قصة قصيرة .. راويا

للحظة ما اكتشفت بأنني مخدوعة ، ما أصعبها من لحظة عندما تكتشف بأنك كالقمامة مرمي على أرصفة الطرقات ، يدوس عليك الجميع ولا يبالون ولا حتى ينتبهون هنالك إنسان يعاني من شتى الآلام ، الم الحسرة وألم الفراق وألم الحب وألم الخداع ، جميعها تتداخل لتشكل عندك نسيج من مرارة عدم اللامبالاة .

لا تقولي هكذا يا راويا أنت ما زلت بأمان ، …… اعلمي وتيقني بان الطفل لا يستطيع المشي دون العثرات ، كلما تعثر أكثر كلما تعلم على السير بشكل أسرع ، الإنسان صنع التجارب لا صنع نفسه ، جميعنا ننخدع ونخوض التجارب ذاتها .

لكن هذا الخداع يختلف ، كان قريب من قلبي بل كان ساكنه .

أتظنين إننا ننخدع من الأغراب؟ كيف ننخدع منهم وهم لا يعرفوننا …… تعلمي يا راويا من هذه التجارب فستصنع منك إنسانة .

على رسلك يا رجل ، أنت تتكلم عن شيء لا تشعر به ، بماذا سيفيدني التعليم ، لقد فقدت قلبي ، أنت تطلب مني كمن تطلب من شخص فقد احد أطرافه واستعاض بدلا منها بطرف صناعي فيظن بأنها حقيقية .

مع مرور الوقت ستنسي أو تتعودي على هذا الوهم ، أتعلمين بأن من يفقد أي طرف من أطرافه يبقى يشعر بوجوده وربما يشعر بألم في ذلك الطرف المفقود أو حكة مع انه ليس له وجود وهذا ما يسموه بـ

(phantom limbs) .

وهل سأبقى اشعر به ، اهو الجحيم ، إنها أوديسة حياتي ، يا لي من مغفلة كيف سمحت لباب قلبي أن يكون بلا مزاليج .

ولماذا كل هذا التأنيب لذاتك ؟ أنت لم تقترفي أي ذنب وأي خطأ سوى وثقت به .

وهذا هو ذنبي ، وثقت بالآخرين ، لقد اكتشفت للحظة ما ، ما أنا إلا سوى اسم مرصوف مع أسماء من عرفهن من قبلي ومن بعدي ، لقد احدث لي إرباك وشعور بعدم الثقة من الآخرين .

لا تقعي بخطأ آخر ، أنت لا تثقين بالآخرين ومن ضمنهم أنا .

عذرا سأضطر إلى إنهاء الحديث .

كلما وصلنا لهذه النقطة من حواراتنا المتكررة تنسحبين ، لأنك متشبثة في الماضي الأليم ، لقد أصبحت في يوم ضحية وما زلت تلعبين هذا الدور ، لا تريدين الخروج من عنقها ….. تبا له ولماضيه ، تخلصي منه وابحثي عن مستقبلك .

بعد  كل حديث يجمعني براويا تعصف بي زوابع من الكوابيس  والشجون والحسرة والغيرة ، أيعقل أن يكون في هذه الدنيا شخص كراويا يحب بهذه القوة !؟ …… وهل يعقل أن يتألم كل هذا الألم !؟ أي وغد ذاك الذي تخلى عنها ، كيف استطاع التخلي عن هذا القلب الرقيق ، الم يتعرف عليه بعد كل هذه المدة ، هل يعقل أن لا يعرف قلبها جيدا ، من المستحيل أن لا يعرفه ، فلماذا سحقه ، لا يجدي الاستغراب نفعا هنالك أشخاص كالبعوض لا يعيشون إلا على دماء الآخرين .

وأنا !؟ ما هو دوري ، هل ارغب بمساعدتها لمجرد صديق كما ادعي أم اكذب على نفسي ، ولم كل هذه الهواجس التي تنتابني؟ ، بعد كل حوار أقف وحيدا منتصبا كشجرة السرو في الشتاء عند نافذة الشباك وانظر إلى اللا شيء إلى فراغ ابيض ليس له بداية ولا نهاية ، أتلاشى بين الأثير كذرات الندى عندما تتلاشى عند أشعة الشمس ، تأخذني مطبات ودوامات من الأفكار العشوائية ، أيعقل أن أحبها بقدر ما تحبه ؟ ولماذا أعاقب أنا بجرم اقترفه شخص ما لا اعرفه ، أيخطئ هو وأنا من يدفع الثمن ، أم إني وجدت بها مجرد شخصية من الشخصيات التي اكتبها .

تبا للكتابة ، يا لها من لوعة ، كل شخص يحترق من داخله الا الكاتب فهو يحترق من الداخل والخارج ، تختلط عليه الأمور وربما يكون كالراعي العطشان يظن من السراب ماء عذبا ، يبقى يجري ورائه ، يعرف بانه سراب لكنه مصمم على البحث عنه .

أصبحت في الآونة الأخيرة أتخيل شكله ، سكنني بعد أن سكن قلبها ، أفكر به بقدر ما تفكر هي به ، أمنيتي التعرف عليه ، تارة أتخيله في غاية الأناقة الوداعة وتارة اخرى أتخيله غول ، ماموث من القرون السحيقة ، أو خفاش لا يعرف الطيران إلا في الليالي.

تقول بأنك صديق وأنا موافق على هذه الصداقة رغم تطلعي الشديد لأمد خيوط أخرى تربطني بها أكثر من الصداقة لكني اكتفيت بطلبها ، عند إصغائي وموافقتي لهذا الطلب اشعر بأنني كالطفل الذي يعوضونه بزجاجة الحليب بدلا من ثدي أمه.

طوال اليوم أضع التساؤلات والأجوبة وغالبا ما أعطي لها الأعذار فنحن نمنح الأعذار لمن نحب ، ربما عثرت عليها بوقت غير مناسب ، وقت ليس لي ، في وقت أصبحت راويا كطائر القطا في سنين الجدب ، تكون حذرة أكثر من أي وقت آخر ، لأنها تعرف بفتك الإنسان ووحشيته .

من الخطأ أن ننسب كل شيء لذواتنا وان نفهمه بنظرنا نحن فقط ، فالسنة عندنا تقاس بالأيام أي بعامل الزمن بينما السنة الضوئية تقاس بالكيلومترات أي بعامل المسافة، فلا يجوز ان أفكر او أعطيها آراء تناسب مشاعري وتفكيري ، سأكون بهذه اللحظة أنانيا .

لا يستطيع ان يعيش الكاتب دون الم ، الألم هو غذاؤنا الوحيد من دونه لا نتواصل في الحياة ، زادنا المأساة واللوعة هنالك أشخاص كهرقليطس وزينون والشاعر الصيني لي بو والرسام فان جوخ وغيرهم الكثير الكثير ذكرهم التاريخ فعلوا أشياء مريبة بأجسادهم وبحياتهم لكي يخلقوا مأساة وألام في حياتهم لكي يتمكنوا بمواصلة الحياة.

لا احد يفهمني سوى غليوني وقهوتي ، وغالبا ما أقول بان الآلام او ألمآس او الحياة بصورة أكثر شمولية كالقهوة فهي مرة لكنها لذيذة ، جميعنا يحب ان يلعب دور الضحية ، الضحية هي من تكسب قلوب الآخرين ، ترى ماذا سأكون من دونها ، من دون راويا ، ماذا لو سمعت بأنها ارتبطت بشخص آخر وأصبحت عنها غريبا ، هل سأدعها خلفي وأسير كالمهاجر عن بلده لا يريد النظر للخلف لئلا يتقهقر ويعود ، فهو طرد من بلده لكنه متشبث به ، يصعب علي ان اتخلى عن الذي اباح لي باسراره ووجدني ملاذه.

 الوفاء شيء مقدس فلنكن اوفياء ، اوفياء اكثر من الكــــــلاب ليس الكلــــــــــب وحده هو الوفـــــــي فعلينا اذن منافسته.

بعد ان أضناني التفكير بها بدأت افكر بالشخص الذي ستكون معه ، ولو أتى هذا اليوم عندها سأكون كصرصار لا يريد ان يرى الاخرين ولا هم يرغبون برؤيته ، حياته تحت المدن وتحت الحياة ، حياته وعدمه سواء ، لا يجلب سوى التقزز ، ساكون لعبة بالية حتى الاطفال لا يريدوها ، ساكون كفزاعة قديمة في مزرعـة اعتادت الطيور عليها وأصبحت تحط عليها بعد ان كانت ترعبها .

سيف شمس الدين الالوسي-  بغداد

مشاركة