ليلة ماري الأخيرة وكوميديا المأموريات (1-2)
قصة بورترية لإمرأة مجنونة – نصوص – نعيم عبد مهلهل
( كم ليلة دارت بقامتها الجميلة فوق تلك المسارح ، ألف ليلة وليلة ؟ كلا أكثر .لقد فاقت شهرزاد التي لو التقت بها لقالت لها :أسلمكِ أيتها الأخت المبجلة أنت وحدك الكفيلة بأدارة الرؤوس )
هل كان يولسيس في مأمورية ، فيكون جواب كافافيس:
إيثاكا منحتكَ الرحلة الجميلة.
لولاها ما كُنت شددتَ الرحال.
وليس لديها ما تمنحكَ اياه أكثرَ من ذلك.
( خاطرة من ايام الجندية )
أضع ايثاكا كرؤيا في شغفي لقراءة كتب نجم التي ارسلها إلي بالبريد ( دي أج أل ) ، ولا أريد أن أبتعد بفاصلة الازمنة بين قراءاتي الاولى لما تيسر من رواياته أيام الحصار ، فمتى اعود الى قصص نجم ورواياته ينتشي معي الجفن ولذة القراءة ، وكل الذي أمتلكه أنني استعيد مكاني وزمني وذكرياتي التي تركتها هناك.
فالحكايات التي يشهرزدها في ليل جعة البافاريا هذا السومري القادم من ظلال افق قرى القصب وبيوت الحضارة الجنوبية ( عماريا ) يجلب لي أيثاكاه الخاصة الممتلئة بهاجسها السري والخفي ، وتلك المشاعر الغامضة لهوس الروح في بوحها وملامح شخوصها واغلبهم هم هؤلاء الذين دفعهم قدر الولادة ليشبوا وينضجوا ويتخرجوا في الزمن الذي كانت فيه بلادهم تخوض حروبها الطويلة والمتكررة.
أتذكر أخي المرحوم ( عبد اليمة ) وكنت حينها صبيا واردت أن استعير منه رواية تولستوي الحرب والسلم . قوله : هذه الرواية لمتعة الجنود .فتركت قراءتها لأنني لم أكن سوى طالب في الثاني متوسط . لكني بهذا العمر لو كان عندي اخ بعمر المتوسطة ويحب القراءة لدفعت اليه روايات نجم والي وقلت له : خذ أقرأ لتتحاشى ان لاتذهب الى الحرب .
وعندما يجيبني وكيف .؟
حتما اقول له : هناك نافذتان للهروب من الحرب ، أما أن تكون هارب من الجندية ، او تختار المنفى.
أدفع بخطوات غربتي ، وأحمل ما تبقى من أرث الحنين فأجده يتلاشى في أفق الحدائق وكورس تعليم اللغة وتأمل الوجه الملائكي لموظفة السوسيال .
يجمعك القدر ، وشيء من سعادة المكان عندما تجتمع ملائكة الجنوب في النقطة التي نستطيع فيها استعادة ما تهدم من اسيجة الروح لتبدأ مع أول مراسيل نجم بكتاب قصصي شدني عنوانه فتخيلت أن صاحبي حين طال به المقام هنا ( هامبورغ ) قد تأثر بعوالم هنريش بول وتوماس مان غونترغراس ، وابتعدَ عن ملائكة جنوبه ، وعوالم الاثيرة لينسج حكاياته من عالمه الجديد.
أخترت مكانا منزويا في حديقة مدينة ( زولنكن ) العامة القريبة من بيتي حيث أعيش ، وعلى اريكة من خشب البلوط وتحت شجرة هائلة يسقط ظلها البارد على أوراق الكتاب فيحدث شيئا من السماع اللذيذ بين الحروف وحفيف ورق الشجرة الاخضر.
أقرأ في قصص ليلة ماري الأخيرة لنجم والي ، ومع اول قصة ( قصة هروب جندي عادي ) أشعر بأرتياح : نجم هو ذاته نجم ، وملامحه التي نشرها لصورة بورتريت له بالأسود والابيض على الغلاف ، هي ذاته الملامح القادمة من شكل الوجوه البعيد للجنس السومري الذي صنع الحلم قبل أن يصنعَ الحرف ، وصنع الوتر قبل ان يؤلف الأغنية ، هو ذاته نجم كما آدابا يحمل المردي ويدفع فيه زورقه للوصول الى مصاطب الالهة والتحاور معها حول الوجود البشري.
المجموعة القصصية ( ليلة ماري الاخيرة ) ، هي متناظرات المشاهد في تنوع الحياة في العالم الجديد ولكنها أبدا تتخلى عن مرجعيتها الروحية ، وظلت لصيقة بهاجسها هناك ، وكأنه بات يؤمن أنه هنا في انهر الجعة البافارية عليه أن يظل ماسكا لإرادة آدابا وأن الهته الجرمانية عليها أن تدرك جيدا أن لن يستطيع ابدا خلع ثوبه المقلم وسحر تلك البيئات التي صنعت المحنة والدمعة والاستمناء ورهبة الموت في النعوش الوافدة الى مقر كتبة الاستمكان في الحرب التي خلدَ فيها نجم أحساس المكان وجمالية الخوف والشهوة فيه قبل اي شيء آخر.
قصة هروب جندي عادي تمثل تنازع الذات في جعل الموت سببا للفسحة والتخلص من جحيم الحرب. من خلال أحلام في اخلاقياتها تبدو شاذة ومجنونة إلا أنها في طبيعتها ومفارقتها تمثل بعضا من خواطر الحرب والافكار التي تسكن رؤوس الجنود ومنها ما يقوم به البعض من الجنود بأطلاق النار على اقدامهم من مسافة قريبة ليدعوا الاصابة والحصول على أجازة طويلة للتخلص من الحرب وجحيمها.
تأخذنا قصص نجم الى عوالم نقترب منها وتقترب منا بمقدار متساو بسبب ان الحرب تغطي بسحابتها كل الرؤوس ، فهي قريبة في التفاصيل بما نتخيل من تركات الذاكرة حتى لو كانت تحدث في الامكنة الصاخبة والخطرة .
كشف ومعايشة
أنه ( نجم ) يستعير من الذات الكاكية مسارا للذهاب والكشف والمعايشة مع جيل كامل من المعاناة والخوف والنزوات وشهية التخيل ، وحتما هو يتحدث دائما عن شخصية مثقفةٍ تتحسس ماحولها ، عنف الحرب ، جمال النساء ، الصديق المهمش ، الآخر الشاذ والسياسي القاسي.
هو لايفترض عالمه ، بل يعيد صياغة وقائع حياتنا ، وأهم ما يفعله أنه يقترب من احساسنا العميق الذي كان يسكننا أيام الحرب والخوف من مأموريات الجنود وهم يصبحون نعوشا لأخوة وأصدقاء لنا ذبحوا في الحرب.
وربما ( قصة هروب جندي عادي ) تقترب من ذلك الاحساس الذي كان يسكنني في طفولتي يوم كانت تأتي تلك النعوش الينا في أواخر الليل أيام حرب برزان في السبعينات من القرن الماضي عندما كان أخي المرحوم عبد اليمة 1953 ــ 2008 يخدم جنديا في الفوج الاول السرية الثالثة من اللواء المشاة 36 .
وكانت منطقة رانية واحدة من جبهات الشمال المخيفة عندما كان البيشمركه يصطادون شبابنا برصاص بنادق البرنو وهم مختفين ومتربصين للجنود في مكان خفي في خاصرة الجبل يطلقون عليه اسم ( الاشكفته ) فانتشرت وقتها تلك الاهزوجة التي انشدتها امرأة ميسانية من أهل العمارة عندما هزجت حين رأت نعش ولدها يجلبه جندي من ذات فصيل ابنها بقولها :
( طركاعه الفت برزان ..بيس بأهل العمارة ) وترجمتها من العامية العراقية هو : أن صاعقة تنزل على رأس البرزاني لأنه اوغل قتلاً بأبناء مدينة العمارة.
صورة المأمور في قصة نجم تحمل حسا شخصيا مرتبكا في الحرب قد تكون حرب برزان قطرة في بحر بالنسبة لها .
حين تكون النهاية فاجعة أن يكون المأمورية القادم هو محمد صديق بطل القصة الجندي ( سعدون خلف ) الذي كان على موعد معه ، والذي نال من مبيته معه في بيتهم نظرة غرام وقبلة من اخته الهام.
ليعيدنا نجم وبعيدا عن حجم مأساة فقدان الى ايروتيكته المعتادة والتي كانت فعلا تسكن بشهواتها اجساد جميع الجنود ، لنرى ذلك الجندي العادي ( سعدون خلف ) ذي الرقم657238 . يرسم خيال امنية لقاء مع الهام اخت صديقه :
(( سألتقي بها . سنذهب الى متنزه عام او الى السينما .يقينا سنذهب لرؤية فيلم هندي أو مصري ، وسأجلس بجانبها ، سأحاول تقبيل شفتيها الشهوانيتين ، سأمد يدي الى شعرها ، وأمد يدي للمس ساقيها ، ولكن لن أتعدى حدود لباسها الداخلي ، سأداعب صدرها أيضاً. سأحاول لمس زغب الحلمتين ، وإذا اقتنعت سأحبها وسأحاول أرضاءها ، كنت على استعداد تقبيل كل ما تريده . ))
أحمل صورة بطل هذه القصة وانشرها على وجوه الجنود في المكان الذي خدمت فيه جندية الحرب ، البطرية الثالثة كتبة مدفعية الميدان240 . عندما كان هناك الكثير من مراتب بطريتنا من يفكروا تماما بمثل الطريقة التي يفكر فيها بطل قصة نجم أن يقتل المزيد من الجنود لينال هو فرصة الحصول على أجازه مأمورية ليبتعد عن مسافة الخوف والشظايا وليتمتع بقوام وسيقان البنات وهن يفترشن على الارصفة دلال خطواتهن المثيرة في المدن التي خلت من شبابها الذكور بسبب النفير العام.
ألخص هاجسي وهاجس سعدون بطل القصة ، لأقف على حقيقة ان الحرب في معانها العام والخاص عبارة عن مفارقة ولحظة لم نكن نتخيلها ابدا……!
أجد في عالم نجم والي عالمي ، أنه يشعرك بأنه موجد فيك لهذا ايام الحصار وعبر كتبه المستنسخة ، مشى في دمائنا بخواته السحرية وكأنه يعيد رؤية بوذا في ضوء ارواحنا .دعها شفافة وتتأمل مافي داخلها لتستعيد زمانها الابدي.
قصص نجم تتكلم عن زمن ابدي ، حميمية العلاقة ، ومحلية المشاهد والذروة في الاحساس العاطفي.
شخوصه تراهم في امكنة الجميع ، محطات انتظار الحافلات ، المقاهي ، بيوت الدعارة ، الخنادق الشقية ، بانهوفات البلاد الجرمانية ، كؤوس البافاريا الصفراء ، بيوت القصب والطين. أنه يتفنن وعليك أن تجعل من قراءتك لقصصه فنا ايضا.
لهذا اذهب مع قصص ( ليلة ماري الأخيرة ) وأصل الى قناعة ان الكلمات كما العرق المْسِيحْ تخلق ثمالتها الرائعة ولهذا انت الأن تعبر بخطواتك دون ارتباك من متعة الى اخرى ، تفترق عن جندي المأمورات لتعيش مع جندي من نوع آخر في قصة نجم الموسومة ( الرقصة الأولى) .تشدني هذه الرقصة ، فهي قصة مصائرنا المتكررة التي عرف نجم كيف يضيف اليها فسيفساء كاتدرئيات أرواحنا ، فهو ينجح تماما في صنع الحالة الانسانية التي غالباً ما تأتي بفجيعة وذلك هو ديدن الحرب منذ طروادة وحتى اليوم . نسمع صدى ذلك الوجع في ذكرياتها وخواطر ابطالها ومفارقات ما يحدث لهم .
شباك الحكاية
ينجح نجم في جذبي إليه ، يوقعني في شباكِ الحكاية وبساطتها ، ولكنه في الوقت نفسه يضعنا في تعقيد مشاعرنا ، وربما هو يمتلك المهارة في ارتداء قمصاننا ثم توزيعها على صدورنا منةٍ منه ، فكل حكاياته هي حكاياتنا ، التي عشناها في كل تفاصيلها ، لأجل هذا فأن حكاية (الرقصة ) هي من بعض تلك الحكايات أيام كانت سيارات الأيفا الألمانية وجنود الحانوت يبيعون فيها قناني ( العرق ــ الخمر ) مهربة الى الجنود حتى وهم في الحاجبات الأمامية ونقاط الإنذار المبكر.
فقد كانت الثمالة من بعض مقومات بقاء الجنود وهم يصمدون في وجه الموت وهجمات سرايا البسيج وهم يقتحمون حقول الالغام ليفجروها بأقدامهم غير عابئين بتمزق أجسادهم الى أشلاء وكان جل حلمهم الوصول الى كربلاء.
من تلك الألفة بين الجندي والضابط ( ملهم ) القادم من مدينة الشطرة تلك المدينة الجنوبية الغافية على أديم الغراف يصنع الراوي نجم علاقة عميقة بهواجسها الانسانية في حرب تكون فيها المسافة في العرف العسكري المعتاد بين الضابط والجندي بعيدة جداً.
لكن الرقصة تبعث دفء محبة بين الأثنين لينبئنا نجم في قصصه ما كنت أحسهُ دائما .أنَ الجندي المثقف بينَ أكداسٍ من الخوذ لاتعرف سوى حشو المدافع بالقذائف ، يصبح أنساناً متميزاً ، وربما يتم العناية به في بعض الوحدات.
يعكس بطل القصة وربما هو الجندي ( نجم ) شيئاً من غرامياتنا عبر مشاركة الملازم ملهم استعادة ذكريات تلك الأيام والوجع والنزهات الغرامية وكلها تحمل جمال مشاهدها وشهواتها على انغام أغنيات فيروز عندما كانت أغاني مسرحية ( ميس الريم ) تمثل حافزاً لنا لكرع قنية كاملة من الخمر في جوفنا ومن ثم كتابة قصائد الشعر في سماء ليل لا تضيئه سوى القنابر المضيئة بألوانها الحمر والفسفورية .
قصة ( الرقصة ) سفر من رومانسية شهية أدخلها نجم في ذاكرتي بمهارة من يستلبكَ ليصنع منكَ أنسانين ، الأنسان المحارب في تلك الحرب القديمة ، وآخر يجلس تحت ظل الشجرة الكبيرة في حديقة مدينة زولنكن العامة ، يتخيل مع بطل القصة غراميات ذلك الزمن السريالي ، زمن الحافلات ومزاج العرفاء وعبارة (العجل ياب ) التي نسمعها بخوف من أفواه الآمرين. القصة أنشودة لحكاية تختصر صورة الحرب في الجبهة وفي المدينة ودائما المشترك عند الجنود المثقفين أولئك الذين تعلقوا بعبارة لوركا الشهيرة : أحبكِ هكذا خضراء . يُختصرْ بالمرأةِ العاشقة وقنينة الخمر وبينهما يكون السارد ( نجم ) ليصنع لنا لقطاته السينمائية وأنتشي معها معها وأمازجها بغربتي وثقافة ظهاري الحرب وصوت فيروز في ليل الحنين الى مدنٍ تعيش جزعا من وجع حيطان بيوتها بسبب ألم المسامير التي تثبت فيها لافتات نعي شهداء الحروب لنشاهد في تصاوير القصة اللحظات التي يسردها الجندي في نشوة ليل حانات المواضع الشقية أو حانات ملاجئ إيواء الجنود ، فيكون صوتها وصورتها شيئاً من الذكريات التي يقتات عليها الجنود ليظلوا أحياءً:
((( أوراق الشجر تشبه شعرها ، آه شعرها الطويل الذي فتحته عند فعلة رأس السنة ، هل تعرف كانت تجلس في مقهى السنتر البريطاني وحيدة . لم يصاحبها غير لوركا ، أرى كتاب لوركا على المنضدة عندما أمرق أمامها .كانت تخرج الى الشارع المشجر .أجر أذيالي خلفها ، تصاحبني أبتسامتها .لايمكن أن تنسى تلك الابتسامة ، ستصاحبكَ طوال حياتك .كيف لي أن انساها ؟ شعرها الطويل ، تلتف راقصة في حفلةِ رأس السنة ، في بيتنا ))
قصة الرقصة ثالث قصص كتاب (ليلة ماري الأخيرة ) ولأمنها مليئة بمتعة تذكر ليالي أزمنة الكاكي .
خطوات رموش
هذا القاص الميساني يحفزني لأدفع خطوات رموشي الى أبعد من دائرة (الجوب سنتر والسوسيال ، والأوسلندر آمت ). تلك الدوائر التي تهم تماما حياة المهاجرين في مدن الغرب.
يأخذني مع قصته الى جنوب لم يبقْ منه سوى ذكرى من فقدناهم في الحرب. وربما الملازم ( ملهم ) احدهم وهو يغسل أجفانه المرتعشة بالدم البارد الذي بدأ يسيل من جسده بعد فجيعة واحدة من رصاصات الحرب القادمة الجانب الآخر.
الصورة الأخيرة هي المأساة دائما تغطي بأثواب الدمع الراوي وبطل القصة وأنا لتضي تحت أجفان الجرح صورة لحميمية تلك الرفقة التي نكتسبها من ليل الحرب ونعتبرها واحدة من فضائل تلك اليام القاسية واللذيذة معاً.
يغمض الملازم ملهم عينيه ، لكن القصة تفتح أجفانها على لحظات التمني الايروتيكية لمشهد التمني الذي يسكن خواطر بطل القصة في هذه الرقصة الساحرة:
(( كنت أجلس عند طرف الغرفة ، فيما نسجت الوحدة والخراب شباكها بين الأضواء الساقطة ، حيث رأيت في البعيد ، البعيد غير المعروف ، بنتاً محلولة الشعر ، خصرها نحيف ، خضراء العينين ، ترقص بحماس ، تبتسم لي ، تمد يدها ، تدعوني الى الرقص ، تدور دورتين ، فأدور معها وتختفي )) .
مثل حدائق الغيوم ، أجنيَّ من أمطارها وردة الماء التي كنا نغسل فيها وجوهنا في مدن القصب والسمك والنسيان ، لنسحل في حواضرها أيامنا ، المدن التي نولد فيها وتنضج ذكورتنا أو تلك التي نكمل فيها تعليمنا الجامعي أو نلتحق بثكناتها وجبهاتها جنودا .
وربما مدينة العمارة الذي يغور في جسدها نجم والي في واحدة من قصص ( ليلة ماري الأخيرة ) والموسومة ( المدينة التي أسمها العمارة ) هي واحدة من المدن التي عشت فيها وانا مرتديا قبعة الجيش لنسج معها غراما كتبته في واحد من فصل كتبي بعنوان مديح الى مدينة العمارة . عندما كنت انسج ذكرياتها في هذه المقدمة :
( تقع العمارة في الطرف القصي من جنوب شرق كوكب عطارد، وتحيطها مدن غمرت بالماء والقصب وتواريخ مملكة سومرية قديمة تسمى ( ميسان ) ، حلم مرة الملك المقدوني الإسكندر أن يدك غرورها بسنابك خيله ومنها يستطيع أن يكسر جبروت جيوش كورش فارس ،لكن المنية مسكته من رقبته في بابل ،وظل قادته من بعده يحلمون بميسان ، لكنها أبت أن تكون كما ثمرة الكمثرى في فم مشتهيها ، وكذا هي منذ أن خلقها الله وحتى زمن المجالس المحلية ويافطات الأحزاب الألف ، ومن ذلك التاريخ البعيد للملك المقدوني ما تركته حملة واحد من قادة جيشه البحري المسمى ( نيرخس ) في حملته إلى تلك المناطق عام 325 قبل الميلاد والذي سجل فيها مشاهدته وإعجابه بصلابة سكان تلك المناطق في مقاومة الغزو الأجنبي ،وحتما عرب الأهوار من سكان تلك البطائح هم من أوقفوا حماس الاسكندر في النزول في حملته إلى جنوب بابل ، فهو حتما كان يحلم بضم مواطن الآلهة الأولى إلى ملكه …).
هذه المدينة التي يستفزك فيها السحر الخاص والخفي والمتلاصق تماما لمدن اللحظة الشاسعة في مدى الماء والقصب وأحلام المعدان .
هي مدينة للألفة والحنين حتى عندما يأوي اليها الغرباء من المدن الأخرى ، وربما قصة نجم والي (المدينة التي أسمها العمارة ) تفع في سياق معرفة الغامض في بواطن المدن ، ذلك الاحساس السري الذي يسكننا تجاه المكان الذي نأوي إليه بقدر حياتي ، وربما الجندية واحد من الأقدار الذي كانت فيه العمارة تمد أواصر تلكَ الأصرة الروحية بين الغرباء وليل المدينة.
يتحدث نجم في قصته عن الجندي علي وزميليه الذين يجمعهما قدر الجيش وثكناته في مدينة العمارة ويجمعهم سوية هاجس الهروب من الخوف والدوي القادم من جبهات القتال القريبة يلجأون الى الخمر لنسيان أنهم ربما يكونون خرافا في مذبحة هذا الهوس المجنون في المعارك والصولات والقصف المتبادل. يرسم نجم صورة المدينة من الباطن ولكنه لايغور في اعماقها وتراثها من خلال واحد من ابنائها بل هو يصنع الخيال والانطباع عما تتركه المدينة فينا ، نحن الآتون اليها من امكنة اخرى ، ليلها وغرابة حياتها بهذا الشكل الفطري والاليف لحركة الناس وسعيهم الى ارزاقهم . وينقل لنا هنا واحد من الشخصيات والتحليل لشخصيات قد نتعرض لها في تلك الامكنة الهامشية أثناء خدمة العلم ، ليصبح النائب الضابط الذي يشتري حاجات الجنود الشخصية بأبخس الأثمان من أجل ان يشتروا الخمر لينسوا أن جبهات الحرب تنتظرهم .


















