قصائد السيّاب تباع لشراء دواء يتناوله

ذكرياتي 15

قصائد السيّاب تباع لشراء دواء يتناوله

 عبدالرزاق عبدالواحد

الله أكبر! لا أدري كيف يمكن أن يقارن بين البياتي والسياب.

كان السياب ينوح على العراق (غريباً على الخليج) ،  ومات غريباً عنه .. كانوا يبيعون قصائده لكي يدفعوا بثمنها سعر الدواء الذي كان يتناوله.

حين أقيم تمثاله في العشار.. والغريب أنه وضع بشكل معكوس : ظهره إلى شط العرب ،  ووجهه إلى بنك عبر الشارع!

حين أقامت وزارة الثقافة والإعلام تمثاله قالت مديرة الفنون في الوزارة ،  والتي أشرفت على نصب التمثال : لو دفع لبدر ثمن قاعدة تمثاله لما مات بهذه السرعة !

والبياتي شتم كل بلادٍ ألجأته !.

كان مستشاراً ثقافياً للعراق في سفارته .. تصله رواتب طلبة البعثة بالدولار فيحّولها إلى روبل بالسوق السوداء .. يأخذ ثلثيها ،  ويدفعها بالروبل إلى الطلاب … نقلاً عن ابن خالي أحد طلاب البعثه : منجد عباس عمارة ،  أخو الشاعرة لميعة .

حكى لي سفيرنا في إسبانيا .. قال كنت أسمع البياتي يتحدث على مقربةٍ مني مع أحد مترجمي شعره بإسبانية مكسّرة .. سمعته يقول له :أنا مغضوب علّي من حكومتين .. ولم ينتبه إلى وجودي فقلت له بصوتٍ عالٍ : أبو علي .. هل وصلتك مكرمة الرئيس التي أرسلها أليك أمس ؟ فقال بوجّل (إي نعم وصلت!). سأروي هذه الحادثة  ولاأدري إن كنت قد تعرضت إليها في حديثٍ سابق .

كان من عادة شاعر الأردن الكبير عبد الرحيم عمر أن يقيم أمسية عشاء لضيوف مهرجان جرش من الأدباء والفنانين كل عام . في أحد الأعوام قدمنا أنا ويوسف الصائغ موفدين إلى المهرجان .. حين وصلنا إلى عمان اتصلنا بالسيد أكرم مصاروة مدير المهرجان وأخبرناه بوصولنا ممثلين للعراق في المهرجان فقال : (ولكن البياتي هنا يقول إنه هو الذي يمثل العراق)  فقلت له : (إذا كان لدى البياتي قصيدة يقولها عن العراق ـ وكنا في فترة الحصار الظالمةـ فهو ممثله ،  وإلا فنحن موفدان رسميان لنمثل العراق) .

إتصل أكرم مصاروة بالبياتي فقال 🙁 لا ليس عندي قصيدة ألقيها) فقال له (إذن ممثلا العراق عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ )… فثارت ثائرته .

وأقام عبد الرحيم عمر أمسيته المعروفة ،  وعشاءه العجيب الذي كان يوصي زوجته عند تحضيره أنه يريد ضيوفه المئة أن ينهضوا من الطعام ولايلوح أن أحداً أكل منه شيئاً !. كنا جالسين قرابة مئة شخص  ،  وأقبل البياتي يتعتعه السكر ـ حالما رأني عاد أدراجه إلى مائدة في مدخل الدار .. جلس عليها وطلب خمراً فجيء له بكأس عرق ..

لاحظ الحضور شذوذ تصرف البياتي ،  وعرفوا أن سببه أخذنا صفة تمثيل العراق في المهرجان منه .. فقام إليه شاعر لبناني زجّال مشهور ،  وشخصية بالغة الدماثة . قال : (ياأبا عليّ… أنتم جميعا عراقيون . وبلادكم ممتحنة بحصار جائر ،  ولايجوز أن تبدو عليكم الفرقة أمام الناس هكذا) … وشارك الزّجال اللبناني شاعر أخر من سوريا ،  وسحبا البياتي إلي فنهضت لاستقباله وإذا به يقف أمامي وجهاً لوجه ويقول : (كلاب السلطة )!

ثم ذهب إلى أخر القاعة ،  وجلس إلى جانب فنان ٍ عراقي َّ شهير لايحضرني إسمه الأن . وزوجنه كاتبة القصة ميّ مظفر. توجهت إلى البياتي ووقفت على رأسه فرفع وجهه إليً فبصقت عليه.  إلى هنا وانتهت الجلسة ،  وآنفض المدعوون دون أن يتناولوا العشاء !.

/ ذهبت في عام 1958 بعد ثورة عبد الكريم  قاسم إلى الاتحاد السوفياتي على رأس وفد تربويّ من أربعة مدرسين ومعلمين : أنا صابئي ،  وأثنان من المعلمين مسيحيان .. أقول لهذا السبب سيعرفه القارئ بعد سطور . وقد زرنا طاجكسَتان واستقبلنا إمام أسيا الوسطى .. وعندما علم الناس أننا عراقيون كانوا يمدون أيديهم يتبركون بمّس ملابسنا !

قال لي إمام أسيا الوسطى : (آغاي عبد الواحد .. عندنا قبر وليّ صالح فلنذهب لقراءة سورة الفاتحة على روحه ) فذهبنا جميعا ً معه … قلت (تفضل كن أمامنا) .. قال : (آستغفر الله . أقف أمامك وأنت جاي من العتبات المقدسة ؟!).

وقفت أنا الصابئي إماماً لإمام أسيا الوسطى ،  ووقف المسيحي والسّنّي عن يمينه ويساره ،  وقرأنا سورة الفاتحة على روح الوليّ الصالح !.

لن أنسى غداءٌ أقاموه لنا في أعجب مطعمٍ على وجه الأرض.بستان .. دخلنا فيه فكانت رائحة المشاوي تملأ المكان ولم نجد مكاناً نجلس فيه .. أشجار ضخمة تنتشر في المكان . قالوا 🙁 تفضلوا ) فبقينا ذاهلين 🙁 قلنا أين ؟) .. فأشاروا إلى الأشجار .. كان مسمّراً على جذع كلّ شجرة سلّمٌ حديدي يرقى بصاعده إلى قلب الشجرة حيث توجد منضدة وأربعة كراسي قُدما  عليها الطعام ! … وقدّم معه النبيذ بصورة رائعة.كان أحد أعضاء الوفد رجلاً مسنّاً متعباً وضعنا في عدد لايحصى من المواضيع المحرجة. أخذونا مرة لزيارة معمل لصنع أدوات الحديد .. وكانت فتاة جميلة جالسة خلف آلة لصنع البراغي .. تتطاير من حولها شفرات الحديد ،  قال ،  وأظن أن اسمه مصطفى… قال مصطفى أريد أن أسال الأنسة سؤالاً ..فطلب منها المرافق أن تتلطف بإيقاف الألة ليسألها الضيف ففعلت .. قال لها مصطفى ،  وترجم المرافق ( إنتي بنيّة حلوة .. لو تتزوجّين وتجيبين أطفال تربيهم مو أحسن من هلشغله ؟) .. فقالت 🙁 حتى البزازين يتزوجن ويجيبن أطفال ويربنهم .. أظن أنني أكثر من بزونة !)

وأعظم مرة أحرجنا فيها مصطفى أننا كنا ضيوفاً في موسكو عند نقيب  المعلمين باعتبارنا وفداً تعليمياً . ووزيرة تربية موسكو ،  ولكثرة مايخلق من المشاكل يلتفت إليّ مترجمنا الذي كان اسمه فلاديمير سيكَال . ويستأذنني قبل أن يترجم .. فكانت تثور ثائرة مصطفى وهو يقول : (من حقنه إحنه هم نحجي !).

في تلك الجلسة قال مصطفى عندي كلام أريد أن أوجهه إلى السيدة الوزيرة . نظر إليّ سيكَال . قلت 🙁 ترجم) وإذا بمصطفى يرفع تفاحةً من الصحن الذي أمامه ويقول 🙁 إسمح لي أن أقدم للوزيرة تفاحة أدم لأنها حواء!).

ذعرت أنا وقلت :لاتترجم .. وإذا بمصطفى يحتج احتجاجاً كبيراً وهو يقول : ( إسمحوا لي أفسّر قصدي من هذا القول )،  فالتفت إليّ نقيب المعلمين السوفيت الذي هو أكبر من الوزيرة وظيفةً،  وقال : (إذا يتفضل السيد عضو الوفد بالسماح بترجمة قول السيد عضو الوفد ) فأسقط في يدي … وترجم المترجم !

أمسك نقيب المعلمين سكيناً من سكاكين الفاكهة وقال لمصطفى: (لو كنا في القرون الوسطى لطلبت مبارزتك الأن !).

كان استقبال الإتحاد السوفياتي لنا إستقبالاً استثنائياً لأنناأول وفد يصل إليهم بعد الثورة التي كسرت حلف بغداد الذي كان يشكل طوقاً حول روسيا …

   وكان رئيس الوفد عند السوفييت آنذاك يعامل معاملة استثنائية : غرفة سويت فخمة فيها حتى بيانو وورقة فيها تعليمات بأوقات العزف .. كَرام وعدد كبير من إسطوانات السمفوني .وسرير يغرق الإنسان فيه حتى لايَحس بوجود إنسان عليه إذا تغطّى !

زارتني إلى فندقي الأديبة أللاّكَردسكايا . وهي التي ترجمت شعر البياتي إلى الروسية … قالت :إسمك هذا نعرفه فنحن من إذاعة موسكو العربية قصائد بهذا الإسم فهل أنت نفسه ؟… قلت نعم  قالت: البياتي يقول إن العراق ليس فيه سوى شاعرين : أحدهما يكتب بلغه لايفهمها أحد إسمه الجواهري!.. والبياتي الذي يتغنى صيادو الأسماك في الجنوب بشعره ! .

قلت لها : (عجيب . طليعة الثورة العراقية هم الشعراء . حين أعود لبغداد سأرسل لك ماأستطيع من دواوين شعرائنا )… وفعلاً أرسلت بواسطة السفارة الروسية ببغداد عشرين مجموعه شعريه لشعراء العراق .

من ذكرياتي عن هذه الزيارة أنني أهديت لمرافقنا قلم باركر فأهداني مقابله مجموعة من أسطوانات السمفوني اخترتها بنفسي .

كان اسمه خرولسكي .. حين زارنا بمرافقة وفد إلى العراق أخذته معي إلى السوق لنشتري غداءً لنا وهو معنا رآني كيف أختار اللحم وكمية الكباب التي طلبتها فقال 🙁 أنصحك ألا تفكّر بالمجيء إلى الاتحاد السوفياتي )!

قدمتني إذاعة موسكو العربية في لقاء ،  وصرفوا لي مبلغاً اشتريت به أدوات وأجهزة طبية كاملة لعمليات النسائية لزوجتي ،  وهي طبيبة نسائية ،  حين جلبتها لها قالت 🙁 أنا لااستطيع أن أستعمل هذه الأدوات لأنها لاتصلح للأبقار  ولاللبشر!).

كان انطلاق شهرة البياتي من ترجمات اللاكَروسكايا له في موسكو..وعندما غادر الإتحاد السوفياتي كتب قصيدته سيئة الصيت (أرض العبيد ) يشتم بها الإتحاد السوفياتي !

كانت وزارة التربية قد منحتني أربعين ديناراً للمصاريف الخارجية للوفد،   إشترينا بها مجموعة من حمامات السلام الفضية التي توضع دبوساً في الصدر ،  ومجموعه من صور الزعيم عبد الكريم قاسم جمعناها من الباعة في شوارع بغداد .. حين عدنا طالبتني الوزارة بوصولات صرف الـ 40 ديناراً ولما كان من المستحيل بل من المضحك أن آخذ وصولات من باعة صور الزعيم والحمام ،  فقد اضطررت إلى دفعها .. إستقطعتها الوزارة من راتبي الخاص !

حين قام الجيش العراقي بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف بإنقلاب  عام 1958،  أعيد تعييني بعد أن كنت مفصولاً ونُسَّبت في بغداد ،  ولكنني رفضت . وطلبت تعيني في كركوك لأن أم خالد عُيَّنت فيها !

حين وصلت إلى كركوك أول شيء فعلته أنني وقفت في باب المستشفى ،  حالما خرجت منه الدكتورة سلوى عبد الله ورأتني واقفاً قالت لي في قلبها ـ كما أعترفت هي ـ (هذا فكَري هم جاي وراي )!!

أمسكتها من يدها ،  وأخذتها إلى بيت أقربائنا الذي كانت تنزل معهم فيه ،  وفي صباح اليوم التالي ذهبنا إلى المحكمة وعقدنا هناك .. وكان مؤخر صداقها خمسين ديناراً فقط !

قد تختلط عليّ أزمنة الأحداث ولكنها تبقى صحيحة كأحداث حصلت بالفعل .

في مساء نفس اليوم وصلت أمُّها وأخوها الأصغر حامد إلى كركوك ..جاءت لتمنعها من الزواج منّي … ولكنها وصلت متأخرة .. كنّا عند وصولها قد عقدنا في المحكمة . ولأن أمهّا خالتي إبنة خالة أمي ،  جئت أقبل يدها فتقّيأت عليّ حتى غطّت كلَّ ملابسي بقيئها .. وخرجت أركض بها إلى المستشفى ،  بينما قالت للناس 🙁 حَبْ إيدي ولعبت روحي منّه وزعت!).

بعد عامين صرت أعزَّ أنسبائها عليها ! .. كانت حين نجلس في بيتهم تدور علينا وتوزع القرص نعناع ،  فكانت تعطيني نصف الكمية التي تعطيها لغيري !

عليّ أن أعترف هنا أن أفضال أهل أم خالد علينا كانت كثيرة . قال أخوها نجم لأمّي  ـ رحمة الله عليها ـ( بدل ماتحتارين بعيشة أولادج .أنطيج 18 دينار أشتري بيهن هايشة بيعي حليبها وعيشي آولادج).. قالت له (وإذا ماتت الهايشة ؟) .. قال لها: (ماأريد فلوسها منّج) .

آنذاك كنا أطفالاً .. أذكر أن أمي ّ وقعت ذات صباح ،  وهي تحمل الحليب لبيعه ،  لأن نعلها ،  بعد أن مزَّقت مساميره قدميها ،  غرز في الطين ولم تستطع إخراجه ،  فانسكب الحليب من يدها وعادت باكيةً إلى البيت :

مازلت أذكر كيف قلتِ وأنتِ تخفين الدموع

لم أستطع إخراج رجلي والنَّعال من الوصول

وخشيت أُبطئ في الوصولّ

قد يغضبونْ

إن أرجعوا بيدي الحليب فما عساني أن أقول