قصة قصيرة (1)

قصة قصيرة (1)
أمنية قحطان
وصلت قرية ( باب الهوى ) وباشرت معلما في مدرستها استقبلني مديرها بحفاوة وتقدير فهو رجل طيب كيس من عائلة لها مكانتها الاجتماعية الحسنة كان ذلك في الشهر الأول من فصل الخريف .
الريف آنذاك جميل صنعته الطبيعة ريف الحقول والشجر والنهر يتلألأ بالجمال ويبعث الحياة تنبض في عروقنا حين نستنشق هواءه ونسر بخضرته التي تغمر نفوسنا . تقوم المدرسة في طرف من أطراف القرية غافية على نهر عريض . تسترخي أكواخها المكتظة على جانبيه تنساب مياهه بهدوء بين حقول الشلب مارا بعشرات القرى والمضايف العامرة بأهلها والمصطفة بنسق واحد باتجاه ( القبلة ) ومن ثم تصب مياهه الغرينية في أهوار السلام .
عهد لي مدير المدرسة تدريس الصف الثالث ومادة الرسم … دخلت الصف بحيوية ونشاط شبابي .. كان عدد التلاميذ عشرين تلميذا .. تعرفت عليهم بعثت فيهم روح المحبة والتآلف والعمل والحركة والأمل .
مرت الأيام وكانت الحصة التي دخلت فيها الصف مادة الرسم .. كلفت التلاميذ برسم النهر والقرية وزوارقها . فجلب انتباهي التلميذ ( قحطان ) وهو يرسم زورقا تتقاذفه الأمواج يمنة ويسرة والزورق يصارع الموج بلا ركاب في نهر ارتفعت مناسيبه سألته : –
– أين صاحب الزورق ؟
أجابني ببراءة وعفوية وثقة بالنفس : –
– لقد قطعت الأمواج العاتية حبله ولم يعلم به صاحبه .
ابتسمت بإعجاب لجوابه السريع وأردفت سائلا :
– أرى لون الماء أحمرا في رسمك ؟
أجاب وبسرعة وبدون تصنع أو تكلف : – لون الماء الفعلي وفي كراسة رسمي نفسه لأن مياه الفيضان المحملة بالغرين حولت اللون الأزرق للماء إلى اللون الذي تراه في الصورة ..
دهشت لأجابته الذكية وخياله الخصب واعتبرتها مؤشرا لموهبة مخزونة .. تابعته باهتمام مشجعا وموجها على اعتماد المبادئ الأساسية في رسم مختلف المواضيع وطريقة استخدام الألوان ومزجها .. حتى وصل الصف السادس .. فجرت طاقاته بعد اكتشاف مواهبه .. فأصبح من فناني المدرسة .. يشارك في رسم اللوحات الفنية والبوسترات والنشرات المدرسية وله مساهمات متقدمة في المعارض الفنية التي تحصل عليها مدرستنا المرتبة الأولى ..نال جوائز عديدة من المسؤولين ومن مديرية معارف اللواء للابداعات الفنية التي يمتلكها ويستثمرها كان ميالا للتمثيل واشترك في الفرق التمثيلية المدرسية ونجح في أداء أدواره انتقل إلى المرحلة المتوسطة .. وتصاعد النمو عاليا .. وصقلت فيه موهبة التمثيل.
كانت علاقتي بوالده متينة خلال سنين خدمتي الثلاثة فكنت أزوره ويبادلني الزيارة .. فأتناول في حديثي مواهب ( قحطان ) وذكاءه وميوله الفنية .. إلا أنني أدركت بأنه لا يميل إلى الاتجاهات الفنية الحديثة بل كان محافظا تقليديا من المدرسة القديمة –
أعرف له أخا مدرسا في ثانوية ( العمارة) الأستاذ (حسين) رجلا جليلا بهي الطلعة هادئ الطبع خافت الصوت محترما بين زملائه وأصدقائه وطلابه ذا عقلية متنورة متحفزة دائما إلى الأمام يؤمن بأن الحياة الصالحة تتجلى بالحركة والتطور والتحفز … إلتقيت به في نادي المعلمين .. عصر يوم ربيعي جميل وفي حديقة النادي البهية بأزهارها العطرة وأشجارها الباسقة .. وخلال أحاديثنا الاجتماعية والتربوية .. سألته عن أبن أخيه (قحطان) فأجابني بزهو وإعجاب :
– إنه طالب مجتهد في دروسه ومجد في عمله وتعجبني ميوله ومواهبه الفنية .. وكان الفضل لك في الابتدائية .. فقد اكتشفت مواهبه مبكرا وشجعته وجعلت منه رجلا …
أجبته : –
– هذا واجب المعلم المخلص – ولكن والده لا يميل للفن بكافة أنواعه ويعتبره عيبا ومنقصة لسمعة العائلة .. ويصل به الأمر إلى درجة تحريمه
حاولت إقناعه لتشجيع ولده ولكن محاولاتي باءت بالفشل ..
حان موعد العودة إلى البيت .. فطلب مني الأستاذ ( حسين ) زيارته في منزله مساء الجمعة .. لبيت الدعوة .. وجدت ( قحطان ) هناك .. دعاه عمه للجلوس معنا ..
سأله عمه : –
– إحك لي عن مواهبك .. وحبك للفن والتمثيل .. كيف تعلقت به ؟
أغمرنا في جو الفن .. حدثنا عنه وأول عهدك به ؟
أجاب ( قحطان ) بهدوء وإحاطة تامة بالموضوع قائلا : –
– يا عم لو فتحت هذا الموضوع فلن ينتهي حتى وقت متأخر من المساء .
– قال له عمه : – فليكن ..
بدأ ( قحطان ) حديثه الفني الرائع ونحن نستمع إليه باعتزاز :
– لست أدري أن أسمع وقتئذ من أصدقائي عن مسلسل (تحت موس الحلاق) فذهبت معهم لمشاهدته ..
– ما أدهشني من روعه الأداء ونقاء الأهداف .
واصل حديثه بالقول :
– وتابعت المسلسلات والتمثيليات الاجتماعية الرائدة واكتسبت من ذلك مزيدا من المعارف الفنية رفدت ما لدي من مواهب متوثبة .
وترسخت شخصيات الفنانين في ذهني وكانت السينما العراقية والعربية قد زخرت بشواهد عديدة من أدوار الفنانين الكوميديين في مرحلة الستينات فبقيت أتابع الدراما والسينما والمسرح بلا إهمال لدروسي أو انصراف عنها فأنا من المتفوقين علميا ويعرف بذلك أستاذي الفاضل (احمد) واستمر يحدثنا عن سيرته الفنية وعمه يشجعه ويثني عليه.. قال:
– أعجبت بفنانين عراقيين وعرب مبدعين وتأثرت بفنهم المتألق .. لم نقاطعه واستمر كالسيل يدفع بموجبات فنية أمامنا وكأنه من كبار الفنانين .. فاستدرك بألم ومرارة قائلا : – مرت الأيام هكذا والوالد لا يشجعني .. بل يوبخني على إتجاهاتي الفنية ويعد ذلك كارثة لي وللعائلة .. حاولت إقناعه عدة مرات بصحة وسلامة هدفي لكن محاولاتي ذهبت أدراج الرياح … نظر الأستاذ إلى ساعته فوجدها قد تجاوزت العاشرة مساء .. تناولنا العشاء في داره وانصرفت بوعد منه أن يقوم بزيارة لأخيه في الريف .. للتفاهم حول الموضوع ..
في عطلة آخر الأسبوع حل الأستاذ (حسين) ضيفا عزيزا مكرما عند أخيه (أبو قحطان) كنت وقتها في المدرسة فدعاني لتناول العشاء معهم .. كانت أمسية حرة طليقة تمتع بها ضيفنا الكريم بجو مفتوح وهواء جديد دائما لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها ولم تحبسه الأبنية الشامخة بحيطانها الأربعة تتجدد النفس فتجدده وتمتلئ نشاطا من نشاطه .. وفي تلك الأمسية تسامرنا وتبادلنا الأحاديث الحياتية الخاصة والعامة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية ..
بدأ الأستاذ (حسين) حديثه عن أهمية تربية الأبناء وتوجيههم ومعرفة مواهبهم ابتغاء التشجيع فقال :
– كم في الحياة من مواهب وعبقريات تضيع لأنها لم تصادف من يهتدي إليها ويساعدها على الظهور إذ ليس العظماء من الفنانين والأدباء الذين ظهروا إلا أصحاب عبقريات انتبه الناس إليها وصادفت جوا ملائما وأرضا صالحة فخرجت للوجود .. وليس هؤلاء العظام إلا قليلا من كثير غمرهم النسيان وضيعهم الإهمال .. واستطرد في القول : –
– ولعل أتعس ضحايا العبقريات هم الذين لا يجدون نشأة حسنة من طفل لا يشجعه أهله أو ذكي موهوب لا يقدر أن يحقق أمنيته . وأرضنا ما شكت يوما قحط العباقرة ولكنها تشكو الإهمال والتشجيع والمساعدة .فلآلئها تبقى مطمورة وأزهارها تظل ضائعة ..
استغرب (أبو قحطان) حديث أخيه فأجابه بانفعال وتزمت :
– هذا ما دفعك به ولدي العنيد هل تريده أن يكون (رقاصا) أو ..
كل هذه الأمنيات استهجنها وأرفضها .. أريده أن يستمر في دراسته ليحتل مكانا مرموقا في المجتمع أفتخر وأتباهى به.
/9/2012 Issue 4295 – Date 4 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4295 التاريخ 4»9»2012
AZPPPL