كلام أبيض
شكو ماكو ؟ – جليل وادي
بابتسامة لطيفة ووجه بشوش سألني ضابط التأشيرات في مطار دبي بلهجة يريدها ان تكون عراقية ( شكو ما كو ؟ ) ، وبرغم القلق الذي ينتابي كالكثير من العراقيين عندما يكونوا بمواجهة ضباط التأشيرات ، اذ غالبا ما يراودهم هاجس باحتمال ان تصادفهم مشكلة من تلك التي يصفونها بـ ( التائهات ) ، أجبته بابتسامة مماثلة بأن ( الشكو ) تعرفونه ، لكن ( الماكو ) كثير ولا يتسع المجال لذكره ، فرد عليّ بعبارة عراقية اخرى ( هلا بيك عيني ) ، بينما كانت نظراته تتنقل بين وجهي والحاسوب الذي أمامه . العراقيون والشاميون يتميزون بهذا السؤال عن غيرهم من الشعوب وان اختلفت صيغته ، ففي بلاد الشام يسألونك ( شو في ، ما في ؟ ) ، وبهما يبحث السائل عن اجابة ليس للذي موجود ، بل والذي غير موجود ، او الذي وقع والذي لم يقع بعد بالترجمة الحرفية للسؤال . لا أظن ان هذا السؤال جاء اعتباطا في حياة العراقيين، فحاله كالأمثال التي هي خلاصة تجربة ثرية عاشتها المجتمعات خلال مئات السنين وربما الآلاف ، فصقلها التداول وجعلها صالحة للاستخدام في كل زمان ومكان ، والأمر نفسه ينطبق على عبارات معينة أصبحت لازمة كلامية في أحاديث الناس ، فما ان تلتقي عراقيا الا وبادرك بعد السلام بالسؤال المعهود ( شكو ، ما كو ؟ ) . أثار هذا السؤال العديد من الكتاب ، وبعضهم أسماء لامعة ، وحاولوا ايجاد تفسيرات لفحواه ، فقد ذكر الدكتور كامل خورشيد بأن جذوره ضاربة في عمق التاريخ العراقي عندما ربطه بحضارة الأكديين والسومريين ، وهو ما أكده الكاتب المبدع خالد القشطيني بنسبته الى البابليين، لكنه رجح أنه يعود لفترة العصر العباسي ، اذ وردت كلمات السؤال في اغنية للموسيقي والمطرب الشهير زرياب ، وفي جميع الكتابات التي تناولته اختلطت فيها الجد بالهزل ، وربما أعذرهم في هذا التناول ، ذلك ان من السهل ان تكتب بطريقة ساخرة عن موضوعات جادة ، لكن من الصعب ان تكتب باسلوب جاد عن موضوعات طريفة. طرافة السؤال وغرابته جعلته اسما للكثير من مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع الالكترونية ، محاولين فيها الاجابة عن (الماكو) وليس عن ( الأكو) ، وكأن أصحابها يريدون القول ان الأسرار تجدونها في هذه المواقع وليس في سواها. ليس بوسعي الوقوف على اصول هذا السؤال ، لكنه من دون شك يحتل موقعا متقدما في اللهجة المتداولة ، بشكل تحول فيه الى عبارة تكشف عن سمة عُرف بها العراقيون ، ويبدو لي اذا صح تفسيري للسؤال انه ينطوي على دلالات عميقة ومأساوية ، ويستند تفسيري الى تشخيصات عالم الاجتماع الشهير على الوردي للشخصية العراقية ، فأغلب سماتها غير المرغوب بها مكتسبة وليست متأصلة فيها ، وهي حصيلة واقع فرض على الشخصية ان تكون بهذا الشكل ، والعوامل المؤثرة في الواقع العراقي عديدة ، وأولها العامل السياسي الذي كان حاسما طوال التاريخ ، ولذلك كانت السياسة تشغل جُل أوقات العراقيين ، ولم يحدث الا ما ندر ان توافق العراقيون مع السلطة الحاكمة التي غالبا ما اتخذت من البطش اسلوبا لإدارة البلاد ، ما جعل العراقي شخصيتين بجسد واحد ، وله رأيان ، أحدهما معلن وفي الغالب لا يؤمن به ، والآخر مخفي ويمثل اتجاهه الحقيقي ، وعليه فان السؤال (شكو ماكو) يعني (المعلن والخفي) ، ولذلك يأتي الحديث عن الحاكم ضمن المخفي من الآراء ، وللثقاة من الصَحب تحديدا ، فالمصائب (التائهة وغير التائهة ) تأتيك من الحكام الذين يتعذر وصف شغفهم بالسلطة ، فأوهمتهم ان (الأكو) تعني ( الماكو ) ايضا ، وفي لحظة يُصدمون ، فينتهون الى الموت سحلا او شنقا او رميا بالرصاص ، ويتبين لاحقا ان (الماكو) لدى العراقيين أكثر من ( الأكو) .
[مقالات, طبعة العراق]