

قنديل (العراق) (أ ف ب) – يسلك مقاتل في صفوف حزب العمال الكردستاني، طريقا جبليا ضيقا ومتعرّجا في شمال العراق على متن شاحنته الصغيرة، ثم يتوقف جانبا قبل نهاية الطريق لإجراء اتصال من هاتف معلّق على شجرة، لإبلاغ رفاقه بقدومه مع فريق وكالة فرانس برس.
وعلى بعد بضعة أمتار، في ظل أجواء خريفية باردة، يركن شاحنته على تلّة ويترجّلون منها جميعا، ويسيرون سويّا برفقة آخرين من رفاقه نزولا نحو مخبأ حفره مقاتلو الحزب في جبال قنديل، قاعدتهم الخلفيّة بشمال العراق.
في عمق المخبأ، لا تفارق الابتسامة وجه القيادية شردا مظلوم كابار التي تقول وهي تستقبل صحافيي وكالة فرانس برس “عملية السلام لا تعني أننا سنترك الجبال”.
وتتابع المقاتلة البالغة 47 عاما، ذات الشعر البني الفاتح والطويل، “حتى لو غادرنا، سنحافظ على نمط الحياة نفسه”، مضيفة “الطبيعة لا تُخيفني، فيما لن أشعر بأمان إن مشيت في مدينة بين سياراتها ودخانها وازدحاماتها”.
وتلبية لدعوة المؤسس عبدالله أوجلان، أعلن حزب العمال الكردستاني في أيار/مايو حل نفسه بعد أكثر من أربعة عقود من القتال ضد القوات التركية، خلّفت نحو 50 ألف قتيل.
وفي الأشهر الأخيرة، اتخذ الحزب عدة خطوات تاريخية نحو إنهاء قتاله ضد تركيا التي أقامت أيضا منذ 25 عاما قواعد عسكرية في شمال العراق لمواجهته، وشنّت بانتظام عمليات برية وجوية ضدّه.
في تموز/يوليو، أحرق 30 مقاتلا بينهم أربعة قياديين أسلحتهم في شمال العراق، في خطوة رمزية للتعبير عن عزمهم التخلي عن الكفاح المسلح.
على مدى عقود، وجد مقاتلو حزب العمال الكردستاني ملاذا آمنا في مناطق جبلية في العراق وتركيا تعايشوا فيها مع الطبيعة.
وتؤكد شردا مظلوم كابار أن النضال لا ينتهي حتى لو توقف القتال، إنما “يتواصل بأساليب مختلفة وسلمية”.
وتتابع “لم نُجبر على عيش هذه الحياة. اخترناها بأنفسنا”.
– “لا مكانا واحدا” –
أجرت وكالة فرانس برس مقابلات مع عناصر حزب العمال الكردستاني باستخدام كاميرات وفّرها الحزب، إذ لم يُسمح باستخدام معدات أخرى لأسباب أمنية.
عند مدخل النفق المؤدي إلى المخبأ، عُلّقت مروحة كبيرة متّصلة بأنبوب تهوئة يمتدّ إلى الداخل.
يؤدي النفق القصير والضيق إلى ممرّ أوسع اصطفّ فيه عناصر الحزب من مختلف الأعمار بينهم قياديون، بملابسهم العسكرية الكردية التقليدية الزيتية اللون، للترحيب بالزوّار ومصافحتهم الواحد تلو الآخر.
ويتفرّع الممرّ إلى غرف، كلّ منها مخصص لغرض ما، وكأنها منزل كامل مؤلف من غرفة جلوس ومطبخ وغرفة طعام وأخرى مخصصة للنوم.
وللمقاتلات حصتهن، وقد زينّ القسم المخصص لهنّ بنبات وأضواء.
واستضافت جبال شمال العراق في الآونة الأخيرة وافدين جددا من المقاتلين الذين انسحبوا من تركيا، بهدف تأكيد التزام الحزب بعملية السلام مع أنقرة.
ومن بينهم المقاتلة فيجين ديرسم (34 عاما) التي انضمت إلى حزب العمال الكردستاني في سنّ الثالثة والعشرين وقضت معظم وقتها في جنوب شرق تركيا.
وتقول “كان الرحيل مؤثرا جدا. كانت (تركيا) مكانا مميزا جدا، خصوصا لأننا أقرب من القائد آبو” أي أوجلان (76 عاما) الذي يمضي عقوبة السجن مدى الحياة في حبس انفرادي في جزيرة إيمرالي قبالة اسطنبول منذ العام 1999.
أما دفريم بالو (47 عاما)، فقد انضم إلى الحزب في العام 1999 وعاد أخيرا إلى العراق.
ويقول بصوت خافت “في تنظيمنا، لا يهمّ أين تقاتل، ولا يبقى المقاتل في مكان واحد”، معتبرا أن حزبه دخل “اليوم في مرحلة التغيير”.
ويشير إلى أن حزب العمال الكردستاني قادر على تغيير طبيعة النزاع والانتقال من الحرب إلى العمل السلمي.
– “مغمض العينين” –
على مدى عقود، خاض حزب العمال الكردستاني العديد من محادثات السلام مع تركيا، وشهد تحولات هائلة منذ بدايته كحركة انفصالية إلى أن أصبح تدريجيا يطالب تركيا بتحقيق العدالة والمساواة للأكراد.
ويقول الحزب إنه يدخل مرحلة جديدة من باتباع المسار الديموقراطي للدفاع عن حقوق الأقلية الكردية.
ويشير بالو إلى أن الوجود في العراق يكون أسهل بشكل عام لأن المقرّ الرئيسي للقادة الكبار أقرب وتصل الأخبار بسرعة أكبر.
وفي المخابئ التي زارتها وكالة فرانس برس، الجدران مزينة بصور لأوجلان ولمقاتلين سقطوا في صفوف الحزب.
في المطبخ، يعجن عناصر من حزب العمال الكردستاني لصنع فطيرة لحم، فيما يشاهد آخرون التلفاز أو يشربون الشاي أو يتحدّثون.
وخُصصت إحدى الغرف لإقامة الاتصالات مع عناصر آخرين في جبال محيطة.
وشكّلت منطقة قنديل موطنا لحزب العمال الكردستاني لسنوات عديدة، وباتت مقرّهم الرئيسي في شمال العراق.
في البداية، كان المقاتلون يختبئون في كهوف، ثم بدأوا يحفرون عشرات المخابئ المجهّزة بشكل جيد.
في طريق العودة، قال عنصر الحزب الذي رافق فريق وكالة فرانس برس على متن شاحنة صغيرة يقودها بسرعة في ظلام الليل الدامس “يمكنني القيادة في هذه الجبال وأنا مغمض العينين”.

















