قصة قصيرة
سقوط – نصوص – مزهر جبر الساعدي
قبل أيام عدنا إلى بغداد، بعد الظهر. قبل يوم، أمس، في الصباح، غادرت شتاين إلى أمريكا.تاركة ورائها، منها في الفضاء حولي ، دموع لا تنقطع أبداً.
تجبرني مؤثراتي النابعة مني، بالكتابة عن لغز اختفاء ببيانو، زوج شتاين، الطيار الأمريكي من أصل تشيلي. أغور داخلي بصعوبة، لأن الليل وحش ، يطبق علىَّ في شقتي ، المطلة على المقبرة، سكاكينه تنغرز في بدني ، بعد أن تشق جلدي، ثم بعد لحظة، تصعد آهات روحي من شغاف قلبي، تخترق أضلاع صدري ، الى السقف والجدران المحيطة بي، والتي تعيدها بعد أن تصطدم بها الى عقلي .
ـــ من المسبب أسألني ؟…
تتشابك الرؤى والخيالات والوقائع المفجعة في دماغي ، ينبثق شعاع من عيوني ، يصعد بخط مائل الى النجوم الملونة بالرماد، فوق المقبرة ، قتامة النجوم ، ترسل نحوي ، إلى روحي، عواء ذئاب،يضخ في روحي ، ألم وقسوة ممكنة الاحتمال ، لأن الناس حولي ، أستدعيهم من نهاراتي ،وهم يقتنصون ساعات الفرح، مُتَحَدون ما هم فيه.
أصحوا من كابوس يقظتي ، تختفي الاشتباكات من عقلي ، يصفوا بعض الشيء، يزداد تركيزي على موضوعي الذي أنتويت أن أكتبه.
ابدأ:ــ عندما فتحت أنا الموضوع مع الحاج عبطان ، كنت أنظر الى وجه شتاين ، بدا لي مثل ليل في غابة ، غارقة في ذاتها . أعرفها من عشرتي معها.
تتعارك عيونها ومعالم وجهها ، كأنها في صراع مع شخص آخر غير مرئي ، تبحث عن إجابة لسؤال، يسحق روحها .
قلت:ــ حاج نحن هنا ، نبحث عن مصير طيار امريكي من أصل تشيلي ، سقطت طائرته في هذه الأصقاع .
أجابني :ــ أسترسل في الإجابة والشرح لفترة كعادة أهل ميسان ، أصغيت له باهتمام ، معي استمعت له الأستاذة النخلة وجهاد وشتاين. أستلزم الأمر مني بعد أن أنتهى، أن أترجم قوله إلى شتاين ، أصفن لدقائق بين جملة وأخرى ، أختار خلالها المفردات العربية ، الكفيلة بنقل المعلومات دون أن أهمل أي منها. في البداية نقلت مستهل حديث الحاج أليها :ــ أن الامريكيين محتلون…… الى أن قال :ــ سقطت الطائرة في ليلة مظلمة ، على مقربة من هنا ، من القرية، لهيب هائل، تصاعد منها الى السماء ، ركضنا، إلى موقع تحطمها ، وقفنا على بعد معقول من كتلة النار الهائلة ، انتظرنا إلى أن خمدت النار، لم نر سوى حديد الطائرة المتفحم ، فتشنا عن الطيار بين الحطام ، على ضوء أجهزة أنارة يدوية وصغيرة، تعمل بالبطاريات، جلبناها معنا، عندما خرجنا، لم نر له أي أثر ، لم يكن فيها . بعد أيام ، جاء الأمريكيون ،فتشوا في كل مكان ، على طول الطريق وحوله، لم يعثروا عليه، على الجثة، الأمريكيون قبل أن يأتوا إلى هنا، فتشوا في أمكنة أخرى، على مبعدة من هذا المكان، إلى الشمال منه، قرب الحدود، وقرب وحول شركات النفط، أيضاً لم يعثروا عليه.
يبقى أمر مهم ، يثير الشك في عدم أكتمال الاجراءات بحث الشركة التي تقوم بإنشاء طريق سريع ، ذكرته قبل لحظة ، عابر للحدود، إلى هنالك، إلى الشرق. الطريق وقت سقوط الطائرة ، كان قيد الأنشاء ، في طور التعلية الترابية . في مسار الطريق ، على بعد ثلاث كيلومترات من تحطم الطائرة ، حفرة عميقة جداً ، مملؤة بالماء والنفط، أحدثها صاروخ أثناء الغزو ، الحفرة في ذلك الوقت، بعد يوم من سقوط الصاروخ، في الظهيرة والحرب مستمرة، أنا وقفت على الحافة منها، لم أر لهاقاع، كانت عبارة عن هوه فارغة وغائرة في عمق الأرض بطريقة لا تصدق ، بعد أيام ، في طريقي لقضاء حاجة تخصني ، مررت بها ، عاودت النظر إليها، رأيت في القعر منها، الماء والنفط. ذلك كان قبل ليلة سقوط الطائرة بسنين.في الليلة التالية ، لليلة تحطم الطائرة، بعد العشاء، في طريقي إلى بيت أبن عمي، عندما مررت بالحفرة، تخيلته، الرجل يسبح بين الماء والنفط، ذلك أستفز عقلي وقلبي، فأقلقني شكي وألمني، لأنه لا يمكن ترك الآدمي بين الطين والماء والنفط، بلا دفن يليق به، رغم كونه محتلاً، محتل مهما كانت الأسباب. قضيت الليل حتى العاشرة في بيت أبن عمي، بيته في الطرف البعيد من القرية، من جهة الشرق. لحل مشكلة كانت بينه وبين أخيه. عندما رجعت إلى بيتي، دخلت المضيف، جماعتي فيه، في إنتظاري. بعد أن أسترحت قليلاً، سألوني عن المشكلة، أجبتهم أنتهت على خير. قلت لهم من دون أن أوضح:ـ لنذهب إلى الحفرة ، على ضوء أجهزة الإنارة اليدوية الصغيرة ، نظرنا في سطح الماء والنفط، لم نر أي شيء، هذا لا يعني شيء ، لأن الإنارة ضعيفة والليل مظلم . في صبيحة اليوم التالي أبلغت أحد المهندسين العاملين في الشركة بهواجسي وشكوكي، بينت له، وهو على علم بفقدان الطيار، ربما تكون الجثة في الحفرة، أنغرزت في لب التربة اللزجة، أندفنت تحت القاع، تماسك حولها الطين والنفط، صارت جزءاً من تربة القعر النفطية والطينية. فما كان منه إلا أن جاء بعد ساعة لا أكثر بفريق بحث من الشركة، بحثوا في عمق الحفرة مدوا اشياش طويلة جداً من الحديد، مكونة من ثلاث أو أربع أشياش لحمت مع بعضها بكامل طولها حتى وصلت إلى القعر. بحثوابها عن الجثة، كرروا المحاولة لمرات كثيرة، من الصعوبة أحصائها. لم تصطدم في أي شيء آدمي من اللحم والدم أو من العظام لأنهم دببوا نهاياتها، صارت كسكين. بعد أنتهاء المحاولة بالفشل. إذ مع كل مرة عندما يرفعون نهايات أعمدة الحديد لم يكن فيها من أثر إلا الطين والنفط. سمعت أحد المهندسين، هو عينه من أبلغته:ــ أن الجثة حتماً أندفنت في قاع الحفرة، تحت الطين المنفط. يمكنني بفعل خبرتي في الطيران، خلال الحرب الأيرانية العراقية، دخلت في ذلك الوقت دورة خاصة في حماية وتهيئة الطائرات، بالأضافة إلى أختصاصي كمهندس، ميكانيك معدات، بتقدير المسافة بين حطام الطائرة والحفرة، بإمكاني أن أوكد لكم أن مظلة الأنقاذ لم تنفتح، بسبب عطل فيها أو أن الطيار أُخِذَ على حين غرة، فلم يتمكن من أستخدامها. سقط من الشاهق الذي هو فيه، أندفع إلى بطن الحفرة، غطس في جوف طينها النفطي. عليه من الواجب أن نقوم بتحطيم الحفرة، نحفر من أحد جوانبها حتى لو كانت بعمق أكثر من عشر أمتار، لأني واثق بأن الجثة فيها. بعد أنصراف فريق البحث، ظل مكانه، يتأمل الحفرة، أقتربت منه، لم أسأله، هو قال:ــ لم يأخذوا بإقتراحي، رفضوه. قالوا :ــ إنها توهيمات لا يسندها الواقع. عندما جاء الامريكيون بعد أيام كما أسلفت قبل لحظات، للأسف لم يبذلوا أي جهد، أقتنعوا برأي الشركة، لم يعطوا الأمر أي أهمية، لم يتعبوا أنفسهم في الحفر. هناك أسباب، حالت بينهم وبين الحفر، تتلخص:ــ قبل سقوط الطائرة ، قبل أيام، أنتهوا من رسم مسار الطريق . ومن ثم بدأت الآلات شق الطريق والتعلية الترابية معاً ، لكنهم لم يصلوا إلى الحفرة وقت تحطم الطائرة .
عند حظور الأمريكان، الحفرة، حدلت بالأتربة قبل مجيئهم بإيام. هم لم يعيروا أهمية لها كما أوضحت.
ــ ماذا؟
ــ طبعاً بالإمكان رفع الأتربة والتأكد من خلوها من جثة الطيار .
ــ من المسؤول ؟ .. الشركة أو الأمريكان من ؟..
ــ الأمر متروك لكِ، بإمكانك مسألتهم، أعني الأمريكان.
المهم، الموضوع في حكم المنتهي، الطريق الآن معبدة بالأسفلت ، قبل الأسفلت بالصب الخرساني ، لأن الأرض رخوة ، فيها مياه ، هي على مقربة من الأهوار والطريق تسير علية شاحنات عملاقة محملة بالبضائع.


















