علبة سردين تضيء خلاء الأبديّة ـ إسماعيل غزالي

علبة سردين تضيء خلاء الأبديّة ـ إسماعيل غزالي
قناصٌ غريبٌ من جاء بها إلى هذه المفازة أول مرة، وكانت المرة الأخيرة التي شوهد فيها. تبرع بها لأحد رجال جبل الضباب في تخوم الخلاء. وكانت هدية له تثمينا لما أبداه من بسالة ودهاء في رحلة الصيد. حيث كان دليله في تلك الأحراش وخارطة طريقه إلى الوحيش في تلك الفلول الغائرة.
أهداها الرجل بدوره إلى فتاة من قبيلة غير قبيلته وكان قلبه مدنفا مغرما بها حد الوله وأهدتها هي لرجل من قبيلة غير قبيلتها وكان قلبها مدنفا مغرما به حد الجنون.
هذا الرجل الأخير سيهتك عرضها ويزيل عنها غشاءها ذات مساء وهو يستعين بها لاستحلاء مذاق زجاجة خمر رخيصة مُرّة. ولأن غشاءها كان حادا تماما فقد جرحه في أحد أصابعه ونزَّ منه الدم الذي ضرج حجرا على سفح قدميه. بإحدى قدميه هذه ركلها بعد أن أفرغها عن آخرها وكانت مطعمة بمرق طماطم وليست زيتية نباتية.
أحد أطفال المدارس كان مارا مع أخته ذات صباح من المكان إلى مدرستهما النائية فيما وراء جبل الضباب، عثر عليها فارغة وأخذ يتهجى الأرقام والعناوين والمعلومات المكتوبة على حواشيها وفي أسفلها
سمك إسقمري بالطماطم
يستهلك قبل 18ــ10ــ 1975
بينما أخته تثير انتباهه إلى الدم المراق على الحجر.
أراهن أنه دم قبرة. قالت له.
وما أدراك أنه ليس دم بكارة افتُضّت البارحة؟ ؟ قال لها نكاية ثم دسّها في محفظته وواصل الطريق وأخته بخطى حثيثة في طلب العلم صوب المدرسة الأبعد من الصين.
عند رجوعه إلى قريته مساء صنع منها شاحنة وجعل لها عجلات من السلك الذي يلفف مصطبات التبن وحشر فيها كل فلاحي قريته المصنوعين من الطين وسافر بهم إلى سوق المدينة الأبعد من مدرسته أضعاف المرات.
فصلها عن عجلات السلك راعي ضأنٍ مع الفجر وذهب بها إلى الوادي الفسيح وقد جعل منها وعاء لشرب شايه المعسل وأيضا لمورد ماء العين.
سها عنها باله في الظهيرة وكان قد سارع إلى لمِّ شتاتِ القطيع إثر عاصفة رعدية وهرع وراء خرفانه بغرض الاحتماء في مغارة عند سفح جبل الضباب.
بانهمار المطر الشرس طفت العلبةُ في المياه التي سحبتها بعيدا مع تيار الواد الذي تشكل لتوه من رذاذ العاصفة.
غمرها الطين لزمن ليس بالقصير حتى حفرت عنها امرأة عجوز وكانت تقتلع البصل البري من أجل أن تبيعه في سوق المدينة النائية. البصل البري الذي يبتاعه منها تجار صغار ليبيعوه بدورهم إلى شركة مجهولة لصنع الصابون.
نفضت عنها الطين وغسلتها بالماء ثم ألقت بها خارج الأخدود الآسن.
بعدها بأيام وشهور زحزحتها الرياح وتقاذفتها أقدام المواشي والبهائم حتى استقرت على قارعة طريق.
امتدت إليها يد مشرد عابر للمكان وفصل عنها غشاءها الحاد ونحر به دجاجة سرقها لتوه من ضاحية غير بعيدة ولم يأبه للصدأ الذي يعرشها وسارع بصنع أثافي من حجر أبيض وأشعل نارا فيها وحين أجمرت شرع في شيِّها.
ذات صباح تشممها كلب أجرب وحملها بفمه جهة صبار ثم رفع رجله الخلفية وتبول عليها.
في نفس الصباح التقط صاحب الكلب الأجرب غشاءها الذي فصله عنها المشرد، لص الدجاجة وصار به إلى باب زريبته ثم دقه بمسامير ليلحم بين لوحين في باب الخشب.
انصرم على ذلك أكثر من يوم وشهر ثم طالتها يد بنت صاحب الكلب الأجرب ذات عشية وملأتها بمسحوق للغسيل أعطته لصديقة لها على الصهريج.
بعد أن انتهت صديقتها من غسيل الأسرة ألقت بالعلبة داخل الصهريج.
الصهريج الذي أتاه بعض الحصادين مساء للاستحمام فداس أحدهم على العلبة في قعر المياه وصرخ من ألم الجرح الذي أحدثه ذلك في أخمص قدمه. فحص الأمر وفصل حاشية العلبة اللصيقة بقدمه ثم ألقى بها بعيداً وهو يلعن
يا بنت الكلب.
في اليوم الموالي عثر عليها أطفال جاؤوا مع أمهاتهم لدق الصوف على حواشي الصهريج وجعلوا منها كرة تقاذفوها على طول النهار وانفضوا عنها مع أفول الشمس.
أحد هؤلاء الأطفال حملها في جرابه ذات فجر وهو يركب في العربة التي يسحبها جرار مهترئ صوب سوق المدينة النائية.
تعطل الجرار الذي طفق يسعل على سفح جبل الضباب ولم يقدر للطفل زيارة المدينة فأخرج العلبة ورمى بها جهة الجبل كما لو كانت السبب اللعين في عدم اكتمال الرحلة.
ظلت لشهور طوال على سفح جبل الضباب تلمع في قيظ الظهائر كما لو كانت تضيء خلاء الأبدية حتى عثر عليها الرجل الأول الذي أهديت له من سنتين ونيف. تأملها بإمعان وقد عرش الصدأ أغلب حواشيها ولم يبق من كتابتها وأرقامها إلا
سم.. قم.. طم
تذكَّر أنَّ التي أحبها تزوجت شهر 7 أي يوليوز وكان قد أهدى إليها علبة سمك من نوع الإسقمري كهذه من سنتين أو ثلاث، تلك التي أهداه إياها القناص الغريب الذي لم يزر جبل الضباب إلا مرة واحدة.
رسم ابتسامة وشرع في دق العلبة بحجر على حجر حتى جعل منها كرة صغيرة بخرم أثبت فيه خيط صنارة رفيع.
فالرجل ارتد عن حب القنص أو مصاحبة القناصين بالأحرى وتحول إلى اعتناق حب آخر هو صيد السمك.
AZP09

مشاركة