كلام مسموع
حسن النواب
بعد وصولي إلى الأردن في منتصف شهر شباط من عام 2001، شعرتُ أنَّ الريش بدأ ينمو على ذراعيَّ وبوسعي الكتابة من دون خوف، لقد أصبحتُ حرّاً برغم قلقي على عائلتي التي تركتها هناك، وما سيحدث لها من مضايقات أمنية نتيجة نشري مقالات جريئة تكشف عن بطش وجرائم النظام السابق، لم تمض إِلاّ ثلاثة شهور حتى حصلت على لجوء من منظمة شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وكان قبولي كلاجىء بهذه السرعة، قد شكّل مفاجأة لدى أقراني من الأدباء والفنانين الذين تم رفضهم أو تأخر قبولهم، برغم وصولهم إلى الأردن قبلي بسنوات؛ وبدأتُ أتعرف عن كثب على أحوال العراقيين الذين تمكنوا الفرار من بطش النظام السابق، إِذْ كانوا يتجمعون بكثافة في منطقة حيوية تقع بقلب العاصمة عمّان وقريبة من جامع عمّان الكبير، أطلقوا عليها مثلث الــ UN؛ تراهم هناك عند الغروب يتهامسون فيما بينهم حول آخر المستجدات التي طرأت على حياتهم ويتحدثون بحذر عن أحوال البلاد التي فرّوا منها، ومن خلال أحاديثهم يمكن أنْ تعرف آخر من سافر كلاجىء الى دولة ما، وآخر من تم قبوله في منظمة شؤون اللاجئين، ليس هذا فحسب، إنّما تكتشف حقيقة هروبهم من الوطن، فليسوا جميعهم وصلوا إلى الأردن نتيجة معارضتهم للنظام السابق، بل هناك نسبة كبيرة منهم جاءوا بحثا عن عمل يؤْمنون من خلاله لقمة كريمة إلى عوائلهم التي أطبق عليها الحصار بقسوة داخل الوطن، وهناك فئة منهم هربوا بسبب ارتكابهم جرائم جنائية أو عمليات نصب وتزوير، معظم هؤلاء قدموا طلباتهم إلى منظمة شؤون اللاجئين، وراحوا يبتكرون قصصا بطولية مزيفة لمقارعة النظام السابق أو حكايات مأساوية مفتعلة أملاً بقبولهم كلاجئين، نجح البعض منهم في مسعاه وأقنع المحامي الذي قابله بقضيته بينما أخفق كثيرون، ناهيك عن ابتزاز فاحش كانت تتعرض له بعض العوائل العراقية حتى يتحقق قبولهم كلاجئين، أعرف عائلة وهبت كل ثروتها إلى متنفذين في منظمة شؤون اللاجئين حتى تحصل على توطين في دولة أوربية، بينما لجأت بعض العوائل العراقية الميسورة إلى عقد صفقات سرية مع بعض اللاجئين، يتم من خلالها اقتران بناتهم بأولئك اللاجئين بعقود زواج زائفة مقابل حفنة دولارات، وبذلك يمكن لهم السفر، وحالما يحط رحالهم على أرض الدولة التي تستقبلهم كلاجئين، حتى يذهب كل منهم إلى سبيل حاله، وتصبح عقود الزواج الكاذبة في طي النسيان. في مثلت الـــUN هذا، يمكن أنْ تتلقى طيبة ومحبة لا متناهية من أناس أغراب لا تعرفهم، ويمكن أنْ تتعرض إلى سفالة ونذالة لا حدود لها من أقرب الأصدقاء، قد لا يصدّق القارىء أني بقيت أكثر من سنة ونصف أعيش على حساء عظام دجاج يطلقون عليه تسمية « أقفاص» مع فتات خبز رديء، وحتى لا يفتك بي الجوع كنت أتناول تلك الوجبة على مضض أمام أنظار أصدقائي من الأدباء « المناضلين « الذين كانوا ينعمون برغيد العيش وبرواتب مغرية من جهات سياسية تُسمي نفسها بالمعارضة، بل وصل الأمر أنَّ أحدهم اشترى أمامي مالذ وطاب لعائلته ولم يسألني إنْ كنت قد تناولت وجبة عشائي التي لا يكلّف ثمنها ربع دينار أردني؟ وكنت أتوقع ذلك الجفاء وحرباً خفيّة ضدي من هؤلاء الأدباء الفاشلين، لأنَّ وجودي في الأردن سبب ضيقاً لهم، فهم يعرفون صراحتي التي تحرجهم، خاصة أولئك الذين امتهنوا الكتابة وهم لا يمتلكون أدنى مقوماتها، وماأكثرهم في الأردن في ذلك الوقت، وكنت أراهم أمام مقهى السنترال، مثل خدم أذلاّء يحيطون بمسؤولهم الثقافي وولي نعمتهم الذي يشبه الدُب، لقد حرص على بقائهم حوله وأبعد بنذالة عن محيط عمله كل من يتمتع بموهبة أدبية تتفوق عليه، ولولا مكافأة جريدة الزمان ومعونات صديقي علي السوداني بين حين وآخر، لما قاومت البقاء في الأردن، لكن موقف ذلك الدب الثقافي تغيّر قليلا بعد وصول عائلتي بسلام، ربما لاقتراب سفري إلى أستراليا وللتكفير عن حقارته التي مارسها ضدي وبمساندة منقطعة النظير من خدمه الأدباء الفاشلين، لقد انتصرت عليهم جميعا بصبري وعنادي، وسحقت جميع مخططاتهم الخبيثة تحت قدميَّ وانطلقت بثقة إلى الأمام، وهم يعرفون أني مصدر قلق لهم حتى هذه الساعة، مثلما هناك أدباء مزيفون في الوطن لا يتمنون عودتي، لأن حضوري أمامهم سيضعهم في حرج ويكشف عن حقيقتهم الفاضحة، لقد تذكرت مثلث الـــUN بوقائعه الغريبة والمؤلمة والتي لم أتطرّق إلاّ لمواقف معينة منها في هذا المقال، حتى لا يظن أولئك اللا أدباء أنَّ ذاكرتي قد وّهَنَتْ، بل سأفاجئهم بما لا يتوقعونه عندما أنتهي قريباً من روايتي حياة سافلة التي تسلط الضوء على حياة العراقيين في سنوات المحنة تلك، وتكشف عن حقيقة الأدباء الذين انخرطوا مع جهات سياسية معارضة، طمعاً بمغانم دنيئة وتافهة، ولم يكن هناك أي همٍّ وطني يحملونه في ضمائرهم، والبرهان أنهم عندما عادوا إلى الوطن بعد سقوط الصنم، ظلوا مخلصين لانتهازيتهم ولمنافعهم الشخصية ولوضاعتهم وبتملق ذليل يندى له الجبين، ألا بؤساً لهم.