تمرين على اليقين لعبد الرحمن طهمازي
أجناسية قصيدة النثر العابرة
نادية هناوي
من سمات قصيدة النثر العابرة أنها قادرة على أن تتقولب بما لا تستطيع القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة أن تؤدياه. والسبب أن قالبي العمود والتفعيلة يقبلان الضم والتجسير في قالب قصيدة النثر، مكتسبين خصائص هذا القالب بينما لا تفقد قصيدة النثر أيا من صفاتها وهي تباشر بالعبور عليهما. وهذا الأمر نفسه يصح مع أنواع وأشكال شعرية أخرى تعبر عليها قصيدة النثر مثل قصيدة النص والقصيدة الدرامية والمقطعية والمركبة والبصرية والومضة والهايكو والتابلو وغيرها كثير مما هو قابل للضم والاحتواء في قالب قصيدة النثر العابرة.
اجناس الشعر
ولأجل بسط الدينامية التي بموجبها تتمكن قصيدة النثر من أداء عمليتي الضم والتجسير وهي تعبر على غيرها من أجناس الشعر وأنواعه، فإننا سنقف عند كل خطوة وكل عملية بتأن وتدقيق ممثلين بقصيدة( تمرين على اليقين) لعبد الرحمن طهمازي، عارضين طبيعة الآليات الفنية كلا على حدة:
1ـ الضم احتواء: ويتحقق بطريقة جعل محتواه المادي سلبيا في مدى احتفاظه بخصائصه السابقة وايجابيا في استعداده لواقع موضوعي جديد وبحركة طبيعية تحفز حدوده وأطره لأن تصاغ في حد جديد مختلف عنها. ونقرب المسألة بعملية تحضير مركب كيميائي من مادتين أحدهما اقل في قدراتها من الأخرى، الأمر الذي يعني أن أسلوبية اختلاطهما لن تكون عشوائية لتضيع خصائص المادة المقتدرة مع خصائص المادة الأقل اقتدارا، وإنما هي منضبطة بما للمادة ذات الاقتدار من خصوصية تجعل المادة الأخرى مهيأة طبيعيا لان تظهر عناصرها مكشوفة وبحاجة إلى التحلل فالذوبان في المادة الأقدر بتكتيكية الاحتواء التي توصل إليها عملية إنتاج الجنس العابر. ومثالنا على ذلك الحوارية التي طرفاها الشاعر وبنلوب والتي حوتها قصيدة( تمرين على اليقين) مضمومة إليها ومتجنسة بقالبها:
ـ سأذهب إلى البحر
ـوماذا بعد
ـ سأركب سفينة
ـ لماذا
ـ لأهرب من البحر
ـ ما هذا
ـ هذا هو
ـ من أين لكِ كل هذا ؟
ـ من أندلسي جاور بمكة وتزعزع وفصد عرقه وهلك.
ـ وأنت يا بنلوب .. ما العمل بجبل الجليد ؟
ـ سأذيبه
ـ بأي شيء ؟
ـ بأنفاسي
ـ اذهبي مع ابن سبعين
ـ سنلتقي عند حدود الأحلام
ـ وأين الحدود
ـ يقال إنها في زمان من أزمنة اليقظة.
وأن أسلوبا محددا بالاحتواء هو ضروري في عملية الضم التي تجعل الظاهرة مستنبطة نظريا ومتحققة عمليا بميكانيكية التفرد التي يتمتع بها الجنس العابر ومن ثم تختلف الأجناس وتتباين الأنواع ويظل الجنس العابر اقدرها لأنه أكثرها اختلافا وتنوعا وتميزا.
2ـ الضم اندماجا : في هذه الخطوة تكون عملية الضم قد تعدت الاحتواء في الخصائص إلى الاندماج في الحركة والتطور بطريقة دائبة وجدلية مجزئة الجنس أو الشكل أو النوع المندمج، مطوعة إياه لتوالد جديد وانبثاق مستمر وزوال قديم باطلاقية ليست وقتية وبشكل ناجز لكل عناصره في عملية صعود دائمة من الأدنى إلى الأعلى عبر حركة تطورية داخلية لا تناقض فيها ولا اختيار إنما هي طبيعية وإلزامية تجعل القوى النصية والإطارية في نظام تحويلي ضمن حاضن خارج نصي وداخل إطاري، بهما ينتقل الجسم الذي هو الجنس أو النوع أو الشكل ـ الذي سيكون هو المعبور عليه مستقبلا ـ انتقالا بسيطا نحو استخلاص حقيقة تجسره وسيطا يوصل إلى الضفة الأخرى التي عندها يكون العبور قد تحقق بشكل تام. وإذا كان النص المندمج قد تجاوز الانعزال وفقد الحدية، فإن ذلك متبوع بعملية غير قابلة لأن تكون نصية لأنها ستتجاوز منطقة التداخل وتصل إلى منطقة التقولب ضمن نظام اختزالي انتقالي تحولي جديد يفهم على وفقه التطور الاجناسي بأنه اختلاف ناجم عن الضم وما ينجم عنه من اندماج تتحرك على وفقه كل الأجزاء والعناصر تحركا محددا ومبوبا نموا وترعرعا وحذوا واعتبارا وتفاعلا وتطورا وانجذابا نحو مصدر التبلور الحدي المتمثل بقالب الجنس العابر( قصيدة النثر) على أساس منطقي يفرضه صراع الجديد والقديم وحتمية انتصار الجديد وتقدمه على ذاك الذي تخلى عن بروزه ورسوخيته منضويا في الجديد وأعني ( القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة) بكل طبائعهما الحدية منسجمتين مع طبيعة الحد الجديد واستقلاليته الدغماطية واقتداره النظري وتوكيدا للتغير العميق الطبيعي غير الاحتمالي في خصائص الأجناس التي لا تتمكن من البرهنة على تمتعها بالتطورية الجديدة، فتسلم للبنائية القوية والسليمة التي تهيؤها بإلحاح قصيدة النثر العابرة. ومن المقاطع المجنسة بقصيدة العمود في قصيدة( تمرين على اليقين) :
هكذا يتفرج النائم على حلمه ويتجاذب معه في اليقظة
حين يعرضه على نفسه مرة أخرى ويضفي عليه بيئة مختلفة
الأرقام المتكسرة مبطوحة
وخلفها يقعي مفلسو الأبدية
بلا إيقاع تحملهم على حركات لا مبالية
هؤلاء هم الذين فهموا
أن شعرهم يأخذهم إلى الأمام حتى لو التفتوا
على أعقابهم لم يجهلوا أن التطرف هو أول
الضاربين بالفؤوس ثم يأتي الوسيط بالمعاول
………
هل صرتم تشعرون أنكم أسرى المستقبل . هل
تسالون موسيقى الكلمات العربية التي لا تخجل
ومن المقاطع المجنسة بقصيدة التفعيلة في قصيدة( تمرين على اليقين) :
ما ابخس هذا الثوب وأغلى الإبرة
كانت ريطة بنت سعد قد انقضت غزلها وعجنت
الصوف بحماقتها وكسرت التنور تحت الحكمة
ودار الأمر على غير مغزل
3ـ الضم انصهارا: هنا يكون الجنس أو الشكل أو النوع محتضَنا ومجموعا ككل بنائي وكظاهرة فنية للتطور انصهارا وأقول انصهار لأن التراكم يعني الانفصال عن الاختلافية والاكتفاء بالتداخل والاحتوائية. وليست محصلة التراكم والاكتفاء سوى التنظيم باتجاه الذوبان الذي بموجبه ينصهر المضموم بشكل دائم لا تراجع فيه كسمة مادية تنطلق في حل نفسها من أوليات وجودها نوعا أو جنسا يقر بأن أوليات غيره تصنع له عالما جديدا تنتقل إليه خصوصياته في حركة تطورية تجعله جزءا من ذلك الغير بعملية الانصهار النصية، فتتوالد العابرية على وفق قانون موضوعي يتفرد فيه الجنس العابر وقد انصهر فيه الجنس أو النوع المعبور عليه من غير ما عودة إلى أي من خصائصه أو جوانبه السابقة، فلقد انصهرت ببساطة طبيعية ميكانيكية أدت أثرها في كل جزئية من جزئيات المعبور عليه.
من أمثلة الصهر في قصيدة( تمرين على اليقين) ما يحصل من ذوبان لجنس الدراما في جنس قصيدة النثر باستعمال ضمير الخطاب الذي يهيمن على أجزاء كثيرة، تتواتر بطريقة تضفي على القصيدة بعداً مأساويا، فيتعمق الألم وتزداد حدته وتظهر الشخصية متفجعة وهي تطالب منذ استهلال القصيدة بضرورة ترك المسرح والخروج منه؛ فما الحياة سوى أدوار، وليس على الإنسان إلا أن يمثل دوره الذي أُعد له، سواء قبل بذلك أو لم يقبل. وهذه لوحدها تعطي القصيدة تعددا في الأصوات وقد لبس الشاعر الأقنعة بضمائر التكلم والخطاب والغياب. والمحصلة أن التقنع سبيل للانكشاف، فما عاد هناك من سر يخفى عليه وقد خبر بواطن المدن وخفايا الأشياء ولم يعد قوله( ما هذا الطريق) تساؤلا بل هو تعجب من هول ما عرفه من أسرار:
لقد أخذتني رعدة الحمى النافضة حين خرجت من
المسرح يا كاتو الأكبر وبعدها اخذ الخوف بأنفاسي
لا أقول إنها باردة. ولا أقول إنها حارة. إن
كل شيء يقال له خوف مغلق ومفتوح
ما هذا الطريق إنني لم أبدا به بعد يا حكيم
ـ أراك متألمة عزيزتي بغداد
ـ نعم نعم ما زلت أتلقى نقائصي التي لا تتوازن
تتكدس في داخلي وهي طافية فوقي متأخرة
ـ أنعود إلى الطيور
ـ نعم إلى مضيق الذاكرة وليس للانصهار في هذا القانون الموضوعي أية محصلة استقلالية أو تداخلية، بل هي ضدية لأي استقلال وتداخل وتوافقية مع أي تجسير وتحول باتجاه الجنس العابر. اعني أن هذا القانون الموضوعي في التجنيس هو تحول من التغييرات الكمية داخل النص إلى التغييرات النوعية داخل الجنس كانعكاس لما يجري من تقولب هو المركز في عملية التجنيس والأساس والمحور الذي يتحكم في عملية التطور التاريخي للأجناس الأدبية.
4ـ الضم تعيينا: من أكثر المحددات التي تكشف عن عمومية الضم ما بين جنس ونوع وشكل من ناحية وجنس آخر عابر عليها من ناحية أخرى هو التعيين بوصفه المحدد الإطاري الذي يتحكم في تطور البناء النصي والمؤدي إلى التحول باتجاه العبور. فبالتعيين نستطيع أن نكوّن صورة متكاملة ومنسجمة لخطوة التجسير التي هي خطوة لاحقة للضم.
عمليات تقييد
وليس الكشف عن قوانين التجنيس بمعزل عن عمليات التقييد النوعية للجوهر المادي للبناء النصي الذي يظل نصيا بالتداخل والتناص والتعالق لكن ليس للأبد إذ سرعان ما يطرأ التعيين محددا نوعيا ينقل محورية التقنين من منطقة التنظيم للنص إلى منطقة التطور التاريخي لذلك التنظيم باتجاه التجنيس كجزء لا يتجزأ من قالب ذي طابع عام وشامل ومختلف عن أي قالب آخر؛ متعينا بعمومية لها أهميتها في إتمام عملية العبور وتعميم المكاسب من دون التقليل من قيمة المعبور عليه الذي وإن فقد خصائصه فإنه اكتسب خصائص الجنس العابر. وفي قصيدة( تمرين على اليقين) يكون العنوان والتصدير والصيغة الطباعية للبنية السطرية الموزونة وغير الموزونة والطول المتطاول للقصيدة كلها دلائل تعيينية تؤكد هذا الانبثاق المقنن بالنص وخارجيات النص فيعطي للمعبور عليه قيمة انجازية تتعين فيها تطبيقيا ولا تُنكر علميا بوصف الانجاز تطوراً لا انفصام فيه، تماما كالشجرة التي بجانبها شجيرات ونباتات وأعشاب متنوعة تتعين كلها في جنس الشجرة فلا يمكن تخيلها إلا هذه الشجيرات والنباتات مضمومة فيها ومتعينة من خلالها، مكتسبة بذلك صفة تعليها وتعطيها قيمة مضاعفة حتى إذا اقتلعنا أي نبات أو شجيرة ذبل جزء من تلك الشجرة التي هي الجنس العابر الذي بمجموع ما ينضم إليه متعيينا تقوى صورته العابرة ويكون أكثر ارتباطا ووحدة بعناصره المندمجة فيه والمنصهرة فلا نتخيل قصيدة النثر العابرة من دون وجود قصيدة العمود والتفعيلة ومعهما أنواع أخرى تؤثر وتتأثر إلى أبعد حد والجنس العابر منهمك في عملية ضم المزيد من المتعينات كتطور جسيمي عضوي تنجزه على مستوى بناء القالب روابط تستغني عن الاستقلال بالتشارك وتقر تخصيصا بالتفرد كاستلزام من لوازم العبور الاجناسي وعوالمه الموضوعية.
5ـ الضم تماهيا: ما من ضم يكون طبيعيا من دون ارتباط وثيق يتماهى فيه الضام والمضموم معا في وحدة بنائية يؤثر كل واحد منهما في الآخر إلى حد ابعد منهمكا في عملية معقدة نتيجتها التماهي الذي بموجبه يصبح الضام جنسا عابرا كأصل أولي للتطور في الروابط التي تجمع بين الاثنين العابر والمعبور عليه. والأول هو الأقوى والأمتن والأكثر قدرة على إتمام عملية الضم ثم انجاز عملية العبور عليه باستغناء طبيعي وإطلاق عميق واستلزام عميم وجريان مادي وظرفي نتيجته التماهي كتكييف ذاتي يتهيأ بموجبه الجنس أو النوع أو الشكل ـ مما سيكون معبورا عليه لاحقا ـ بصورة سليمة نحو الانتقال الموضوعي للصيغة القالبية كعملية اجناسية نهائية وحتمية ممثلا بقصيدة النثر العابرة.
والأمثلة على ذلك في قصيدة ( تمرين على اليقين ) كثيرة وهي تتوزع تارة على مستوى الضمائر وثانية على مستوى الاستفهامات والاستعلامات القولية وثالثة على مستوى التدوير الإيقاعي. وجميعها تتماهى في القالب الاجناسي بانضمام تزول معه أية عقبة للنبو أو الانحراف. وقد ساهم طول القصيدة في جعل عملية التماهي طبيعية وهي تندمج في بنية النظام الاجناسي العام.
{ (تمرين على اليقين) قصيدة لعبد الرحمن طهمازي، نشرت في جريدة الزمان، السنة الرابعة والعشرون، العدد 6980 الثلاثاء الأول من حـــزيران 2021 .