موصليات- حسن النوّاب

hassan nawab

كلام مسموع

حسن النواب

رأيت‭ ‬الموصل‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات‭ ‬،‭ ‬حين‭ ‬إختارت‭ ‬مؤسسة‭ ‬المعاهد‭ ‬الفنية‭ ‬محطة‭ ‬بستنة‭ ‬الموصل‭ ‬كموقع‭ ‬عملي‭ ‬لتطبيق‭ ‬ما‭ ‬درسناه‭ ‬نظرياً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬البستنة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنتين‭ ‬،‭ ‬كان‭ ‬معسكرنا‭ ‬الطلابي‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬الرشيدية‭ ‬،‭ ‬وبرغم‭ ‬صعوبة‭ ‬المعيشة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬شهر‭ ‬ونصف‭ ‬؛‭ ‬إذ‭ ‬كنا‭ ‬ننام‭ ‬داخل‭ ‬خيام‭ ‬على‭ ‬أسرّة‭ ‬من‭ ‬حديد‭ ‬،‭ ‬نضع‭ ‬قوائهما‭ ‬في‭ ‬أوعية‭ ‬ملأى‭ ‬بالنفط‭ ‬حتى‭ ‬نتجنب‭ ‬تسلق‭ ‬العقارب‭ ‬الينا‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬سحر‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬الربيعين‭ ‬جذبنا‭ ‬وجعل‭ ‬تلك‭ ‬الدورة‭ ‬الزراعية‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬مرّت‭ ‬بحياتي‭ ‬،‭ ‬كنا‭ ‬نصل‭ ‬الى‭ ‬محطة‭ ‬البستنة‭ ‬مشياً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬من‭ ‬معسكر‭ ‬الرشيدية‭ ‬الطلابي‭ ‬،‭ ‬ونجد‭ ‬بإنتظارنا‭ ‬المهندسة‭ ‬الزراعية‭ ‬‮«‬‭ ‬ش‭ ‬‮«‬‭ ‬التي‭ ‬تشرف‭ ‬على‭ ‬دروسنا‭ ‬العملية‭ ‬،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الرقة‭ ‬والعذوبة‭ ‬حد‭ ‬ان‭ ‬جميع‭ ‬الطلاب‭ ‬شغف‭ ‬بشخصيتها‭ ‬الجذّابة‭ ‬وتمنى‭ ‬الإقتران‭ ‬بها‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المحطة‭ ‬تذوّقت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬طعم‭ ‬الخوخ‭ ‬صنف‭ ‬‮«‬‭ ‬ألبرتا‭ ‬‮«‬‭ ‬الذي‭ ‬يمتاز‭ ‬بنكهته‭ ‬وحلاوته‭ ‬وكبر‭ ‬حجمه‭ ‬؛‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭ ‬ثمرته‭ ‬بحجم‭ ‬التفاحة‭ ! ‬،‭ ‬وكنا‭ ‬نستغل‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬لزيارة‭ ‬المدينة‭ ‬،‭ ‬تعرفنا‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الطوب‭ ‬وشارع‭ ‬الدواسة‭ ‬وغابات‭ ‬الحدباء‭ ‬وسوق‭ ‬السرجخانة‭ ‬،‭ ‬لقد‭ ‬أبهرني‭ ‬هذا‭ ‬السوق‭ ‬بحوانيته‭ ‬المضيئة‭ ‬والتي‭ ‬إزدحمت‭ ‬ببضائع‭ ‬متنوعة‭ ‬،‭ ‬والتقطنا‭ ‬صورا‭ ‬قرب‭ ‬منارة‭ ‬الحدباء‭ ‬،‭ ‬وغطسنا‭ ‬بمياه‭ ‬معدنية‭ ‬في‭ ‬حمّام‭ ‬العليل‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬ار‭ ‬مدينة‭ ‬أنيقة‭ ‬مثل‭ ‬الموصل‭ ‬؛‭ ‬ترفل‭ ‬شوارعها‭ ‬وأزقتها‭ ‬الطويلة‭ ‬ومطاعمها‭ ‬بنظافة‭ ‬لافتة‭ ‬تسر‭ ‬الناظر‭ ‬،‭ ‬وكانت‭ ‬الموصل‭ ‬منطلقا‭ ‬لزيارة‭ ‬مصائف‭ ‬سياحية‭ ‬رائعة‭ ‬عند‭ ‬مشارفها‭. ‬

ثم‭ ‬تكحّلتْ‭ ‬عينايَّ‭ ‬برؤية‭ ‬الموصل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الثمانينات‭ ‬،‭ ‬حين‭ ‬إصطحبني‭ ‬صديقي‭ ‬كريم‭ ‬بولص‭ ‬من‭ ‬معسكر‭ ‬الدروع‭ ‬في‭ ‬تكريت‭ ‬الى‭ ‬مدينة‭ ‬قرقوش‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬زرت‭ ‬كنيسة‭ ‬الطاهرة‭ ‬بخديدا‭ ‬التي‭ ‬تشمخ‭ ‬ببهاء‭ ‬في‭ ‬مركزها‭ ‬،‭ ‬وشاهدت‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬تل‭ ‬بربارة‭ ‬بخضرته‭ ‬الزاهية‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬كرميلس‭ ‬الكلدانية‭ ‬؛‭ ‬وتناولت‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬صديقي‭ ‬الكبة‭ ‬المصلاوية‭ ‬وإنتشيت‭ ‬بإبنة‭ ‬الكروم‭ ‬؛‭ ‬مازلت‭ ‬أذكر‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬المسيحية‭ ‬التي‭ ‬شاهدتنا‭ ‬بملابسنا‭ ‬العسكرية‭ ‬ونحن‭ ‬نعود‭ ‬الى‭ ‬معسكر‭ ‬تكريت‭ ‬،‭ ‬حين‭ ‬هتفت‭ ‬بحنان‭ ‬غامر‭ : ‬يرعاكما‭ ‬المسيح‭ ‬ومسحت‭ ‬دمعة‭ ‬سقطت‭ ‬على‭ ‬خدّها‭ .‬

الزيارة‭ ‬الثالثة‭ ‬لمدينة‭ ‬أم‭ ‬الربيعين‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬المربد‭ ‬الشعري‭ ‬،‭ ‬حين‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الموصل‭ ‬قصيدة‭ ‬شجن‭ ‬السيدة‭ ‬في‭ ‬قافلة‭ ‬الجمر‭ ‬،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تحية‭ ‬من‭ ‬جندي‭ ‬خاض‭ ‬جحيم‭ ‬المعارك‭ ‬الى‭ ‬الإعلامية‭ ‬المعروفة‭ ‬إبتسام‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬كتبت‭ ‬القصيدة‭ ‬إثر‭ ‬زيارة‭ ‬صديقي‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭ ‬وكنت‭ ‬بصحبته‭ ‬تحت‭ ‬وابل‭ ‬قصف‭ ‬كثيف‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأمريكان‭ ‬على‭ ‬بغداد‭ ‬،‭ ‬وفوجئت‭ ‬بالسيدة‭ ‬المصلاوية‭ ‬الحنون‭ ‬تجلس‭ ‬هادئة‭ ‬بالطابق‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬الجريدة‭ ‬غير‭ ‬مكترثة‭ ‬للقصف‭ ‬،‭ ‬ورائحة‭ ‬البخور‭ ‬تضج‭ ‬في‭ ‬غرفتها‭ ‬؛‭ ‬اقول‭ ‬في‭ ‬مقطع‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ : ‬كنت‭ ‬وحيدا‭ ‬يتبعني‭ ‬طيف‭ ‬صديق‭ ‬حاصره‭ ‬الجوع‭ ‬سنينا‭ ‬؛‭ ‬ما‭ ‬أروعه‭ ‬لم‭ ‬يستسلم‭ ‬؛‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬بركن‭ ‬هادىءفي‭ ‬الدور‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬المبنى‭ ‬؛‭ ‬ظلت‭ ‬سيدة‭ ‬في‭ ‬غرفتها‭ ‬تقرأ‭ ‬أشعار‭ ‬الناس‭ ‬؛‭ ‬وتدفن‭ ‬دمعة‭ ‬عشق‭ ‬في‭ ‬مهجتها‭ ‬لجنود‭ ‬في‭ ‬الثكنات‭ ‬؛‭ ‬وتفكر‭ ‬حينا‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬نهار‭ ‬وحشي‭ ‬آخر‭ ‬سيمرّ‭ ‬عليها‭ ‬بسلام‭ ‬؛كان‭ ‬دخان‭ ‬يتصاعد‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الباب‭ ‬الشرقي‭ ‬كئيبا‭ ‬؛‭ ‬وقطيع‭ ‬نوارس‭ ‬مرتبك‭ ‬يتساقط‭ ‬منه‭ ‬الريش‭ ‬جريحا‭ ‬؛‭ ‬وأنا‭ ‬أطرق‭ ‬باب‭ ‬الغرفة‭ ‬؛‭ ‬استقبلني‭ ‬عطر‭ ‬بخور‭ ‬وامرأة‭ ‬في‭ ‬عينيها‭ ‬شجن‭ ‬طوّقني‭ ‬بعذوبته‭ ‬وحنان‭ ‬دثرني‭ ‬بأمومته‭ ‬؛‭ ‬حين‭ ‬نهضت‭ ‬تناثر‭ ‬من‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬فرحٌ‭ ‬؛‭ ‬وخرجت‭ ‬أغنّي‭ .. ‬والقصف‭ ‬يجلجل‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ .‬

مرة‭ ‬رابعة‭ ‬زرت‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬القلاع‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬‭ ‬أبو‭ ‬تمام‭ ‬‮«‬‭  ‬الشعري‭ ‬،‭ ‬ذهبنا‭ ‬خلالها‭ ‬لرؤية‭ ‬سد‭ ‬الموصل‭ ‬العملاق‭ ‬،‭ ‬كانت‭ ‬ضيافتنا‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬نينوى‭ ‬أبروي‭ ‬،‭ ‬كرم‭ ‬أبناء‭ ‬مدينة‭ ‬الحدباء‭ ‬كان‭ ‬باذخاً‭ ‬،‭ ‬حينها‭ ‬التقيت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬بالصديق‭ ‬الروائي‭ ‬فاتح‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬،‭ ‬أذكر‭ ‬وبرغم‭ ‬خطورة‭ ‬الوضع‭ ‬سألته‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مضايقات‭ ‬قد‭ ‬واجهته‭ ‬بسبب‭ ‬موقف‭ ‬أبي‭ ‬الطيّب‭ ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬معارضته‭ ‬للنظام‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬،‭ ‬كان‭ ‬ردّه‭ ‬حذراً‭ ‬جداً‭ ‬وشعرت‭ ‬بحرجه‭ ‬؛‭ ‬حتى‭ ‬غيّر‭ ‬دفة‭ ‬الحديث‭ ‬فجأة‭ ‬وقال‭ ‬لكزار‭ ‬بلطف‭ ‬وهو‭ ‬يبتسم‭ : ‬لديّ‭ ‬بذلة‭ ‬أنيقة‭ ‬تناسب‭ ‬مقاسك‭ ‬،‭ ‬سأجلبها‭ ‬لك‭ ‬بعد‭ ‬ساعة‭ ‬؛‭ ‬ضحك‭ ‬كزار‭ ‬ونفث‭ ‬دخان‭ ‬سيجارته‭ ‬جذلاً‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ : ‬شكرا‭ ‬لك‭ ‬أيها‭ ‬الأمير‭ .‬

فوجىء‭ ‬الجند‭ ‬البواسل‭ ‬الذين‭ ‬تقدموا‭ ‬لتحرير‭ ‬الموصل‭ ‬،‭ ‬بعربة‭ ‬آشورية‭  ‬يجرّها‭ ‬ثور‭ ‬مجنح‭ ‬ويقودها‭ ‬رجل‭ ‬بهي‭ ‬الطلعة‭ ‬؛‭ ‬يرتدي‭ ‬أزياءً‭ ‬تعود‭ ‬الى‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬،‭ ‬بدأ‭ ‬يسقيهم‭ ‬ماءً‭ ‬قَراحاً‭ ‬من‭ ‬قِربة‭ ‬تتدلى‭ ‬من‭ ‬حول‭ ‬عنقه‭ ‬،‭ ‬سمعوه‭ ‬ينتخيهم‭ ‬حتى‭ ‬يعيدوا‭ ‬نصبه‭ ‬الذي‭ ‬دمره‭ ‬الدواعش‭ ‬الى‭ ‬مكانه‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬يردد‭ ‬على‭ ‬مسامعهم‭ : ‬السيف‭ ‬أصدق‭ ‬أنباء‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬؛‭ ‬إقترب‭ ‬منه‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬وغبار‭ ‬المعركة‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬وسأله‭ : ‬من‭ ‬أنت‭ ‬ياشيخنا‭ ‬الوقور‭ ‬؟‭ ‬أجابه‭ ‬وقد‭ ‬ترقرق‭ ‬دمع‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ : ‬

البينُ‭ ‬جرّعني‭ ‬نقيع‭ ‬الحنظلِ‭ ‬

والبينُ‭ ‬أثكلني‭ ‬وإنْ‭ ‬لم‭ ‬أثكلِ

نقّل‭ ‬فؤادك‭ ‬حيث‭ ‬شئت‭ ‬من‭ ‬الهوى

مالحبُّ‭ ‬الاّ‭ ‬للحبيب‭ ‬الأوّلِ

كم‭ ‬منزل‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬يألفه‭ ‬الفتى

وحنينهُ‭ ‬أبداً‭ ‬لأوّلِ‭ ‬منزل‭ ‬ِ

بينما‭ ‬كان‭ ‬منارة‭ ‬الحدباء‭ ‬تهتزّ‭ ‬من‭ ‬شدّة‭ ‬الشوق‭ ‬،‭ ‬وتترقب‭ ‬وصول‭ ‬أبناء‭ ‬الملحة‭ ‬على‭ ‬أحرّ‭ ‬من‭ ‬جمر‭ ‬الرصاص‭ ‬؛‭ ‬لتحطيم‭ ‬قيود‭ ‬أسرها‭ ‬الذي‭ ‬طال‭ ‬،‭ ‬وتسمع‭ ‬زرياب‭ ‬يعزف‭ ‬موسيقى‭ ‬إنشودة‭ ‬تحريرها‭ ‬قريبا‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ .‬

مشاركة