نساء النبع

قصة قصيرة

نساء النبع

جاك جيمك

ترجمة: عبدالصاحب محمد البطيحي

في اللحظة التي تفتح له الباب يشعر بثقة ترسمها ابتسامته ، يحدّق كلٌّ منهما بالآخر ملياً ويدركان انزياح الملامح الغضة من على وجهيهما ورسوخ ما لونته السنون الغابرة  . تحرك عينيها بطريقة لا توصف ثم تضحك بعد استعادة هدوئها وتقول :أنت طيّب على نحو مثير لا يصدّق .   وتواصل الكلام: أعتقد أنهم سيعودون حالاً ، سنبقى معاً في انتظارهم .  يدخل الغرفة شاكراً ، غير قادرٍ على لملمة عذر مناسبٍ  ، تشَغّل مسجلاًغير آبهةٍ بدعوته الى الجلوس ، تسأله إن كان راغباً بشيء من الشراب فيومئ برأسه ويجلس بعد أن تغادر الغرفة التي كان كلُّ شيء فيها متقادماً ، يسترجع في ذهنه انهم سيعودون في أية لحظة  .لم يغيرهؤلاء الإخوة شيئاً في المنزل منذ موت جدهم وجدتهم ، وهاهو ، الآن ، يستنشق رائحة الماضي المتعفنة التي تنبعث من كلِّ ركن . عندعودتها الى الغرفة كان القرص الزجاجي يعلوه الغبار،وضعه على الصفيحة ، صخبت موسيقى الصول ، عندذاك هاجت ورقصت ، جلس يشاهدها ترقصُ . . شاهد وميضَ رقصة ” الكنكان ” الفاضحة يطوف حول الغرفة .تَطَلَبَ الأمرُ منه هنيهة ليفهم اللغز ، بيد أن هذه الفتاة  تُذكّره بشخصٍ ما . . بتلك المرأة في النبعِ يوم أن كان غلاماً يستطيع السير في الطريق بعفوية ، لم يخبر عنها أحداً . لم تكن سعيدة ، وفي أحد الأيام كانت قد تحدثت معه على نحوٍ هادئ ثم توقفت عن الكلام  ولم يكن يدري إن كانت قد غدت حرة أم انها التزمت الهدوء حسب ،لم يكن بمقدوره إخبار أحدٍ بذلك لأنهم سيتساءلون لِمَ لم يحاول إسعافها للخروج من تلك الحالة. مَن تكون هذه الفتاة التي استجابت لطرق الباب وتفوهت بكلمات قليلة عندما سمحت له بالدخول الى المنزل كأنها تلك التي يعرفها منذ زمن سحيق ؟ صوت هذه الفتاة هو صوت فتاة النبع تلك . طوال الوقتترقصُ ، تجهدُ ألّا تزوغ حركتها عن الخطوط، تضرب الجدران مرةً في كل حين ، تتساءل وهي ترقصُ إن كان هذا الرجل لا يرغب بالنهوض والمشاركة وما عسى أن تكون ظنونه وهي تدور بقوةٍ حول الغرفة , تتباطأ الموسيقى ، تهدأ حركتها ثم تجلس على كرسي هزاز . .هنا الرجل والأخوة غائبون ،لِمَ لا تهدأ؟ ألأنها لا تقدر على ذلك ؟ تدّورُلسانها حول فمها  وهي تعدُّ أسنانها :28( ألم يكن من المفترض أن يكون لديها 32؟ والتصق العدد32  في ذهنـــها كأنه عمر جديد .يفكر كيف أنه يداوم على الاعتقاد بأنها فتاة رائعة . بيد أنها حقاً ، أبعد من كونها كذلك فقد اكتملت تكورات جسدها ، والنضج يكوّن الآن نسيجاً متقن الصنع للجسد . . لمّا تزل رشيقة ، شاحبة ، شبيهة بفتاة النبع . ولكلٍّ منهما مظهر يدلُّ على ان الآخر هو الأصغر سناً .يتوق أن يصرخ بصوت الماضي بيد أن فمه مطبق عاجز عن صياغة الكلام . شاع اسمه لسنوات عديدة بيسرٍ بين الفتيات الجميلات ، بيد أن الأمر مع هذه الفتاة يختلف إذ يبدو كلُّ كلامه أمامها نوعاً من الموعظة الساخرة  . يبعدُ نفسه عن المشهد إذ يلتقط صحيفة يوم الأحد السابق من على منضدة القهوة ، يتصفحها بقصد هدر الوقت ويشغل نفسه بملء حقل تقاطع الكلمات. بعدها يرفع رأسه وتلتقي عيناه بعينيها . عيناها نجمتا ثريا لحورية اسطورية تغنيان رغبةً  .لم ير هذه المرأة في النبع مطلقاً إنما يعرف كيف ترفع عينيها وتنظر الى صورة ظله على ضوء النهار . يقرأ لها ، وهو مضطرب ، الجملة التالية للكلمات المتقاطعة  : (نهر غرقت فيه بطلة  ” غانيات لندن ” ) . يتساءل : مَن هذه الفتاة ؟ وأيّ نهرٍ ؟ تتمتم بإجابتها الحزينة بصوت واطئ :  ” نهر التايمز ” .يهرب من فضاءالغرفة الواسع . يختفي ، ثانيةً ، خلف الكلمات المتقاطعة متلهفاً لإخفاء ما يثيره صوتها من لواعج في نفسه  . أجل ، كان هو ذلك الصوت ، وهاهو على يقينٍ من ذلك الآن . كان صوتها مميزاً ، كصوت فتاة النبع .يا لقدرتها الحيوية في الإنكفاء على النفس بصورةٍ هازلةٍ !  تشدُّ الكرسي إليها بقدميها مفعَمةً بروح الصداقة .تقضم أطراف أصابعها بعد إضاعتها فرصة اتخاذ القرارات ، تفكر في اخوتها ، وحتى وصول الضيف كانت تردد تعويذةً مجهولة المصدر بصوتٍ عالٍ في البداية،لم تتوقف حتى خلال الصمت :لكي تتحررمن  كلِّ قيدٍ عليك فقط هجرالآخرين .  تظن بذلك كأنه حكمة . تراقب النافذة متأكدةً من ظهوراخوتها  في الأفق في أية لحظةٍ . والرجل يغير مكانه في المقعد، يتظاهر بالتطلع في الصحيفة  في حين يملأ صوتها كامل تفكيره . وهي تقلع أظافرها ظفراً بعد ظفر ، والجملة نفسها تطوف في فمها خارجةً على نحوً هادئ . .واللعاب يملأ فمها وتبلعه طوال ساعات ،يمكث الإثنان في الغرفة  وهو ما يبدوعزلةً مقصودةً تبدو ، ببطءٍ ، بلا جدوى . سيعود الأخوة مع اعتذار يقدمونه لأُختهم .ستتراجع فتاة النبع عن ذهنه ، وسوف لا يتقبل مطلقاً ما كان قد سمعه من هذه المرأة .

{ شاعرة وروائية امريكية ولدت في شيكاغو. تعتبر قصتها هذه من افضل قصص النت للعام 2010.

سيرة المترجم

تولد ميسان (العمارة) للعام 1934 بكلوريوس لغة انكليزية للعام 1967

 اصدر الكتب الآتية

– تغريدة الرطب / مجموعة قصص قصيرة / دار الزيدي للنشر والتوزيع والاعلان/2011

-الماكنة تتوقف / قصص مترجمة / دار الزيدي للنشر والتوزيع والاعلان /2012

– قصص الليل والنهار / قصص مترجمة عن الانكليزية للكاتب الامريكي بن لوري / دار الجواهري /2014

– نساء النبع / قصص مترجمة / دار الزيدي للنشر والتوزيع والاعلان / 2014

– اسهم في ترجمة مقالات نقدية وقصصية عديدة لمجلة الثقافة الاجنبية وجريدة الصباح وجريدة الزمان وجريدة الدعوة وجريدة التآخي .