام مادة (الوتر بروف) وغيرها من المواد المتنوعة.. من شان تلك الخامات ان يوظفها لإبراز ما يخطط له الفنان من نظام وتأسيس لبنيوية الهدف.. لذلك اجد ان الفنان – مهر الدين -يحمل خصائص البحث عن ادق التفاصيل في تكنيكاته بطرق معاصرة.. اذ ان المساحات التجريدية لديه لا تحمل رؤية مبسطة، بل انها مركبة ومتداخلة على تلك السطوح.. والفراغ لديه محسوب ومكمل لتلك المساحات المليئة بدقائق الغبار، او المجهرية، وخلاصة القول ان اعمال الفنان محمد مهر الدين : تحمل في ثناياها خطابا شعوريا معاصرا، يتنبأ الى مجريات عوالم المستقبل بمنطق التفسير والتحليل بعلم (الباراسايكلوجي) ولكن دون الاغراق في صوفية العمل، او الحدس فوق الادراك الحسي.. ان ركائز عمله تستند الى اسس، ووقائع والتزام في ما قطعه من شوط كبير من تجربته الفنية.. من حبكة عالية في النتائج اللونية، وصياغتها نتيجة اتقانه للأداء الاكاديمي في دراسته الاولى، وان اعماله لا ترتكز رواسيها على مساحات زمنية محددة، بل هي عائمة في الخطاب.. حرة ومنطقية مع كل عصر..
استجابات العمل التشكيلي لأصداء العمل
من يتتبع اعمال الفنان منذ معرضه عام 1978 بعنوان (غريب هذا العالم) ولوحة (انيجلا) السجين السياسي 1976 يجد ان الفنان برغم اسلوبه التجريدي فهو : واقعي الربط مع الاحداث.. اكثر من الواقعيين ذاتهم.
الفنان محمد مهر الدين : لا يجعل الموضوع دليلا يقود المشاهد الى اللوحة.. وانما يجعل اللوحة برموزها، والغازها، وعناوينها المتناثرة تقود المشاهد الى الموضوعات بشكل تتكامل فيها عمليات ادراكية لاحقة.. تتطلب من المتلقي اسقاط فعل تجريبي، تكميلي، لمخاض تجربة الفنان.
استبدال المعالجات التقنية للشكل الفني
لم تكن مفردات الفن ومظاهره الشكلية عند الفنان – محمد مهر الدين – محض قدرة ادائية، في حدود اقناع الرؤية، والادراك البصري للآخرين، وانما هي انبثاق من داخل بنية النص التشكيلي، للقفز فوق بنائه الشكلي، وهو في الوقت ذاته حوار بين المرسل والمستلم بعد مخاض – مماحكة فكرية – داخل معادلات الصراع بين المبدع، ووسائله التنفيذية…فالفنان – مهر الدين – منذ معارضه الاولى التي اكسبت اعماله تسجيلا صوريا لمكنونات الاحداث التي عاصرها في الستينيات، وما اعقبها، هي ابعد من تحسينات جمالية الشكل المطوق بشروطها التقليدية كما هو عند الواقعيين، والانطباعيين، ففي تقنياته الاولى، ومنها الاستعارات المنوعة، لم تعد بمعزل عن ضرورات مرتبطة بتبدلات لأحداث، ومستجداتها، الا ان بنية الشكل الخارجي لم يكن اسيرا لشروط تلك التبدلات، اذ ان المعنى عنده ينبثق من داخل النص وليس العكس، أي بمعنى : ان موضوع العمل لا يقود الى الاسترسال في غياهب عزلة التأمل لنظام واشارات ورموز اللوحة، وانما تأثيرات البناء الجديد لعناصره التشكيلية.. وهي التي تقود المتأمل الى مستوى التحليل والموازنة جراء التوتر الذاتي و الذي يحدث جراء المعالجة.. أي استعداد داخلي ممتزج مع دلالات النصوص – مشفرة – او مباشرة.. فالفنان كان يرسم بذاتية لا تشوبها مخادعات الجمال الشكلي، كضرورات تطغى على نتائج بنيته الجديدة للتكوين ففي معرضه الاخير هذا كان حريصا في الحفاظ على تحقيق اهداف الرؤية، لتصدعات الزمن العراقي في هذا العصر، ان افرازات الذات عنده، منعكسة من قوى خفية تظهرها بواطن الامتداد في تدوين النصوص التي سجلها انسان الكهوف، ان – مهر الدين – يريد ان يعبر كتعويض عن ميثولوجيا غائبة، والخطاب عنده مرتبط بمدارك متحركة غير ساكنة في حدود تسجيل المرموزات (ستاتيكية الايقاع) انها حوار يطفو على سطوح مكشوفة، ترتفع نحو فضاءات تدون الكلام الباطني عند الانسان الذي يسوطه وجع الالم المباشر انه الشريحة الواسعة التي تعنيها ضرورات انية، والفن بدون هذا.. لم يعد سوى حبيس جدرانه المحدودة. اذا اللوحة عند – مهر الدين – هي وثيقة عصر يطفو على سطحها تزاخم من الغايات تتراكب، وتتداخل، لكي تثبت اصداءها دفعة واحدة، ولكن في خضم هذا التزاحم من احتباس الانفس الخانقة، عبر محدودية ابعاد السطح.. نجد ان الفنان : يخضع تكرار لوحاته لمفهوم مواصلة الخطاب فهي لم تعد تكرار التعديل التقني.. بل هي امتداد مشروع لهاجس التراكم الصوري، والفكري.. ولكن من جانب اخر، ما يتميز به الفنان : هي قدرته في تطويع تفاعلات سطح اللوحة في نطاق استيعاب ايصال ذلك الزخم الفكري ابتداءا من اوليات تأسيس تقنيات اللوحة الى المراحل النهائية للعمل.. حركات تبقنية للعجائن (مادة الوتر بروف) ثم الكتابات المتقطعة التي يغور بعض اطرافها تحت سحابات ضبابية، بفعل عبث مقصود او غير مقصود، او (اسهم وخطوط مندفعة بقوة متموجة، ومتكسرة)، رموز ودلالات متوازنة في الحصيلة برغم حرية الحركة فيها.. هذه التراكمات المتنوعة تحتل مساحة متقدمة في العمل، احيانا بعضها، مربعات، او اضلاع لمستطيلات توحي بعمق فضائي لوني للعمل، يكاد العمل يظهر بمظهر ذو ابعاد بصرية عيانية، او من ابعاده التأسيسية.