مكاتيب عراقية أنا وباتشينو وقراقيش الشام علي السوداني

مكاتيب عراقية أنا وباتشينو وقراقيش الشام علي السوداني
قد يكون الأمر مثل ذاكرة ملتبسة . ربما بعض منظرٍ لم تشاهده من قبل ، لكنَّ فُصيص مخّك الخلفي أنبأكَ بأنكَ قد شاهدتَهُ من بَعد . ثمة طقسٌ يوميٌّ لم يتبدّل منذ عشر سنوات .
أنا في شرفتي وهو في شرفته . بيننا ثلاثون ذراعاً تُتيحُ لي كشف جسده كلّهُ . وجههُ يتبأّر بنظّارة معتمة ينكسر سوادها بلمعةٍ تُنتجها حركة مباغتة . لمْ أرَهُ يستعملُ عكّازهُ في الشرفة الضيّقة مثل قفص كناري ، كما يفعل في باب مساء الخميس المبهج بحانة الشرق السعيدة .
لم أعدْهُ يوماً ، لكنني أكاد أتخيّل بدقة عالية ، شكل نزلهِ الصغير . غرفة نوم واحدة وصالة صغيرة وحمّام ومطبخ والشرفة ، وحبل غسيل لم يرفرفْ أبداً بلباس .
أزيد الظنِّ أنَّ غرفة المنام ستكون من حصة أُمّهِ ، أما هو فحتماً سيستوطن الصالة ويغفو على كلاسيكية سينمائية موجعة .
قبل إحدى عشرةَ حسوةً من الآن الدبق ، كتبتُ أنَّ هذا الكائن الملغّز ، لا شبيهَ لهُ سوى صديقي المدهش آل باتشينو . لقد أحببْتهُ في شريط عطر امرأة وذرفتُ دمعةً عملاقةً على الرجل الأعمى الذي أذهل الناس برقصة تانغو عظيمة . أقصد الممثل الذي صار يشبه صاحبي الليلة . أشتهي أن أضيف للنَصِّ وسائط إيضاح وفق تسمية معلّمي الإبتدائي .
ثمةَ تماهٍ عظيم بين الفلم وبين الشرفة المعلقة أمامي . هناك كان جنرال أعمى قويّ ما زالت ضربات بساطيل الجند تركل ذاكرته بقسوة ، وفتى إعداديّ مُملٌّ دعبَلَهُ حظّهُ ليصير خادم الجنرال في أيامه التعيسة . ليس ثمة أُمّ تلبطُ فوق شاشة التلفزيون . كلّ كائنات الشريط ثانوية ومُهمَلة . آل باتشينو وكريس أودونيل بَطَشا بكائنات الشريط ، بما فيهم تلك البنت الحلوة التي أدتْ أعظم رقصة تانغو في فلم سهرةٍ مذهلٍ ، مَنْ شاهدهُ تورّطَ بوجعٍ يشبهُ زيارةً إكراهية لمصحّةٍ مرحاضها يكاد يصيحُ من قوة العفَنْ .
أكادُ أُجزمُ بأنَّ صديق الشرفة قبالتي ، هو واحدٌ من الندرة التي لا تستهلكُ كثيرَ لغة .
لا لغوةَ حميمة مع الأمّ التي تظهر مرة واحدةً وهي تشيل صينيةً مدورة فوق خاصرتها فنجان قهوة سمين وكأس ماء سيبقى كاملاً حتى نهاية الجلسة .
ألحركة التي تحدثُ بين يومٍ ويوم ، هي في مجيء بائع القراقيش الشاميّ الذي يحملُ كارتونة الخبز المقرمش على ظهره ، مثل صخرة سيزيفية تتلذّذ بكسر ظهر . ألشاميّ الذي يموسقُ نداء البيع بكلمات سماوية مؤثرة يلوكُ المفردة فتبدو كأنها أرايشَ ، يحمل بيمينه الحذرة ، قرصة الخبز الرقيقة المقلاة ، ويرتقي سلّماً يصعدُ به إلى حلق البالكون ويضع الخبزة الشفّافة على سور صينية القهوة ، ويقبض سعرها القليل ، ثمّ يهبطُ متخفّفاً من سكون المكان .
كائن الشرفة وبائع القراقيش وباتشينو والولد الإعداديّ ومقطع شهقات أوّل الياسمين ، قد تشاركوا في مسألة تحطيم قلبي ، حتى كدتُ أنسى البلاد وبكاءها المرّ الطويل .
AZP20
ALSO