ذكرياتي 83
معلمون ومناهج – نصوص – عبدالرزاق عبدالواحد
كنت في نادي التعارف .. وكان بين الموجودين عدد من المسؤولين دعوا لحضور حفل توزيع جائزة الدكتور عبدالجبار عبدالله على متفوقي ذلك العام من الطلبة . في افتتاح الحفل قدم الأستاذ رشيد غالب الناشي .. وهو من أقرباء الدكتور عبدالجبار عبدالله ، وأصدقاء طفولته .. قدِّم لإلقاء كلمة بالمناسبة . ونهض الأستاذ رشيد ، معلم الإبتدائية العريق ، بقامته الممشوقة الفارعة وأكتافه التي انحنت انحناءة خفيفة تحت وطأة الثمانين عاما ًونيف .
وبدأ أبو حامد يتحدث عن ذكرياته مع عبدالجبار عبدالله . كانت أمامه مجموعة من الأوراق ، لكنه لم يكن ينظر إليها ، حتى أنني عجبت كيف استطاع أن يحفظ كلمته الطويلة هذه عن ظهر قلب !. فجأة اكتشفت أنه كان يتحدث ارتجالا ً، وأن الأوراق التي أمامه لا علاقة لها بكلمته .. إنما هي أوراق قصيدة طويلة ينتظر إلقاءها في نهاية كلمته ! .
سمعت مرة رأياً لأحد المشرفين التربويين ـ وكانوا يسمونهم المفتشين في ما مضى ـ قال ذلك المشرف التربوي : حين يتحدث رشيد غالب في درس الجغرافية ، عن سفرة بين مدينتين ، تحـــــس وكأنك تسمع صوت القطار ، وتبصر حركته ، ترى المسافرين ، والباعة وهم يتجولون بين العربات .. تسمع نداءاتهم ولغط الركاب، وترى كل ما حولك في الطريق .
كنت جالسا ًإلى جوار الأستاذ ناجي الحديثي وكيل وزارة الثقافة والإعلام .. التفت إليّ الأستاذ ناجي قائلا ً: أية بلاغة ، وأية قدرة على الكلام هذه ؟! . إنه يأخذ إليه جميع الألباب وهو يتحدث .. وهو معلم إبتدائية ! .
حين اعتليت المنصة لألقي قصيدتي عن عبدالجبار عبدالله ، قلت : يسألونني كثيرا ً: كيف استقام لك هذا الإلقاء المؤثر للشعر ؟
وها أمامكم الجواب ! . هذا المعلم الجليل الذي استمعتم إليه الآن ، كان واحدا ًمن أساتذتي في المدرسة الإبتدائية في العمارة .. وحرام على من كان معلموه مثل هذا ألا يحسن الإلقاء ! .
مجموعة عجيبة من المعلمين كانت تدرسنا في المدرسة الإبتدائية في العمارة .. ترى هل كانوا جميعهم ظواهر إستثنائية بين زملائهم ، أم أن المعلمين جميعا ً آنذاك كانوا كذلك ؟ . بطرس نقاشة .. معلم لا أنساه .. بشقرة شعره .. وبياض بشرته .. وقامته المديدة .. وبعمره الذي أشرف على الخمسين . كان يدرسنا في الصف الرابع الإبتدائي ، في مدرسة الفيصلية الإبتدائية للبنين في العمارة ، ذلك المعلم الدؤوب ، الهادى ، المتفاني في درسه .. كيف يمكن لمن تتلمذوا عليه أن ينسوه ؟!. كان يعجب كيف أحصل في درس الإملاء على 10/10 دائما ً. جاء مرة إلى الصف ، وحال دخوله طلب مني أن أخرج إلى السبورة . أذكر أنني أجفلت لحظتها.. كانت في يده أوراق امتحاننا الشهري في الإملاء والخط. حين لاحظ ارتباكي قال : لا تخف . لديّ عشر كلمات أريدك أن تكتبها لي على اللوح . ثم أخذ يملي عليّ كلمات كلها تحتوي على الهمزة في أوضاع مختلفة .
إذا قلت للقاريء أنني لا أدري حتى الآن بأي هاجس كنت أميز وضع الهمزة في الكلمة ، فقد يبدو في قولي شيء من عدم التحفظ..ولكنني كنت طفلاً لم أقرأ بعد شيئاً ، ولم أطلع على شيء . المهم أنني كتبت على السبورة عشر كلمات كلها تحتوي على الهمزة . ثم أ شار إلي المعلم أن أبتعد عن اللوحة ، وبدأ يتأمل الكلمات ، وأمسك بقطعة طباشير ، وراح يضع علامة ” صح ” إلى جانب كل كلمة والطلاب ينظرون 9 / 10 كانت النتيجة ..” تسع كلمات صحيحة ، وواحدة خطأ ، في أصعب إمتحان ” .. هكذا قال وهو يتأمل جرمي الصغير ، ثم عاد إلى منضدته . أخرج ورقة وكتب فيها ، ثم سلمني إياها قائلاً : لا تفتحها الآن ، بل سلمها لأهـــلك حين تعود إلى البيت .
ما أن دقّ الجرس ، حتى تكأكأ عليّ الطلاب يريدون أن يعرفوا ماذا في الورقة . ورغم أني لم أستوعب تماماً ماذا عنى معلمي ، ولكنني شعرت بين زملائي كأنني انتشرت على جلدي ألف ريشة طاووس ! . وكاد الطلاب يتلفون الورقة لكثرة ما تناهبوها . كان مكتوباً فيها : ” إعتنوا بولدكم هذا فسيكون شيئاً في المستقبل ” . ولم أفهم وقتها ما ” شيئاً ” هذه ! .
كم معلاً كان لدينا على غرار رشيد غالب ، وبطرس نقاشه ..كثيرون !! . لقد كان معظم المعلمين مثل هذين ! .. كان بعض معلمي الفيصلية الإبتدائية يقول للأستاذ شاكر محمود ، معلم اللغة العربية :” يا أستاذ شاكر .. كلما صرت مراقباً يوم الخميس ، أخرجت هذا الطفل لقراءة قصيدة ” العلم ” ، وهو يلثغ في الراء ، ويخنّ في السين والصاد .. سمعت هذا التعليق بنفسي .. وسمعته يقول لصاحبه : هل انتبهت إلى طريقة إلقائه ، وإلى مدى انفعاله وهو يقرأ ؟! .
لقد كان لنا معلمون .. وأقسم أن كل ما أنا عليه .. ما كان منه حسناً فأنا مدين به لهم ، وما كان منه سيئاً فأنا مدين به لنفسي .. هؤلاء المربون الكبار ! . ترى .. أزمة التعليم الآن .. أهي أزمة في تربية التلميذ ، أم أزمــــــة في تربية الملم ؟! .
مرة سمعت عن الصديق الشاعر الأستاذ حميد سعيد أنه قال : كنت أكره درس اللغة العربية حتى دخل علينا ذات صباح مدرس شاب ، نحيل ،أسمر..وأمسك بقطعة طباشير ـ في أول درس له ـ وراح يكتب بخط نسخ جميل على السبورة: أخي من نحن لا وطنٌ ولا أهلٌ .. ولا جارُ
إلى آخر القصيدة . قال : منذ ذلك اليوم بدأت أحفظ الشعر .. وأحب اللغة العربية .. وكان ذلك المدرس هو الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد ! . ألف شكر لشهادة الصديق الحبيب ، والتلميذ الحبيب حميد سعيد.
هذه الشهادة تجعلني أتساءل : ترى لولا هذه الصدفة في حياته ، أما كان محتملاً أن يظل على كرهه لدروس اللغة العربية ، واتجه أي اتجاه آخر ، فلم يصبح الشاعر المبدع حميد سعيد ؟ . هل تسمع مناهجنا ، ومعلمونا هذا الكلام ؟ .. وهل تقرأه وزارة التربية والتعليم ؟ ! .
– نادي التعارف : نادٍ ثقافي اجتماعي خاص بطائفة الصابئة المندائيين .
– هي جائزة اسسها نادي التعارف ، وأصبحت طقساً من طقوسه ، تقدم كل سنة للمتفوقين من بنات وأبناء أعضائه .
– البيت من قصيدة ” أخي ” للشاعر المهجري ميخائيل نعيمه
تحت ذرى القرآن
أبصرُ قوماً شُغِلوا بناقةٍ معقورة *
أكفُّهُم ترفعُ جذعَها إلى قائمتَيها
كلَّما أوشكَ
مال َ الجذعُ من جديدْ
وَيْ .. إنّها ثَمودْ
مأخوذةٌ بهذه النّاقةِ حتى يُرفَعَ الميزانْ
ثمودُ يا ثمودْ
أحملُ عنكِ لعنةَ الأبَدْ
لو أنتِ صدَّقتِ بأنّ صالحاً ليس هو النّاقَة
وأنـّهُ يعودْ
يعودُ يا ثمود من رحلتِهِ الكبرى
وناقةٌ تتبعُهُ أخرى
أدفعُ رأسي ثمناً
لو أنتِ لم تحاولي
أن تعقريها مرّةً أخرى ..!
* * *
كنت طالباً في الصف الخامس الأبتدائي ، عندما انتقلت بنا والدتي – أنا وإخوتي – من العمارة إلى علي الغربي ، حيث بيت جدّي ، وخالتي التي أصبحت مديرة لمدرسة علي الغربي الأبتدائية للبنات .
كان أبي يعمل في طرابلس الغرب .. وكانت سنة اندلاع ثورة رشيد عالي الكيلاني ، حيث ألقت الطائرات الأنكليزية قنابلها مرتين على العمارة . ولغياب والدي ، وخوف أمي علينا ، انتقلت بنا إلى بيت أبيها في علي الغربي .
في اليوم الأول من دوامي في مدرسة علي الغربي الأبتدائية للبنين ، التصق بي تلميذ نحيف القامة ، أبيض البشرة ، ليّن الحركات .. التصق بي التصاقاً أحسست معه فجأة بالنفور . عرفت أن اسمه ابراهيم حسقيل .. وأنه يهودي .. اليهودي الوحيد في المدرسة .. وأنت الصابئي الوحيد في المدرسة .. هذا ما قاله لي , وهذا ما أشعرني بالنفور منه أول ما عرفته ! .ثلاثة أيام .. لم يتح لي ابراهيم خلالها أن أتعرف على تلميذ سواه.. وربما لم يقترب أحد من التلاميذ مني بسبب ابراهيم ! ..
في اليوم الثالث ، بعد الفرصة الطويلة ، دقّ جرس الدرس . كنت استدير لأتوجه إلى الصف ، حين ا ستوقفني ابراهيم سائلاً : “إلى أين ؟”. قلت :” إلى الصف .. لقد دقّ الجرس .” قال :” أعلم أن الجرس دق .. ولكن .. لدينا درس دين ، فإلى أين أنت ذاهب ؟” . قلت :” إلى الصف طبعاً .” قال :”ولكنك صابئي ..”فجأة أحسست باشمئزاز رهيب من ابراهيم .. قلت :” وماذا يعني هذا ؟.” قال :”سيطردك المعلم من الصف!” هنا بلغ ا شمئزازي منه ذروته . تركته دون أية كلمة ، ودخلت الصف .دخل المعلم الصف .. أوّل شيء فعله أن قال :” من عبد الرزاق عبد الواحد ؟ .” فوقفت فرحاً بهذا الإمتياز !.. قال :” خذ كتبك واخرج من الصف !.” قلت ، وأنا أداري حرجي ، ونظرات الطلاب التي اتجهت جميعها إلي :” لماذا أخرج ؟.” قال :” ألستَ صابئياً ؟” قلت :” بلى ” قال :” فاخرج إذن من الصف.” قلت :” ولكننا يا أستاذ كنا ندرس درس الدين طيلة خمس سنوات في العمارة .” قال :” أنت في علي الغربي، ولست في العمارة . خذ كتبك واخرج ! .” .. وأخذت كتبي وخرجت ! .
أقسم بأغلظ الأيمان ، أنني – حتى الآن – لا أ ستطيع ردم الحفرة التي حفرتها في مخي نظرة ابراهيم الشامتة حين رآني أخرج حاملاً كتبي من الصف . حاول أن يقترب مني ، فابتعدت عنه ، وفتحت جزء عمّ الذي كان معي ، ورحت أقرأ في الساحة بصوت عالٍ جداً .. وإذا بالمعلم يناديني . نظرت إلى ابراهيم نظرة متشفية لاعتقادي بأن المعلم ناداني ليدخلني إلى الصف ..ولكن..ما ان وصلت إليه حتى قال : “أعطني القرآن” .
قلت :” ولكنه كتابي ” فمدّ يده إليه وسحبه من يدي بأقسى ما يستطيع !لم أدخل بعدها درس الدين .. ولا نظرت في وجه ابراهيم حسقيل .. ولسنوات طويلة ظل قلبي يقطر مرارة من كراهية ذلك المعلم .
ومرت الأعوام .. وولعت بالآداب وبالشعر ..ثم تخصصت بهما . وعبر كل هذه السنين ، كانت لغة القرآن دليلي .. وكان أدبه زادي . أكانت ردة الفعل أنني شغفت بقراءته ، وحفظه ، وسماع تجويده ؟ .. أم هو حب الأدب واللغة في أعلى مظاهرها ؟ .
كتبت مرة مقالاً لم يُنشر ، فحواه ( لا تحرموا أطفالنا من درس الدين ).. والخطاب هنا موجه إلى وزارة التربية والتعليم .. وذلك لأنني أعتقد أن قراءة القرآن ، وحفظه في الطفولة ، يهيّء الطفل تهيئة مبكرة للتأدب بآدابه ، ويسهم مباشرة في تكوين ضميره .
لقد جاوزت الثمانين ، وأنا أكاد أبكي كلما تذكرت قوله تعالى ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .. لفرط حنيني إلى تلك الأيام ، وهذا العمر البريء الذي حفظت فيه هذه الآية الكريمة.. ولإحساسي – وأنا أب وجد – بحاجتي إلى حنان أبي وأمي !! .


















