لقاء مع الزمن القديم
أمير علي الجشعمي
اختفت الشمس وراء البيوت.. وأشارت عقارب الساعة إلى الخامسة.. في ذلك الوقت خرجت من احد البيوت نساء موشحات بالسواد وأخذن يتفرقن في الأفرع الغارقة بمياه المطر.. انتهى أخر يوم من العزاء شهده هذا البيت.. وعندما انتصفت الخامسة خرجت كل النساء المعزيات وأقفلت الباب بالسلاسل والإقفال الحديدية.. في ذلك الوقت وقف عند بداية الشارع الذي يقع فيه ذلك البيت رجل كبير السن خفيف الشعر،حليق اللحية،أشقر الشارب،أنيق الملبس.. وقف يراقب البيت منذ الظهيرة ينتظر هذه اللحظة.. لحظة خلو البيت من الزائرين المعزين.. بعد إقفال الباب بعشرة دقائق تقدم على قدمين مرتعشتين وعصا ممشوقة.. ازدرد ريقه ومسح جبته بمنديله.. تشجع.. تقدم وطرق الباب عدة طرقات.. ظهرت من داخل البيت امرأة شابة مسربلة بالسواد محمرة العينين ضعيفة الهيئة.. تقدمت نحو الباب وسألت
ــ من الطارق
ــ أنا
ــ من أنت؟
ــ هل السيدة الكبيرة في الداخل؟
ــ من نقول لها؟
ــ صديق قديم للعائلة لو سمحت..
كانت تسأل باستغراب ويجيب الرجل بتلعثم وارتباك واضح..
إزالت الشابة السلاسل من الباب وفتحته وقبل إن تتوجه لتنادي السيدة أشارت له بالانتظار في غرفة الجلوس التي لم يقفل بابها بعد
دخل الرجل الضيف وجلس ينتظر.. ينتظر.. حتى دخل من الباب امرأة عجوز تجاوز عمرها الستين تتوكأ على عصا سوداء ترتدي جلباب اسود مبلل صدره من الدموع وعصبة سوداء شدت فوق رأسها الذي اعتلاه حقل من الشعر الأبيض الناصع الذي لم يدع للشعر الأسود نفوذ في إمبراطوريته العتيدة..
نهض الرجل ووقف ينظر بعينين تقرأ فيهما نظرات الشوق والفرح والاشتياق.. تشبه تلك النظرات التي تصدر من طفل طال انتظاره بلعبة احضروها له.. قابلتها نظرات استغراب وشك بسابق معرفة صادرة من عينين متعبتين من البكاء والسهر
ــ البقاء في حياتك يا فاطمة
الكلمة الأخيرة جعلت المرأة تزداد استغرابا وعجبا
ــ البقاء لله.. هل تشرفنا بالمعرفة سابقا؟
وهنا تقلصت عيناها وثبتتهما بعينيه .. حينها توقف الزمن أو بالأحرى عاد إلى الماضي البعيد.. حين جلست فتاة دخلت في عقدها الثالث بملابس أنيقة قصيرة أمام شاب يافع يطابق عمرها أنيق الملابس يتدلى من عنقه سلسلة ذهبية تنتهي بصليب
تهاوت المرأة على إحدى الكنبات خانتها قدماها قالت
ــ أما زلت تذكرني.. يا.. يا ادوارد
ــ مستحيل أن تكوني أنت نسيتني
ــ لا.. أبدا لن أنساك..
قامت من مقعدها فورا واتجهت نحو المكتبة في الغرفة وفتحت إحدى جراراتها وأخرجت منها علبة صغيرة.. فتحتها وأخرجت منها صليبه.. ابتسم الرجل.. مد يده في سترته واخرج منها سلسلة فضية تنتهي بمستطيل صغير كتب عليه أحرف جعلها الزمن غير مرئية.. ابتسمت العجوز.. في تلك اللحظات هبت رياح النشوة المنطلقة من لقاء طال انتظاره فقشعت غيوم الحزن السوداء التي كانت مستعمرة سماء هذا البيت..
ــ أية الكرسي؟
ــ اجل أية الكرسي .كل ليلة كنت أمسكها بيدي وادعي من الله أن أراك قبل أن أموت..
ونظرت إلى نفسها وضحكت ضحكة سخرية
ــ لو جئت في وقت أخر لكنت تراني على حال أفضل
ــ لا.. أنت كما تركتك من ثلاثين سنة.. رائعة دائما.. دائما
/9/2012 Issue 4306 – Date 17 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4306 التاريخ 17»9»2012
AZP09















