نص
سلاماً يا ولدي.. بل سلاماً يا وطني
ماركريت خاميس
لا ادري لماذا بدت كلماته وكانها تخترق جدار أمني النفسي الذي شيدته حولي لاكثر من عقد! وكيف اجتاز سؤال برئ كل مساحة الوجع التي رسمتها مخالب الغربة في حياتي!
جاء السؤال مباغتا.. مفاجئا.. زلزل ذلك الهدوء الذي يطوق مشاعري.. فزمن الجدل والتحدي والمراهنة على صدق النية.. زمن المخاطرة والمغامرة لم يعد يصلح لجرح قلبي المفتوح منذ زمان بعيد !
جاء السؤال مشحونا بلهجة طلب رقيقة.. لطيفة
– سيدتي.. لماذا لا تعودي الى الكتابة ؟!
الكتابة ؟! ماذا اكتب؟
– اكتبي اي شئ.. فأنا اعرف ان لك مع القلم صولات وجولات!
ابدا.. ارجوك لا تحرك في املا يحملني الى هذا العالم الذي غادرته منذ عشر سنوات.. فيما جرح الكلمات مازالت اثاره ناتئه على شغاف قلبي !
– اكتبي سطرا.. سطرين.. جمله..!
لا استطيع !
عاود مجددا وبكثير من الصدق
– سيدتي لماذا لا تعودي للكتابة.. الم تشعري بالحنين لسطورك تلك التي غطت لسنوات طويلة مساحات أثيرة في مسيرة حياتك ؟
وحاولت ان الملم نفسي مجددا.. ماذا اكتب.. الم تعرف اني ما جندت قلمي يوما الا ليكتب للوطن.. وما خصصت مساحات قلبي الا لتحتضن حب الوطن.. واليوم اين انا واين الوطن؟!
الم تعرف ان الغربة قد جففت الحبر في القلم… وخلفت المسافات البعيدة بلادة في المشاعر.. واخضعت العقل لجدول صارم.. وفهو غير مسموح له ان يتحرك بافكاره ليسأل عن طريق العودة للوطن ! للانتماء !
– نعم.. اكتبي عن الوطن.. اكتبي للوطن !
ماذا اكتب للوطن هل اقول سلاما لمكان ما عاد مكاني ولزمان لم يعد زماني.. سلاما لوطن ما عاد وطني !
– بل هو وطنك !!
كيف وانا لم يتبق لي من الوطن سوى ذلك الجواز الذي حرصت على ان احتفظ به.. وصورة باهتة في شهادة الجنسية ربما تستطيع يوما ان تستدل على انتمائي حين ادفن في قبر على مساحة من ارض الغربة !
لا استطيع ان اكتب لقد غادرت الكتابة بقرار.. بعدما عجز القلب عن مداواة جراح طعنات الغدر التي وجهت لصدر وطني.. لينتهي نزيفها في شريان قلبي.. بل في قلب كل العراقيين.. في قلب اهلي الطيبين.
غادرت الكتابة حين اجتاح هولاكو مجددا ارضنا الطيبة.. وحين مزقوا بكثير من الحقد مواطنتي اشلاءا !
لا اريد ان اكتب.. لا اريد ان انكأ جروح الوطن مجددا وما اكثرها !
– بل يجب ان تكتبي لنداوي بعض تلك الجروح
ومن سيسمع صوت الكلمة الخافت ؟ والاصوات ها هناك تجهر ليل نهار تتسارع في الدعوة لأقتسام الغنائم وسط مزاد علني كبير.. اصوات تخترق المسامع لتتجاوز كل الحدود ما بين ضفتي دجلة والفرات.
– ابدأي بحرف.. بسطر.. سطرين.. او اكتبي لي! !
اعتبريني انا الوطن واكتبي لي.. اكتبي لأبنك فأنا فعلا اشعر انك امي !
اه يا قلبي..كيف يجتمع كل هذا الوجع ليحط بخطواته على عتبتك؟!
اه يا قلبي.. كم مرة غيرت عنوانك.. وكم من المسافات اجتزت لتبعد اكثر.. تغلق كل ابوابك.. ولكن في غفلة من الزمن يطرق بابك فأذا بالوطن يبتسم عند العتبة!!
هيا يا قلب فالعهد لابد ان نفيه للوطن !
هيا ياقلم..بل هيا ياقلب نكتب للوطن.. نكتب لأبني.. لولدي العزيزسيف.. لهذا العراقي الوفي.
يا وجعي يا ابني.. لا تعرف كم من الشرف تحيطني به وانت تردد اعتبريني ابنا لك.. وكم من الفخر احسه.. ولكن كم من المسؤولية تحملني !!
يا ايها السيف العراقي.. يا ابني.. اليوم اتطلع الى قامتك فتتوالى الأسئلة !
واقولها بصدق.. حين انظر في وجهك لا اسأل هل تليق بي لأكون امك؟! بل اسأل هل اليق أنا ان اكون اما لهذا الأبن البار؟!
نعم سأكتب لأبني لذلك العراقي الذي ما زال قادرا ليحرك الأمل في اعماقنا.. وما زال قادرا ليشعل شمعة تنير طريق العودة الى الوطن.. الى الأنتماء.
هيا يا قلب.. اكتب.. بماذا تراك ستعتذر؟ ألم ترى كيف يتفحص سيف ملامحي فهو يبحث من خلالها عن وجه امه.. ألا تراه كيف يصغي لكلماتي بدقة.. فيما هو يستجدي فيها صوت امه الحنون.. ألم تفهم يا قلب بعد!
سيف اليوم يحتاج الى الأم اكثر من اي يوم اخر.. فهو قد عجز على ان يحكي حكايته لأم غادرته مبكرا.
اه يا قلب.. اعرف ان تلك المهمة صعبة.. ولكن متى كانت الصعاب تثنيك عن الخفقان ؟!
وتقول لي ان الطلب غال!! ألم تعرف بعد ان الطالب اغلى!! هل هناك اغلى من الأبن.. بل هل هناك اغلى من الوطن؟!
لا تتأوه يا قلب.. هيا اكتب
لكني لا اريد ان انكأ جرح هذا الشاب الكريم مثلما لا اريد ان انكأ جرح الوطن العزيز.
ربما.. ولكن ألا تعرف ان الكي احيانا يكون هو الدواء الشافي!
كيف ابدأ يا سيف.. ماذا اقول؟!
ماذا اكتب.. وخيالي يسير بي الى لحظات لا استطيع ان اتحمل مقدار ألمها!! يوم غرز الموت مخالبه اللئيمة في قلب ام لم تكتفي من امومتها بعد!! ويوم اثقل قلبك الصغير وجعا فقدان الحنان.. فلا احد سمع صراخك وانت تقول كيف تنتهي بهذه السرعة مواسم الحنان.. فأنا ما زلت صغيرا!!
اه يا وجعي.. اه يا ابني.. أنا اعرف انك ما زلت تتذكر يوم شدوا بقوة اناملك الغضة الممسكة بالأمومة في صدر أمك بعيدا!! وانت تصرخ دون صوت.. لكني ما زلت صغيرا.
اه يا وجعي.. ما له عقلي يخرج من سباته.. وقلبي تهاجمه الغصة وانا اتخيل طفلا صغيرا ضعيفا يحمل بعيدا عن ابيه.. ومن ثم بعيدا عن أمه.. فالموت قد حل في الديار مبكرا ودون استئذان.. موت وألم ومن ثم غربة تتقاذف حياة لا حول لها ولا قوة.. اليوم هل يستطيع اي انسان ان يرسم حدودا لذلك الألم وذلك الوجع.. ويدخله في جدول للزمان.. كم يوم دام.. كم شهر.. بل كم سنة استمرت مواسم الحزن هذه؟!
اليوم.. ارفع رأسي وأنظر في وجه ابني.. شابا جميلا.. تملئ المحبة قلبه.. ويزين عقله حكمة ثلاثة عقود من الزمن الصعب.. ولكن ما زال خيالي يسير.. كم صرخت في تلك الليالي الموحشة المظلمة مستدعيا وجه أمك.. هيا يا أمي أنا بحاجة أليك.. هيا يا أمي وأحسبي عدد المرات التي غدر بي الزمان.. كم مرة شدت الحياة بطوق انانيتها وظلمتها على جوانب قلبك الطيب؟!
وتصيح.. أنا احتاجك يا أمي!!
مشيت خطوات تقطع بسنواتها الطرق من مكان الى اخر.. تستجمع القوة من مكامنها.. بالدراسة والأجتهاد مرة..بالعمل والكفاح وبحافز الحرمان من اغلى انسان تشد سواعدك كل مرة.. تسقط.. تنهض.. تنجح.. ثم يتربص بك الفشل.. وتصيح..أبدا لن أكون إلا ابن أمي الغالية.. فتنهض مجددا تنفض عنك بقايا شظايا الزمن الغادر.. وبقايا الظلم المغروسة في ثنايا صدرك.
وتصيح مجددا.. هيا يا أمي.. فاليوم انا بحاجة لأناملك الجميلة لتوقع شهادة نجاحي فقد اجتزت كل الأمتحانات بتفوق!! أحتاجك يا أمي.. ترى مع من اتقاسم هذا النجاح ومن غيرك يفرح لنجاحي!!
وتسير الخطوات سنوات تليها اخرى.. تتقاذفك مدن الغربة.. وتقيس الأرصفة الباردة ثقل خطواتك.
وتصيح مجددا.. هيا يا أمي أنا بحاجة إليك.. فخنجر الغدر هذه المرة بدا ساما لوث صفاء روحي.. فالحبيبة ما كانت حبيبة بل طعنة لئيمة ساومت على صدق مشاعري وطيبة قلبي.. وخلفت الحقد في خطواتها وهي مبتعدة عني!!
اه يا أمي عن ما ذا أكلمك بعد؟ عن غدر الأهل والأحبة.. عن غدر الأصدقاء.. أم غدر حياة لا تكتمل إلا بك؟!
هيا يا أمي علميني كيف افرح بنجاحي وأنا لا أجد من يهمه نجاحي.. مع من اتقاسم لحظات الفرح؟ مع وحدتي أم مع غربتي!!بل اخبريني من سيضع يده على جرح نازف.. كيف سيشفى الجرح وانا اعرف ان بين يديك كان البلسم الشافي!
قولي لي يا أمي ماذا افعل لأستدعيك.. اني غاضب من نفسي.. فكلما سارت بي السنون وابتعد وجهك عن ذاكرتي اغضب من نفسي فهل سيأتي يوما انسى فيه ملامحك ولا استطيع قياس دورة وجهك.. هل يمكن ان انسى لون عينيك.. اه يا أمي كم هو الظلام دامس.. وكم هو نور عينيك بعيد!!
يا أمي.. لا اريد ان اشكو.. لكني متعب جدا.. فطوال سنواتي الثلاثين.. لا تعرفين كم من الصعاب ذللت وكم من الأشواك قلعت عن الطريق وهو يتقاذفني من مكان إلى اخر.. كم من الدموع ذرفت حين اجتاحني برد الوحشة وأنا اعرف ان حضنك الدافئ لم يعد يستوعبني! وتقولي لي أنا اشعر بك.. أنا فخورة بك.. لقد تفوقت يا أبني.. وها أنت تنتزع مكانا مرموقا من قبضة الزمن القاسي.. فأقول نعم يا أمي لكني ما زلت بحاجة إليك.
هيا يا قلم.. هيا يا قلب.. ألا تسمع صوت سيف ينادي أمه مجددا..هيا اسمع……….
هيا يا أمي ارجوك اتوسل أن تبقي معي قليلا.. فها هو الليل يسدل ستاره على نوافذ غرفتي.. والوحدة تجتاح أرجاء روحي.. والوحشة تنام على سريري وتحتل رفوف مكتبي.. هيا يا أمي احتاج لمن يكلمني فالليل طويل طويل والفجر كم هو بعيد!
ماذا بك يا ولدي.. ما للحزن يعبث بنبضاتك.. لا تدع الخيبة تنال من الأمل في قلبك..
لا تجزع يا أبني هيا دعني اتلمس جبينك ألذي ما انحنى ابدا.. فجبين الوطن ما انحنى يوما إلا من اجل التقبيل!
أوصيك حبيبي.. كلما ضاقت بك مدن الغربة ادر برأسك شرقا فيأتيك صوتا عذبا دافئا.. ليقول ها انا العراق باق هنا امنح لأحبتي ما يحتاجون وابعث لأهلي اشرعة ليبحروا على ضفاف دجلتي وفراتي.
ها أنا انتظركم اليوم وغدا وعلى مر كل الدهور!
هيا يا أبني اغمض جفونك ونم قرير العين فشمس الغد لابد أن تبدد ظلمة ليلك.
وانت يا قلم هيا اسكت.. يا قلب اهدأ.. فقد حل النوم سلطانا على جفون إبني الحبيب!!