أزمة الدراما العراقية‮.. ‬الإشكالية والحلول‮ ‬- نصوص – منهل الهاشمي‮ ‬

دراسة نقدية  لواقع يتطلب المزيد من الآراء

أزمة الدراما العراقية.. الإشكالية والحلول – نصوص – منهل الهاشمي

  إنَّ المسؤولية اليوم باتت مضاعفة على صناع الدراما العراقية والقائمين عليها فبعد سقوط النظام عام 2003  دخل الى بيوتنا احد اخطر الاجهزة الحديثة (الستلايت) بما يحويه من مئات القنوات الفضائية العربية والأجنبية وهي في زيادة يومية الى ما شاء الله فقبل دخوله كان المتلقي العراقي (يضطر) أحيانا لمشاهدة المسلسل العراقي لان لا خيار اخر امامه فالتلفزيون الارضي المحلي كان يحوي قناتين فقط هما (تلفزيون العراق) و (تلفزيون الشباب) ثم تبعتهما بعد ذلك (قناة العراق الفضائية) والتي كان بثها المحلي ضعيفا جدا لكونها فضائية تحتاج الى منظومة صحن و(ستلايت) لاستقبالها لذا فهي كانت موجهة سياسيا واعلاميا نحو الخارج لا الداخل.

اما بعد ظهور (عصر التكنولوجيا الفضائية) فقد اصبحت مئات الخيارات (القنوات) سانحة له وتشمل جميع القنوات العربية والاجنبية العامة والتخصصية كالاخبارية والغنائية والدينية والكوميدية والرياضية وقنوات المسلسلات والافلام …. الخ. بل وتفرعت من القنوات التخصصية قنوات اكثر تخصصا , فاصبحت هناك قنوات خاصة لافلام الاكشن واخرى للرعب وثالثة للكلاسيكية …. الخ. وهكذا مع بقية انواع القنوات التخصصية الاخرى لذا باتت الدراما العراقية اليوم تواجه اعتى واشرس المنافسات من الدراما العربية بكل جنسياتها والاجنبية وفي خضم هذا التدفق السمعبصري المهول واللامتناهي فأني استطيع القول ان اكبر تحدي يواجه الدراما المحلية اليوم هو كيف تستطيع ان تبقي المشاهد العراقي يتابع بشوق ولهفة احداث المسلسل المحلي ولمدة ساعة كاملة ـ اذا ما احتسبنا اوقات الفواصل الاعلانية ـ من دون ان يكبس زر ( الريموت كونترول) ليغيّر القناة !!.. في ظل عالم اصبح اليوم عبارة عن (قرية كونية صغيرة) كما يصفه علماء ومنظّرو الاعلام ووسائل الاتصال الجماهيري .

   وفي الواقع ومن خلال متابعاتي المتفحصة للدراما العراقية لمعرفة مواطن الخلل والقصور فيها والتي تعوقها عن منافسة نظيرتيها المصرية والسورية ـ قبل  الاحداث ـ فاني ازعم بأني اعزو السبب الرئيسي في هذا الضعف او القصور الى جانبين اثنين رئيسيين وهما (ضعف التأليف والتمثيل). فبالنسبة (للتأليف) نلحظ بأنَّ اكثر المسلسلات العراقية تعاني الترهل والثرثرة الفارغة في الحوار واللف والدوران فيه بين الشخصيات لاجل الحوار ذاته , بغرض مطّ الحلقات لجعلها ثلاثين بما يتناسب وعرضها في رمضان !!. في حين يقتضي الحوار التلفزيوني التكثيف والايجاز والاختزال , مبتعدين عن التعبير بـ(الصورة) التي هي العنصر الاساسي في الدراما التلفزيونية والسينمائية , ويأتي من بعد ذلك الصوت بكل عناصره ووظائفه من (حوار ـ موسيقى تصويرية ـ مؤثرات صوتية ـ تعليق… وغيرها) مكملاً ومعمقاً لها وللمعنى , اي دوره يكون ثانويا معززاً لا رئيسيا كما هو حاصل في معظم مسلسلاتنا , بحيث انك اذا ما استمعت لهذا المسلسل إذاعيا اي في (الراديو) لفهمت احداثه تماما من دون الاضطرار لمشاهدة الصورة !!. ناهيك عن الضعف الواضح في بناء النص ومتانته عموما , من بناء درامي , رسم شخصيات , تماسك الحبكة وسبكها , وبناء (الصراع) الذي هو عماد الدراما وعمودها الفقري في اي وسيط تعبيري تتمثل فيه (سينما ـ مسرح ـ تلفزيون ـ اذاعة) , والذي بدونه تنتفي وجود الدراما. اما بخصوص (التمثيل) فسنلمس بوضوح ـ وللاسف ـ بأن البعض غير القليل من ممثلينا يغلب على ادائهم التمثيلي الطابع المسرحي , فيظهر جليا الافتعال والتكلف والمبالغة والتصنع في ادائهم , وعند التعبير عن الانفعالات وعواطف واحاسيس الشخصية المؤداة , فيقعون في شِرك ما يعرف وفق المصطلحات الفنية والنقدية للتمثيل بالـ( (over ذلك أنّ تقنيات الاداء المسرحي تتطلب المبالغة في التعبير الجسدي والصوتي للممثل كي يكون اداؤه واضحا ومفهوما وجليا حتى آخر صف للمتفرجين في القاعة , في حين أنَّ الممثل في التلفزيون والسينما يؤدي امام كاميرا ومايكروفون وهما آلتان تقومان بتكبير وتضخيم اي انفعال او تعبير جسدي او صوتي لعشرات المرات كما يعمل جهاز (الميكروسكوب) , ولهذا يفترض ان يكون الاداء التمثيلي التلفزيوني والسينمائي مقننا ومقتصدا ومحسوبا ليأتي تمثيلهم طبيعيا عفويا وتلقائيا بسيطا لتلافي الوقوع في ذلك الشِرك ( ( over  وليكون بالتالي صادقا ومقنعا ومؤثرا لدى المشاهد ليصل به الى ما يسمى بحالة (التماهي) او التوحد مع الشخصية , ونعزو اسباب ذلك الى أنَّ اغلب هؤلاء الفنانين كانت بداياتهم مسرحية بحتة او انهم درسوا فن التمثيل في قسم المسرح في معاهد وكليات الفنون الجميلة , وليس في قسم الفنون السينمائية والتلفزيونية ـ والمُغيّب فيها هذا الدرس التخصصي المهم وللاسف ـ كما يفترض أنْ يكون. الامر الذي يوسِم اداءهم بالطابع المسرحي كما اسلفنا. وبصراحة اقول بإنَّ جوانب الخلل والقصور في هذين الجانبين لم اكن الوحيد الذي لاحظهما , بل يشاطرني فيه الكثير من الناس الذين اعرفهم , فعندما (استبّين) اراءهم بشكل شخصي ومن باب الفضول العلمي والمعرفي حول مدى متابعة الناس لها وما هو موقعها من نظيراتها العربية اجد غالبيتهم وللاسف يعزفون عن متابعتها ويعزون سبب ذلك على حد قولهم لضعف التأليف والتمثيل وعندما استفسر منهم عما يقصدون بعبارة (ضعف التمثيل ؟!!). فيجيبني غالبيتهم بعفوية واقتضاب وهم يفتقدون التخصص الاكاديمي ـ بما نصّه وبامانة ومسؤولية – (مبينين ديمثلون) !!. ومبدئيا اعلم ان هذا (الاستبيان) الشخصي والشفهي المحدود من العينة العشوائية قد لايمثل بالضرورة رأي غالبية الجمهور العراقي بل هم غالبية الذين اعرفهم. ولهذا فهو لا يُعدُّ استبيانا واقعيا وحقيقيا موثوقا به ويمكن ان يعتد به وفق المقاييس العلمية والاكاديمية المعروفة لكنني على أي حال اعتمدته ـ على المستوى الشخصي – كمؤشر اولي استدللت به من خلال اراء الكثير منهم المجمعة على قاسم مشترك لبعض مكامن الخلل والقصور في الدراما العراقية .

   ومن هذا المنطلق فاني ادعو او آمل ان تقوم مؤسسة اعلامية عراقية معروفة يعتد بها وبحياديتها وموضوعيتها وعلى شرط ان لاتكون جهة منتجة للاعمال الدرامية لكي لاتكون هناك بعض المجاملات والمحاباة من قبل العينات المستطلعة ارائهم لصالح الاعمال التي تنتجها تلك المؤسسة كما يحدث في كثير من الاستبيانات التي تقوم بها بعض القنوات الفضائية العراقية بين فترة واخرى ولكي نضمن بذلك نزاهة وحيادية وموضوعية ذلك الاستبيان ومن الممكن ان يتضمن الاستبيان اسئلة تتضمن معرفة مدى متابعة المسلسل العراقي وهل يفضله المشاهد على نظيره العربي ام العكس وما هي مكامن الضعف والقصور ومواطن التميز القوة فيه…الخ من تلك الاسئلة التي تصب في صلب الموضوع وان يشمل الاستبيان مختلف الشرائح والعينات في المجتمع من ناحية العمر والمهنة والتحصيل الدراسي وغيرها من مقومات الاستبيان العلمي الاكاديمي السليم وعلى ضوء النتائج التي سنخرج بها سيكون لدينا معطيات وحقائق تهدينا السبيل الى معرفة مكامن الخلل والقصور والسلبيات لتتم مناقشتها بموضوعية وبالتالي وضع خارطة الطريق يتم من خلالها معالجة تلك السلبيات وبذلك نستطيع ان نرتقي بالدراما العراقية قدما لتكون بمستوى طموح كلاًّ من المشاهدين وصنّاعها على حد سواء .

  بيد اني ومن خلال متابعتي المتواصلة للمناقشات التي تدور مع الفنانين من ممثلين ومخرجين وكتّاب وصنّاع الدراما العراقية , وفي مختلف وسائل الاعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة , اجدهم جميعا يجمعون وبلا استثناء على ان سبب تراجع الدراما العراقية عن نظيرتها العربية يوعزونه الى سبب وحيد هو (فقر الانتاج) وقلة الاجور للفنانين والفنيين والكتاب وسواهم دون اي سبب آخر. وقد يكون فقر الانتاج والاجور البخسة التي يتقاضونها والتي لا تليق حتما بمستواهم الفني , احد الاسباب المهمة , او فلنقل المهمة جدا لتردي الدراما المحلية ولكنه ليس بالتاكيد السبب (الوحيد). فالدراما التلفزيونية (المسلسل) ما دام يسوّق لبقية القنوات الفضائية المحلية منها والعربية , فاذن فهو في النهاية يعتبر (سلعة تجارية) وإن كان منجزا ابداعيا طالما يسوّق (يُباع ويُشترى) . وبالتالي فهي بذلك حتما ستخضع للقانون التجاري المعروف (العرض والطلب) والذي يقوم وفق القاعدة التجارية المعهودة : (كلما زاد الطلب على سلعة ما , كلما ارتفع ثمنها … والعكس صحيح) . فالمنتِج في الدراما العراقية سواء أَكانَ فردا ام قناة ام مؤسسة يعرف سلفا بانه سيسوّق هذا المسلسل المحلي في سوق القنوات الفضائية المحلية حصرا , وستمتنع القنوات الفضائية العربية من خليجية ومصرية ولبنانية عن شرائه , والتي تدفع اجورا مجزية وبالاخص (الخليجية) للمسلسلات والاعمال الفنية الاخرى كالاغاني المصوّرة (فيديو كليب) التي تشاهد وتتابع على مستوى الوطن العربي باجمعه . لذا سيعمد هذا المنتج لأنْ يكون المسلسل محدود انتاجيا , لأنَّ فرص تسويقه للقنوات الفضائية محدودة هي الاخرى .

    والسؤال الوجيه الذي يطرح نفسه الآن : ترى لو اعطينا ـ على سبيل المثال ـ الف دولار بدل مئة دولار عن الحلقة الواحدة كاجور لممثل عراقي ما , قضى طيلة عمره الفني وهو متطبع بالاداء المسرحي والمبالغة والافتعال والتصنع والتكلف , فهل يا ترى سيتخلى عن ادائه هذا بين عشية وضحاها اذا ما ضاعفنا اجوره عشر    مرات ؟!!!.

   وكذا الحال مع مؤلف ما هو ضعيف او محدود الموهبة في التأليف الدرامي وصنعة كتابة السيناريو من (بناء درامي سليم , ورسم شخصيات , وحبكة متينة , وحوار لمّاح ذكي وموحي مقتصد ومكثف , وانواع الصراع وتدرجاته…… الخ) , فهل يا ترى سينقلب ايضا هو الاخر فجأة وعلى حين غرّة الى (اسامة انور عكاشة) او (وحيد حامد) ؟!!!….. وقُل الامر نفسه عن المخرج .

   ومن هذا المنطلق وبسبب القصور والضعف والخلل في هذين الجانبين بالذات (التاليف والتمثيل) الذي ادى بالدراما العراقية للتراجع عن نظيرتها العربية فأنَّ المنتج سيعرف انه بسبب هذا القصور هو الذي يحدو بالقنوات الفضائية العربية للعزوف عن شراء المسلسل العراقي . فتكون ـ كما اسلفنا ـ فرصة تسويقه محدودة ومقتصرة فقط على القنوات الفضائية العراقية (السوق المحلي) . خصوصا بعد ان اضحى سبباً او عذراً صعوبة اللهجة العراقية كما كان شائعا هو ما يمنع او يعيق تسويق المسلسلات المحلية عذرا غير صحيح ومقبول , بدليل النجاح المدوي للفنان الكبير كاظم الساهر والمطربين العراقيين الاخرين عربيا رغم غنائهم باللهجة العراقية .

   وعندما يعزو فنانونا العراقيون اسباب تراجع الدراما المحلية وتعليقها على شماعة فقر الانتاج , نجدهم يتحدثون بمرارة عن الفارق الكبير في الاجور بينهم وبين نجوم مثل عادل امام او نور الشريف او يحيى الفخراني او محمود عبد العزيز وغيرهم , ولكنهم نسوا بان هؤلاء يعدّون نجوم الصف الاول (سوبر ستار) على مستوى الوطن العربي وليسوا نجوما محليين , وبالتالي فان بطولتهم في اي مسلسل سيضمن تسويقه في اهم القنوات الفضائية العربية والتي تشتري هذه المسلسلات باغلى وابهظ الاثمان ومنها مثلا مجموعة قنوات (mbc) السعودية , او قنوات (ابو ظبي) و(دبي) , او شبكة قنوات (الحياة) , او (ميلودي) وغيرها من من اهم القنوات وفي طليعتها التي تحوز اعلى نسبة مشاهدة في الوطن العربي. وما تترتب عليها من ارباح كبيرة وطائلة نتيجة تهافت وتسابق جميع شركات الاعلان والمعلنين لعرض اعلاناتهم التجارية فيها قبل غيرها بسبب تلك النسبة من المشاهدة.

   ولكني إذ اقول قولي هذا فأرجو ألاّ يفهم من كلامي ذاك بأني مع هذه الاجور البخسة التي يتقاضاها للاسف فنانونا ممثلين وغيرهم وبأني أُؤيد ذلك وابرره , لا بالعكس اطلاقا , فانا بالضد من ذلك تماما وادعو الى ان تكون اجورهم مجزية تتناسب وابداع وتاريخ الفنان العراقي , وتلبي على الاقل احتياجاته المعيشية الكثيرة والارتفاع المستمر في الاسعار , والتضخم الاقتصادي الذي بات يثقل كاهل جميع المواطنين وبكافة شرائحهم , واجور تتناسب والدور الخطير للفنان الحقيقي والاصيل في المجتمع , خصوصا ونحن عندنا قامات تمثيلية كبيرة . ولكني هنا فقط اربط المسببات بالاسباب , والاسباب بالنتائج , والمعطيات والوقائع والحقائق التي اودت لتلك النتائج من ناحية علمية اكاديمية موضوعية وتجرد لا غير .

  وتحضرني هنا واقعة طريفة تخص هذا الموضوع. ففي احد البرامج التلفازية باحدى القنوات الفضائية العراقية التي كان محور مناقشتها هذا الموضوع مع احد الممثلين , وكالعادة كما في كل اللقاءات والندوات فان هذا الفنان قد ارجع السبب الوحيد لتراجع الدراما العراقية عن نظيراتها العربية الى الضعف الانتاجي وقلة الاجور (التعبانة) ـ على حد وصفه ـ للممثلين بشكل خاص وبخسهم حقوقهم و…و….الخ لما يقارب الساعة باكملها. فسأله احد المقدمين : (حسنا لو جاء مثلا منتج يصرف ويبذخ كثيرا على العمل ويعطيكم حقكم من الاجور فهل في هذه الحالة ستكون مسلسلاتنا بمستوى المصرية والسورية وغيرها من الدراما العربية ؟!!). فاجابه الفنان مباشرة وبلا وعي : (ومن هذا المنتج الذي يكون مستعدا للمغامرة بامواله في عمل قد يخسر ؟!!! ) . فاجابه المقدم فورا : ( اذن المشكلة ليست في ضعف الانتاج !!!). فبدا الحرج والارتباك واضحين على الفنان وقد أُسقِطَ في يده لتناقض اقواله , واجابه اجابة متلعثمة مرتبكة , لا ادري ان كان هو نفسه المتحدث فَهِمَ منها شيئا !!!!.

   لذا فلا يجب علينا القفز فوق الحقائق والوقائع وعلينا ان نناقش هذا الموضوع المهم والحيوي بتروٍ وبموضوعية وتجرد حياديين دون التشبث او التمسك مسبقا برأي او فكرة ما , او ذرائع وحجج واهية اثبتت المعطيات والحقائق خطئِها وعدم دقتها , إِن لم تكن وهميتــها اصلا !!!.

   أما اذا بقينا نغالط انفسنا ونكابر وندعي بأننا الافضل والارقى ونرمي بالسلبيات والقصور على شماعات متهرئة ما انزل الله بها من سلطان ونبقى ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعامة للتغاضي عن الحقيقة فأننا سنبقي نراوح في مكاننا ولن نتطور ابدا. ولنتعظ من التجربة المصرية فعندما ادرك القائمون على صناعتها ونقادها ان طوفان المسلسلات التركية المدبلجة قد اجتاحهم وقد سرق نسبةً كبيرة من جمهورهم المحلي والعربي واثر بالتالي على سوقهم التجاري كما حدث سابقا عند بروز الدراما السورية لذلك ناقشوا هذه الظاهرة الجديدة ـ بعد ان اقروا بها  اولا ـ بكل شجاعة وموضوعية وصراحة متناهية في الكثير من قنواتهم الفضائية وعلى صفحات الجرائد والمجلات ليصلوا الى نتيجة بأن المشاهد العربي عموما بات متعطشا لمثل هذا النوع من المسلسلات الرومانسية المغرقة بعاطفة الحب والمشاعر والاحاسيس الجيّاشة الجميلة ,  والتي تحوي على ابهار صوري يتمثل بوسامة الممثلين وجمال الممثلات والازياء والديكور والاكسسوارات والمناظر الطبيعية الخلابة لمواقع التصوير فعمدوا الى انتاج مسلسلات تحمل مثل هكذا نوع من المواصفات بل ان احد القائمين على الدراما المصرية قد صرح قبل فترة بانهم بصدد انجاز اول مسلسل مصري طويل يتكون من (150) حلقة على طريقة المسلسلات التركية المدبلجة نزولا عند رغبة المشاهدين وفي محاولة منهم لاسترجاع مكانتهم المتقدمة في سوق الخليج وسوريا ـ قبل الاحداث ـ ولبنان والاردن. لذا اعتقد بأنَّ على القائمين على الدراما العراقية قبل ان يطمحوا الى تسويق اعمالهم عربيا كما يقولون في لقاءاتهم الاعلامية ان يكسبوا الجمهور العراقي كاملا او معظمه على احسن تقدير في خضم ثورة التكنولوجيا الفضائية المهولة ثم الاتجاه نحو المشاهد العربي ليسوّقوا اعمالهم اليه .

وقد كتبت هذه الدراسة النقدية رغم علمي بأنَّ الكثيرين من العاملين في الوسط الفني والدرامي وصنّاعها سيستأون من هذه الصراحة التي لم يعتادوا عليها , ولا على النقد البنّاء العلمي الموضوعي الذي يقوم على الحيادية المهنية والمنهجية الاكاديمية في الطرح , بل ولا أعجب إنْ شككَّ بعضهم بصدق نياتي الوطنية !!.. وكأننا لم نزل ندور في رحى ثقافة النظام السابق الذي كان ما أنْ يتجرأ احدهم منتقدا أية سلبية مهما صَغُرت نقدا بناءً حتى تكال له هذه التهم الجاهزة والمعلبة !!.. واقولها بصراحة ـ وللاسف –  بأنَّ هذه الظاهرة لازالت متفشية في مجتمعنا حتى الآن وبعد سقوط النظام وعلى جميع الصُعد والمستويات , السياسية والثقافية والفنية والادبية والاعلامية.. بل وحتى الرياضية !!. لان غالبيتنا ـ وبالاخص نحن المثقفين  وللاسف ـ نملك داخلنا دكتاتورا لا يسمع سوى صوته ولا يؤمن مطلقا بثقافة الحوار مع الاخر رغم تمشدقنا وتغنّينا بالحرية والديمقراطية ليل نهار , وتقبّل الرأي  الآخر !!. اقول هذا ليس عن تجنٍ بل عن قناعة وعن خبرة وتجربة ضمن تجارب كثيرة حصلت معي شخصيا وسأنقل هنا احداها بامانة ومن دون مبالغة فالشيء بالشيء يذكر. ففي احدى المرات وبعد سقوط النظام بعام ودخولنا العهد (الديمقراطي) !!.. طلب مني احد العاملين في الوسط الفني احدى الصحف المحلية قراءة نقدي السينمائي لاحد الافلام (المصرية) ـ اؤكد (المصرية) وليست (العراقية) ـ كنت قد نشرته فيها. وما ان انهى قراءته (هذا المثقف الواعي !!) حتى استشاط غضبا ورفع صوته محتدا ومنفعلا متهما إياي بالتجني وعدم الحيادية والموضوعية وظلم الفيلم وبطله كثيرا واني …. واني ….. الخ . حاولت جاهدا مناقشته بهدوء وبعلمية وموضوعية لافهامه وجهة نظري النقدية , لكن ذلك لم يزده الا حدة وانفعالا وعصبية !!. قائلاً بالنص : (اخوية نقدك هذا إنطباعي !!) , جاهلا أصلا بأنَّ (النقد الإنطباعي) هذا الذي يتحدث عنه يُعدُّ احد مدارس ومناهج النقد الفني , وله شروطه وضوابطه ومعاييره واحكامه حاله حال (المدرسة الإنطباعية) في الفن !!!. رغم أنَّ نقدي كان ـ للامانة ـ مكتوب وفقاً للمنهج الوصفي التحليلي الاكاديمي الذي نحلل في ضوئه النماذج التطبيقية من الافلام في رسائل واطاريح الماجستير والدكتوراه , وإنْ كنت قد كتبته بأسلوب صحفي يتماشى وطبيعة الوسيلة الاعلامية المقروءة الشعبية والجماهيرية المنشور فيها (الصحيفة) , ولو كنت قد اطلت معه هذا النقاش (العلمي الموضوعي !!) قليلا فلم يكن يستبعد ان ينتهي (نقاشنا) من حوار بالكلام الى حوار بالايدي !!. مما جعل الحاضرين معنا ينفّضوا عنه بانزعاج مستهجنين تصرفه الهمجي !!. وكل هذا حصل لا لشيء الا لكوني قد كتبت وجهة نظر تخالفه . علما بان هذا الفيلم لايمت له بأية صلة شخصية , كما ان لا البطل ولا مخرج الفيلم هما من (عَمامَه !!). فما بالك لو(تجرأت) ونقدت احد اعماله … ولك ان تتخيل ذلك !!.

   وعلى أي حال ما اود قوله من هذا المثال بأنه إن دلّ على شيء فهو يدل على وجود ظاهرة حقيقية اخرى نعانيها وهي افتقارنا شبه التام لنقد موضوعي مهني علمي حقيقي , فالملاحظ خلو الساحة تقريبا من نقاد اكاديميين حقيقيين يتصدون للعمل الدرامي بتجرد وموضوعية بعيدين عن المزاجية والهوى وبصرف النظر عن مدى علاقتهم بصنّاع العمل , فالواضح بأنَّ الكثير منهم يرتقون بعمل درامي ما الى عنان السماء وإنْ كان هابطاً , او يهبطون به الى الحضيض وإنْ كان عملا كبيرا ورصينا ويمتلك من القيم الجمالية والابداعية الشيء الكثير , لا لشيء إلا أنَّ معيارهم او حكمهم النقدي عليه مبني فقط على مدى علاقة ذلك (الناقد) بصنّاع العمل إنْ قربا أو بعداً !!!. لتتحول بذلك صفته من (ناقد) الى (ناقم) لا اكثر… هذا إن إفترضنا بأنه ناقد , وأن ما كتبه نقد اصلا.. في حين نجد أنَّ الوصف الادق لما كتبه لا يعدو سوى (تصفية حسابات شخصية) !!.. فتراه شاحذاً قلمه وهمته ليقيّم ويحكم على العمل الدرامي كالمسلسل وهو لمّا يزل في حلقته الثانية او الثالثة !!.. إنْ سلباً او ايجابا تبعاً لهواه الشخصي ومزاجه والاخوانيات التي تحكم عمله بالآخرين… مسترشداً ومستهدياً بحكمة البيت الشعري المعروف : (عين الرضا عن كل عيبٍ كليلةً … وعين السُخط تُبدي المساويا) !!!. هذا ناهيك عن اكتظاظ الوسط الفني والإعلامي بالكثير ممّن يُعرفون بالنقاد الطارئين على المهنة من الذين يجهلون الف باء النقد وابجدياته البديهية المسلّمة !!!.

  اذن فلِندع الشوفينية جانبا والتشكيك بصدق نوايا الاخرين فكلنا عراقيون نحب بلدنا ونطمح ونأمل بأن يتطور ويزدهر نحو الافضل وفي شتى الحقول الادب والفن والثقافة والرياضة …… الخ. كما اود ان اقول وبصدق ان مادفعني الى كتابة هذه الدراسة المتواضعة هو غيرتي وحرصي الشديدين على الدراما العراقية والمي وحسرتي حينما اقارنها بالدراما المصرية او السورية وحتى اللبنانية فكثيرا ما اتساءَل مع نفسي بحرقة لماذا هذه الدراما العربية وبالاخص (المصرية) تسبقنا باشواط طويلة جدا وتسوّق على مستوى الوطن العربي باجمعه وبأهم القنوات الفضائية المشاهدة عربيا في حين ان الدراما العراقية لازالت تسوّق على المستوى المحلي فقط للاسف الشديد , وتزداد الحسرة والالم كلما نتذكر ان تلفزيون العراق هو اقدم قناة تلفزيونية في الوطن العربي والشرق الاوسط حيث انه تأسس عام 1956 في حين ان التلفزيون المصري تاسس عام 1960. ولهذا اقول ان على صناع الدراما العراقية والقائمين عليها والمهتمين بها ان يقفوا وقفة جادة بناءة وعلمية وموضوعية للتباحث في اسباب تأخرها عن نظيراتها العربية التي ذكرتها واولى الخطوات العملية لذلك هو المواجهة النقدية البناءة مع الذات والكشف عن مواطن الخلل والضعف والاخفاق فيها ومنها جانبي النص والتمثيل والذي ازعم باني قد شخصت بعض جوانبه لغرض تلافي تلك السلبيات مستقبلا والنهوض بالدراما العراقية والارتقاء بها لتصبح بمصاف نظيراتها المصرية والسورية ولنبتعد عن المجاملات والمحاباة الشخصية فعمر المجاملات ما صنعت فنا اصيلا بل زائفا… كزيف تلك المجاملات !!!.